صندوق النقد الدولي والدّائنون يحكمون تونس


الطاهر المعز
2021 / 5 / 10 - 22:51     

خبر وتعليق
تونس رهينة الدّائنين

لنتذكّر دائمًا أن الدُّيُون الخارجية شَكّلت الذّريعة الرّسمية المُعْلَنَة لاستعمار تونس (1881 ) من قِبَل الإمبريالية الفرنسية، ومصر (1882) من قِبَل الإمبريالية البريطانية...
نَقَلَت وكالة "رويترز"، عن رئيس الحكومة التونسية قوله، خلال مقابلة معه بقصر الحكومة بالقَصَبة، يوم الجمعة 30 نيسان/ابريل 2021، أن حكومته طلبت من صندوق النقد الدولي قرضًا بقيمة حوالي أربعة مليارات دولارا، على ثلاث سنوات مقابل شروط "تقليدية"، مع تشديد الصندوق على ارتفاع العجز المالي إلى 11,5% بنهاية سنة 2020، وانكماش أو تراجع الإقتصاد، ليُصبح النّمُوُّ سَلْبِيًّا بنسبة 8,8%، وحاجة الحكومة إلى اقتراض 7,2 مليارات دولارا، لسدّ عجز ميزانية سنة 2021، منها خمسة مليارات من القُروض بالعُملات الأجنبية، لترتفع مبالغ حصص تسديد الدّيون التي حان أجل تسديدها، من 11 مليار دينارًا سنة 2020، إلى 16 مليار دينارا (5,75 مليار دولارا) سنة 2021، وتُضْعِفُ هذه الأرقام موقف الحكومة التونسية مع الدّائنين، غير أنها مَدْعومة من نقابات أرباب العمل (الصناعة والتجارة والفلاحة)، واتحاد نقابات الأُجَراء (الإتحاد العام التونسي للشغل)، بذريعة "ضرورة التّوافق (الطّبقي والسياسي ) من أجل إنقاذ اقتصاد البلاد"، بحسب صندوق النقد الدّولي وبحسب رئيس الحكومة التونسية، الذي أعلن (لوسائل إعلام أجنبية) أنه قَدّم التزاما للصندوق يتضمّن "تنفيذ إصلاحات تعتمد على ترشيد الدعم وإصلاح (أي خصخصة) شركات القطاع العام، ونظام الضرائب..."، وتجدر الإشارة أن رئيس الحكومة أدلى بتصريحه لوكالة "رويترز"، ولكنه لم يدلي (حتى كتابة هذه الفقرة) بأي تصريح مُوجّه للمواطنين التونسيين، وهم المعنيون بشروط صندوق النقد الدّولي، وبما يُسمِّيه "إصلاحات"، وهم الذين يُسدّدون ثمن الفساد وسوء التّصرف ونتائج الخيارات الإقتصادية والسياسية الخاطئة، ولكنهم لا يستفيدون من المبالغ المُقتَرَضَة، وأدّى فساد الإخوان المسلمين وسوء إدارتهم إلى مضاعفة حجم الدَّيْن العام ثلاث مرات خلال عشر سنوات، وتبلغ ميزانية العام الحالي (2021) نحو 52,6 مليار دينار (حوالي 19 مليار دولارا)، فيما فاقت قيمة إجمالي الدّيون الخارجية 36 مليار دولارا، بينما بلغ إجمالي الناتج المحلي 38,8 مليار دولارا، سنة 2019، وانخفض بنسبة 8,8 %سنة 2020، ليصل إلى حوالي 35,4 مليار دولارًا .
تواجه الدّولة صعوبات في تسديد الديون الخارجية، ويحاول الإخوان المسلمون ( الحزب الذي يقود الإئتلاف الحاكم) استجداء "بلدان شقيقة"، منها مَشْيَخَة قَطَر "لإبرام اتفاقيات مالية من شأنها تخفيف الأزمة الاقتصادية" بحسب تعبير رئيس الحكومة، الذي يُرَدِّدُ شروط صندوق النقد الدّولي، وكأنها من بنات أفكاره، مثل "ضرورة خفض حجم الأجور قياسا إلى الناتج المحلي الإجمالي"، والتزمت الحكومة (بموافقة قيادة الإتحاد العام التونسي للشغل) بعدم تعويض الموظفين المتقاعدين، بل بإلغاء عشرة آلاف وظيفة سنويا، وسبق أن وافقت قيادة الإتحاد العام التونسي للشغل، سنة 2016 (رغم مُعارضة قواعد الإتحاد)، على شروط القرض الذي طلبته الحكومة من صندوق النقد الدّولي، بقيمة 2,8 مليار دولارا، منها إلغاء خمسين ألف وظيفة بالقطاع العام، خلال خمس سنوات، وكان صندوق النقد الدّولي يشترط منذ 2011 تشريك اتحاد نقابات الأُجَراء (الإتحاد العام التونسي للشغل) في اتخاذ قرارات خصخصة الشركات العمومية (أو ما تَبَقّى منها) وإلغاء دعم أسعار السلع والخدمات الأساسية، كالمحروقات والسلع الغذائية، وتسريح مُوظّفي القطاع العام، وبذلك تتَصَدّى القيادات البيروقراطية النقابية لقواعدها، وترفض الموافقة على المطالبة بزيادة الرواتب وتحسين ظروف العمل، في قطاعات تضرّرت كثيرًا منها الصّحّة والتّعليم، رغم انخفاض قيمة الرواتب، قياسًا لارتفاع الأسعار وإيجار المسْكن وقيمة خدمات الكهرباء والمياه والضرائب غير المباشرة.
