ماركس لم يُقرأ بعد (6)


فؤاد النمري
2021 / 5 / 9 - 20:03     

ماركس لم يُقرأ بعد (6)

الماركسية إنما هي بالتحليل الأخير القراءة الموضوعية للتاريخ كما هو . العدو الأول للحراك الماركسي وللثورة الإشتراكية منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين هو ليس الذين لا يجيدون قراءة التاريخ كما هو، وهم لذلك ليسوا بالقطع ماركسيين، بل هو "الشيوعيون" الخونة الذين اصطفوا وراء قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي بعد أن آلت قيادته إلى عصابة بورجوازية وضيعة وعلى رأسها نيكيتا خروشتشوف، ويرفضون بإصرار مشبوه قراءة التاريخ كما هو ؛ وليس من تفسير لإصرارهم المشبوه هذا سوى الإستغراق في الخيانة وعدم الإعتراف بها على الرغم من ثبوتها عملياً بانهيار الاتحاد السوفياتي .
كنت قد وصمت هؤلاء "الشيوعيين" بالخيانة، في آخر مقابلة لي مع الأمين العام المساعد للحزب الشيوعي الأردني قي مايو 1965 وتركت الحزب إثر ذلك، ليس لأن الحزب لم يقرأ التاريخ كما هو بل لأنه تبنى تحريفات خروشتشوف الصفيقة في المؤتمر الثاني والعشرون للحزب في العام 1961 حين وصلت وقاحة الخيانة إلى حد التشكيك بلينين بادعاء أنه لم يعاصر الشركات متعددة الجنسيات كما خروشتشوف الغبي بوصف ستالين، وحين لم يُبقِ المؤتمر أي طيف من أطياف الإشتراكية في الدولة السوفياتية ؛ أما اليوم فإنني أؤكد خيانتهم ليس لأنهم نبذوا الماركسية اللينينية بل لأنهم يرفضون بإصرار مشبوه قراءة التاريخ كما هو . نحن قبل أن نناقش هؤلاء "الشيوعيين" الخونة مزاعمهم حول تقادم الماركسية اللينينية – كما تشيع دائرة التجسس البريطانية (MI6) من تأسيس حزب العمال اليساري – وأن الماركسية ليست هي النظرية العلمية التي تفسر التاريخ والتطور الإجتماعي بمختلف مراحلة، قبل أن نناقش مثل هذه الأفكار المعادية يترتب على الشيوعيين المرتدين ومنهم الموصوفون باليساريين، بل وعلى مختلف أعداء الشيوعية أن يقرأوا التاريخ كما هو، أي أن يقبلوا وقائع التاريخ كشواهد قاطعة تقطع كل الشهادات الأخرى .

يقطع التاريخ في أن الإتحاد السوفياتي، الدولة الإشتراكية العظمى، دولة دكتاتورية البروليتاريا ما كانت لتسحق جيوش النازية المتوحشة وقد وظّفت في حربها العدوانية مقدرات ثلاث عشرة دولة أوروبية أخرى بالإضافة لألمانيا الهتلرية والعسكرية الفاشية في شرق آسيا في اليابان، ما كانت لتحقق تلك الإنتصارات التاريخية العظيمة التي كفلت الحرية والسيادة والإستقلال لكل دول الأرض وشعوبها المضطهدة قبل أن يتحول الإتحاد السوفياتي من دولة اشتراكية ، دولة دكتاتورية البروليتاريا من طراز رفيع ، إلى دولة حرب دولة دكتاتورية العسكر من طرا رفيع أيضاً . ما يتوجب التوقف عنده في هذا السياق هو أن الإتحاد السوفياتي ما كان ليتحول إلى دولة حربية من طراز رفيع لو لم يكن دولة اشتراكية . خسر الاتحاد السوفياتي في الحرب 10 ملايين جندياً و17 مليون مدنياً و 106400 طائرة و 83500 دباية دون أن يتراجع حتى سحق ألمانيا . كانت قد بدأت الحرب في العام 41 دون أن يمتلك الإتحاد السوفياتي إلا القليل من المعدات الحربية القديمة وفي العام 43 كان الاتحاد السوفياتي يطرح في المعارك أسلحة تفوق الأسلحة الألمانية كماُ ونوعاً بنسبة 300% . بالمقابل لم تقدم الدول الرأسمالية الكبرى الثلاث ما يستحق الذكر من جهود حربية واقتصرت حرب الدول الثلاث على مواجهة ايطاليا على شواطئ المتوسط .

