الخلاض والفداء ح2


عباس علي العلي
2021 / 5 / 12 - 01:33     

خلاصة قضية الخلاص بكل تفرعاتها ومقدماتها جاءت اساسا لتبرير حالة سلبية مارسها اليهود ضد شخص النبي عيسى عليه السلام من خلال دس كتابات وأفكار لتبرير الفعل الشاذ من فئة كانت تعد نفسها ابناء الله وأحباءه، وعندما أدركت حجم الخطيئة التي أرتكبت منهم عمدوا إلى التبريرات ليس كفرانا عن الذنب والخطيئة، بل لمزيد من الإيغال في الهاوية التي وضعوا بها أنصار السيد المسيح، فالتأثير اليهودي في الفكر المسيحي لا يتجلى فقط في أعتماد العهد الجديد على مدونات العهد القديم، ولكن أيضا من خلال دور اليهود المتحولين للمسيحية لكي يعيدوا صياغة الفكر وبناء أفكار ورؤى تزيد من الأبتعاد بين أصل الرسالة التي جاء بها المسيح مع ما يريدون، يرى إد باريش ساندرز، أحد أبرز دارسي يسوع التاريخي، أن الأناجيل الإزائية تحتوي على عدة أحداث تطابق بوضوح أحداث وُصفت عن يسوع بالتي للأنبياء في الكتاب العبري، يذكر ساندرز أنه من المستحيل أن نعرف يقينًا، في بعض هذه الحالات، ما إذا كان السبب في هذه التشابهات هو اقتداء يسوع التاريخي نفسه، عن عمد، بالأنبياء العبرانيين، أم هو اختلاق مسيحي في وقت لاحق لقصص أسطورية تعطي صورة عن يسوع كواحد منهم. لكن من الواضح أن أوجه التشابه في حالات كثيرة أخرى من صنع كتّاب الأناجيل. إذ استهدف كاتب إنجيل متي على وجه الخصوص إظهار يسوع عمدًا على أنه «موسى الجديد».
فما رواه متى عن محاولة هيرودس قتل الطفل يسوع، وهروب عائلة يسوع إلى مصر، ثم عودتهم إلى اليهودية هي روايات خرافية مبنية على سفر الخروج الذي في التوراة، بحسب إنجيل متى، ألقى يسوع العظة على الجبل محاكاةً لشريعة موسى التي استلمها فوق جبل سيناء (طور سيناء)، وفقًا لعالِمي العهد الجديد غيرد ثيسن وأنيت ميرز، أن يسوع علم بالتعاليم المحفوظة في الموعظة على الجبل حقًا بنفسه في مناسبات مختلفة ولم تُقال أصلًا في مناسبة بعينها، لكن كاتب إنجيل متى جمّعهم في تكوين قصصي منظم، وابتكر لهم سياقًا ملائمًا ليناسب ما أراد إيصاله عن يسوع بأنه «موسى الجديد.»، وطبقًا لساندرز إن رواية الميلاد في متى ولوقا هي أوضح مثال على الأساطير في الأناجيل الإزائية، وحسب لتلك الرواية (وُلد يسوع في بيت لحم حسب تاريخ الخلاص اليهودي، وترعرع في الناصرة، ولكن الرواية في الإنجيلين قدمتا تفسيرين مختلفين ومتناقضين تمامًا لكيفية حدوث ذلك)، وروايات البشارة بميلاد يسوع الموجودة في (متى: 1 18 – 22)، و(لوقا 1 :26-38) مستوحاة من قصص البشارة بميلاد إسماعيل وإسحق وشمشون في العهد القديم. يستشهد متى بإشعياء 14: 7 من الترجمة السبعينية ليؤيد روايته عن ميلاد يسوع من العذراء، يقول النص العبراني لهذه الآية: «ها الفتاة (تُنطق بالعبرية: حألماه) تحبل وتلد إبنًا وتدعو اسمه عمانوئيل.» لكن الترجمة السبعينية استبدلت ترجمة الكلمة العبرية ألماه، والتي تعني حرفيًا «فتاة»، بكلمة παρθένος (تُنطق: بارثينوس) اليونانية والتي تعني «عذراء». لذلك يرى معظم المؤرخين العلمانيين عمومًا أن الروايتين المنفصلتين عن ميلاد العذراء في إنجيلي متى ولوقا هما اختلاقان أسطوريان مستقلان وُضعا لتحقيق الآية التي أٌسئ ترجمتها عن أشعياء.