خفضت الحكومة التونسية (تحالف يقوده الإخوان المسلمون) مبلغ دعم المواد الأساسية، ولكنها لم تتمكّن من تسريح عشرة آلاف موظف سنويا، كما لم تتمكن من خصخصة كل الشركات، بفضل تصَدِّي المواطنين القواعد النقابية للإتحاد العام التونسي للشغل لمشاريع الحكومة، ولذلك لم تحصل سوى على 1,6 مليار دولارا، من أقساط القرض البالغة قيمته الإجمالية 2,8 مليار دولارا، على أربع سنوات، بين 2016 و 2020...
اعلن الناطق باسم صندوق النقد الدولي، "جيري رايس"، خلال ندوة صحفية بواشنطن، بعد اجتماعات مُطولة مع الوفد الحكومي التونسي، يوم 30 نيسان/ابريل 2021: "قدّمت الحكومة التونسية التزامات بإلغاء دعم أسعار المواد الأساسية، وخفض عدد موظفي القطاع العام، وخصخصة 85 شركة عمومية كبيرة وثلاثين أُخْرَى صغيرة، كُلٍّيًّا أو جُزْئِيًّا، لكن هذه الإجراءات غير كافية..."، وطلبت الحكومة التونسية، أثناء تواجد وفْدها بواشنطن، قرضًا من الحكومة الأمريكية، وسبق أن التقى السفير الأمريكي بتونس (دونالد بلوم) برئيس الحكومة التونسية، يوم الخميس 22 نيسان/ابريل 2021، وأعلن "دعم الولايات المتحدة للحكومة التونسية في مفاوضاتها مع صندوق النّقد الدّولي، واستعداد الإدارة الأمريكية لدعم جهود التنمية وإنجاح المسار الديمقراطي في تونس، وسَتوفّر منحة بقيمة خمسمائة مليون دولار، مخصصة لدعم مجالات النّقل والزراعة..." وتعني "المنحة" في القاموس الأمريكي، قرضًا بفائدة، لشراء سلع أو معدّات أمريكية تنقلها شركات أمريكية وتقوم شركات أمريكية بتنفيذ المشاريع، موضوع "المنحة".
اقترضت الحكومة أيضًا، يوم الجمعة 12 شباط/فبراير 2021، مبلغ 1,7 مليار دولارا من "المؤسسة الدّولية الإسلامية لتمويل التجارة"، وهي مؤسسة سعودية في الأصل، وإحدى الشركات ذات الصبغة المالية التابعة ل"مجموعة البنك الإسلامي للتنمية" (مقرها بمدينة جدّة السعودية)،وسبق أن أقرضت هذه المؤسسة للحكومة التونسية 1,5 مليار دولارا، سنة 2018، واقترضت الحكومة 600 مليون يُورو من الإتحاد الأوروبي (نيسان/ابريل 2021)، ولم تنجح الحكومة التونسية (والتي سبقتها) في تمويل موازنة العام 2021، ولا تزال تحاول اقتراض مبلغ إجمالي بقيمة تفوق سبعة مليارات دولارا، تُضاف إلى المبالغ التي اقترضها الإخوان المسلمون من المصرف الأوروبي لإعادة البناء والتنمية، ومن الإتحاد الأوروبي ومن المصرف الأفريقي للتنمية، ومن البنك العالمي ومن صندوق النقد الدولي، ومَشْيَخَة قَطَر والعديد من الدول والمُؤسّسات المالية الأخرى...