يقول التاريخ أنه لدى انتهاء برنامج إعادة الإعمار في العام 1951 كانت مهمة الشيوعيين السوفييت الملحة الأولى هي تفكيك دولة الحرب بقيادة العسكر والعودة إلى الدولة الإشتراكية، دولة دكتاتورية البروليتاريا . ما يفوت المحللين في علم الإجتماع والإقتصاديين هو أن تفكيك دولة الحرب الأقوى في العالم والعودة بها لدولة اشتراكية كما كانت في العام 1938، دولة دكتاتورية البروليتاريا هو أصعب بكثير من القيام بثورة أكتوبر البلشفية . لم يدرك أحد في الحزب خطورة تلك المهمة الصعبة على مشروع لينين في الثورة الإشتراكية العالمية غير ستالين القائد التاريخي للثورة الشيوعية العالمية .
من أجل اكتشاف مسالك تلك المهمة الصعبة طلب ستالين في العام 51عقد ندوة متخصصة تضم كبار علماء الإقتصاد من شيوعيين وغير شيوعيين تبحث في "القضايا الإقتصادية للإشتراكية في الإتحاد السوفياتي" . إهتم ستالين بأيحاث تلك الندوة الفريدة في تاريخ الحزب الشيوعي البولشفي مما جعله يؤلف كتابا باسم الندوة يبحث في أهم مسائل الإقتصاد الإشتراكي . الدراسة المعمقة لهذا الكتاب تقول أن الإتحاد السوفياتي عند نهاية إعادة الإعمار في العام 51 كانت تلم به أزمة خطيرة قد تودي بمسيرته الإشتراكية وأن تجاوز تلك الأزمة سيستغرق بضع سنوات دون التسرع الأمر الذي سيضاعف من خطورتها، وأن العودة لانتهاج الصراع الطبقي سيزيد من خطورة المواجهة .

ما يستدعي الدهشة والاستغراب هو أن ستالين الذي اشترط التأني وطول النفس في مواجهة الأزمة هو نفسه سارع إلى تطبيق حلول قاطعة للأزمة فدعا إلى عقد مؤتمر عام للحزب هو المؤتمر التاسع عشر في أكتوبر 52 بعد تعطيل الحزب لأربعة عشر عاما وطرح على المؤتمر مسألتين كفيلتين بتجاوز الأزمة : المسألة الأولى وهي التحول من الصناعات الثقيلة إلى الصناعات الخفيفة الأمر الذي كان يعني التوقف عن صناعة الأسلحة والاهتمام بصناعة احتياجات الإنسان المعاشية وهو ما سيؤدي بالنتيجة إلى سحب البساط من تحت أقدام العسكر وإحياء دولة دكتاتورية البروليتاريا بعد أن قاربت على الإضمحلال، تلك الخطة التي كانت تشير أرقامها إلى أن الإتحاد السوفياتي سيتجاوز الولايات المتحدة في مجمل الإنتاج في العام 55 ؛ والمسألة الثانية وهي الاستغناء عن خدمات جميع أعضاء القبادة في الحزب بمن في ذلك ستالين نفسه وإحالتهم على التقاعد حيث العمل الشيوعي القيادي في غاية الصعوبة لا يقدر عليه رجال شائخون .
خلافاً لتحذيراته في الندوة عام 51 من التسرع في معالجة الأزمة سارع ستالين نفسة في مخالفة تحذيراته بتطبيق حلول قاطعة للأزمة . ويبدو أن ذلك تم لاعتبارين اثنين : الأول وهو أن ستالين كان في عمر الثالثة والسبعين ويدنو من الأجل المحتوم، وأن أحداً غير ستالين لن يقوم بما يتوجب القيام به، والاعتبار الثاني كان ولاء الشعوب السوفياتية لشخص ستالين قد وصل حد العبادة .
ما حدث فعلا أن المؤتمر العام للحزب وافق على الخطة الإقتصادية ولم يوافق على الاستغناء عن أعضاء الفيادة وأعاد انتخاب نفس الأعضاء بالإسم فكان أن أنذر ستالين المؤتمر العام للحزب بأن التجديد لنفس القيادة يشكل خطراً حقيقيا على الحزب والثورة وعاد يطالب المؤتمر بانتخاب 12 عضوا إضافيا للمكتب السياسي من الشباب المتحمسين للشيوعية وهو ما من شأنه تهدئة هواجس ستالين المتعلقة بالأخطار المحيقة، وهكذا كان .
كما قرر المؤتمر التاسع عشر حذف صفة "البولشفي" من اسمه وهو ما يشير إلى ارهاصة الشروع بمحو طبقة الفلاحين كما طالب غالبية المنتدين في العام 51 الأمر الذي يفتح الباب واسعاً لصراع طبقي عام وواسع كان قد حذر منه ستالين بقوة في تلك الندوة .

ما يتوجب التأكيد بقوة في هذا المقام وهو لو أن المؤتمر العام التاسع عشر قد وافق على اقتراح ستالين بإحالة جميع أعضاء القيادة على التقاعد لكان لنا اليوم عالم جميل لا يعاني من المساوئ الكثيرة التي تعاني منها اليوم، عالم جميل كان قد تنبأ به الرئيس الأميركي الأعظم فرانكلن روزفلت عندما كتب في مفكرته اليومية يقول .. "سيبني ستالين عالماً يسوده السلام والديموقراطية" .

ليس لنا اليوم إلا أن نرى بأن ستاليبن كان قد تسرّع في تفكيك دولة الحرب الأقوى في الاتحاد السوفياتي إثر الحرب لأجل استعادة دولة الإشتراكية، دولة دكتاتورية البروليناريا ولو كان قد تأنى في التفكيك حتى العام 1955 بعد أن يكون الحزب قد استعاد صحته الستالينية لكانت نبوءة روزفلت قد تحققت تماماً