هذا التضارب والتناقض الشديد يؤكد الدور البشري من خلال التأثير الخارجي وخاصة اليهودي بعمقه التأريخي على مجمل الفكر المسيحي عموما وخصوصا في قضايا رأسية ومحورية في العقيدة ومنها الولادة والصلب وما بني لاحقا من أفكار ترسخت فيها بتأثيرات عديدة منها ما هو فلسفي فيثاغورسي تحديدا، ومنها ما هو أصلا من الواقع اليوناني بشقيه الديني والتأريخي الذي تسلل من خلال عقائد راسخة في المنطقة وأستخدمت لتعزيز تساؤلات وتناقضات في الرواية التي كتب بعد صلب المسيح أو ما زعم به بأكثر من خمسين عاما على الأقل، ولكن الجوهر الديني العقيدي كان متأثرا بشدة فيما نقله الفكر اليهودي أصلا من ديانات زجت وتلاقحت وأدمجت لاحقا بالفكر اليهودي أثناء الشتات والأسر المتعدد الي وقع فيه اليهود وأنعكس بعد ذلك ليشكل وحدة متماهية من العقائد الحقيقية التوحيدية والوثنيات التي يمكن تفسيرها أو دمجها مع العقيدة التي حوتها شريعة موسى ع.
يبقىَ السؤال الأهم والأكبر في العقل الديني المنطقي والذي يَطْرَح نفسه هنا بقوة (ما علاقة عقيدة الخلاص، التي هي الموضوع الرئيس للأسرار المسيحيَّة، بعملية التحرير الإنساني في التاريخ؟)، إن التركيز اليهو مسيحي على أن الخلاص الأول الذي يريده الله محصور أولا بالمؤمنين كما قلنا في عقيدة الخلاص المجاني في الفكر التوراتي التي أعتبرت أن اليهود هم شعب الله المختار ولأجله فالله يسارع بالمغفرة لهم حتى مع أعظم الخطايا لأنهم أبناءه، أما في المسيحية فكل المؤمنين بالسيد المسيح وطبقا لمفهوم الخلاص فهم لا ينالوا الدنيوية لأن السيد المسيح تحمل عنهم الخطايا، ومن مات مسيحا مات خالصا من الخطيئة، هذا التفكير المحدود تجاه مفهوم الخلاص يتناقض مع كل المبادئ المنطقية والعقلية التي عرفناها أولا من خلال كتب الأنبياء السابقين وموقف الله من تحديد نتائج الإيمان بهم وبمجمل المنظومة الرسالية التي لم تنقطع حتى مجيء المسيح، فالله إله العالمين وربهم ولا يمكن أن يجعل موضوع الخلاص حالة فردية تعتمد على المحاباة والقرار المسبق منه دون أن يضع الإنسان كل الإنسان أمام الأختبار والأمتحان بين إرادته هو وبين فعل وردة فعل الإنسان عليها.
إذا عقيدة الخلاص في رأي الشخصي أنتقلت للمسيحية كما بينا في الفصول الأولى لاحقا من ديانات وعقائد أقدم، مثلت قراءات وحتى أساطير لشعوب فهمت العلاقة مع الله من خلال وجودها هي، لا من خلال وجود الكون كله مع الله، في أطار شمولي خارج الزمان والمكان الذاتيين، إن فكرة الخلاص في جذورها فكرة وثنية تعتمد على تقدير ذاتي للوثنيين لدور ألهتهم بأعتبارهم مركز الفعلي الكوني والقادرين عليه، أما المنطق الرسالي لا يؤمن بالخلاص إلا من خلال الإيمان أولا بكل قيم وأسس الرسالات المقترن بالعمل الإيجابي الذي يترجم أساسيات الرسالة مع وظيفة الوجود عموما ووظيفة الإنسان خصوصا كونه خليفة الله في الأرض والمكلف بأستعمارها وإصلاحها وتعزيز قدرتها على البقاء الأصلح.