عند انطلاق انتفاضة 2010/2011، كانت حركة "النهضة" (الإخوان المسلمون) غير معترف بها في تونس، كما العديد من الأحزاب التي كانت خارج السًّلْطَة، يمينًا ويَسَارًا، لكن الإخوان المسلمين حافظوا على وُجُودهم في المساجد ومحلات الجمعيات الدّينية (حوالي 22 ألف في تونس آنذاك، بين محلات ومساجد كبيرة وصغيرة) وكان شرائح هامة من الرأي العام، بما فيها التي لا تتفق معهم سياسيا وإيديولوجيا، مُتسامحة معهم، باعتبارهم ضحايا قمع نظام حزب الدّستور، خلال فترة حكم بورقيبة وبن علي، ويعتبر الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وباقي القوى الإمبريالية، إن الإخوان المسلمين يمثلون "الإسلام السياسي المُعتدل"، ووجب دعمهم لكي يُشاركوا في إدارة الدُّول، وبناءً على هذه الإعتبارات، بدأت بعض فصائل اليسار العربي تعتبر الإخوان المسلمين حُلَفاءَ في "النضال ضدّ الدّكتاتورية والإستبداد"، مباشرة بعد تفجيرات 11 أيلول/سبتمبر 2001، بالولايات المتحدة، وتجسّد التّحالف العَلَني سنة 2005، في ثلاث بلدان عربية، على الأقل (تونس ومصر وسوريا)، بدعم عَلَنِي أيضًا من الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بواسطة السُّفَراء، وعندما أُطْلِقَ سراح "حمادي الجبالي"، رئيس الحكومة الأسبق، والقيادي في "النّهضة"، سنة 2006، زاره سفير أمريكا بتونس، في بيته بسوسة، وبقي معه ثلاث ساعات، وسبق أن وقّعت حركة الإخوان المسلمين بتونس، بواسطة ممثلها نور الدين البحيري، "الميثاق الوطني"، وحصلت على ترخيص لإصدار صحيفة "الفجر" الأسبوعية، بالتزامن مع الترخيص لحزب العمال بإصدار صحيفة "البديل" (ولقاء بن علي وحمة الهمامي، في قصر قرطاج، سنة 1989)، وبينما كان النظام يحْظر نشاط النقابة التاريخية للطلبة "الإتحاد العام لطلبة تونس" (تأسس سنة 1953) منح ترخيصًا للإخوان المسلمين، لتأسيس "الإتحاد العام التونسي للطلبة" (لاحظوا التشابه في التسمية بغرض إدخال البلبلة )، وعَيّن النظام عبد الفتاح مورو، أحد مُؤسسي حركة الإخوان المسلمين في المجلس الإسلامي الأعلى...
هذه عَيِّنَة من الموقع الطّبقي والوطني لحركة النهضة الإخوانية، فقد كان قادتها على اتصال بالقوى الإمبريالية (الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي) قبل إشرافها على الحكومة والبرلمان، وإغراق البلاد بالدّيُون، وإشراف البلاد على حالة الإفلاس، وعجزها عن تسديد الدّيون، فالحكومة تقترض ليس للإنفاق على مشاريع مُنْتِجَة، بل لتسديد ديون قديمة وفوائدها، ما يُعرّضُها للإشراف المباشر للدّائنين (بدل الإشراف الحالي، غير المباشر)، ونشرت حركة الإخوان المسلمين الفساد وسرقة المال العام وتعميق الفجوة الطبقية بين الأثرياء والفُقراء، فكانت (ولا تزال) أسوأ خَلَف لأفسَد سَلَف، فعقد حزب الإخوان المسلمين، سواء في المغرب أو في تونس أو في مصر (قبل تموز/يوليو 2013) صفقات مع الفاسدين واللُّصُوص الذين كانوا محل مُحاسبة قضائية، فكان ذلك بمثابة تشجيع كبار اللُّصُوص وحمايتهم بعد نهب ثروات البلاد والشعب، وكلما ارتفعت قيمة الدّيون الخارجية، ارتفعت ثروة بعض أصحاب المصارف المَحَلِّيّة، وتعمقت الفجوة الطبقية، وارتفعت نسبة الفُقْر والبطالة، وبذلك يمكن أن نستنتج أن الدُّيُون مُضِرّة بالشعب، ومُفيدة للأثرياء والفاسدين واللُّصُوص، ومنهم من مكنته الدولة من سرقة المال العام، عبر التّمويل الحكومي المباشر أو عبر الإعفاء من الضرائب والرسوم، وعبر القُروض المُيَسّرة، بالتوازي مع التّضْيِيقات على الإعلام وقَمع الإحتجاجات والصحافيين أثناء ممارسة مهنتهم، ومحاكمة العديد من المُواطنين، بذرائع مختلفة...
لقد توسّعت رُقعة الإحتجاجات لتَشْمَل فئات صغار الفلاّحين وشرائح جديدة من البرجوازية الصغيرة، مثل الأطبّاء، كما توسّعت رُقعتها الجغرافية أيضًا، لتنتَشِرَ في كافة أنحاء البلاد، لكن هذه النّضالات المُتَفَرِّقَة بقيت محصورة الأهداف ومَحْدُودة الأساليب، ما يجعلها تتراجع بعد فترة قد تطول أو تقصر، إذ لا يُوجَدُ جهاز تنسيق بين مختلف الحركات والمجموعات، لإبراز القاسم المُشترك أمام العَدُوّ المُشْتَرَك، ولتُشكّل هذه المجموعات قُوّةً تُواجه الدّولة وإعلامها وأجهزتها القَمْعية، مُجتمعة وليست مُنفردة، من أجل إرساء نظام بديل، نقيض لحُكْم الإخوان المسلمين والدّساترة ورجال الأعمال والفاسدين واللُّصُوص...