إفسادُ منطق الإمكان


نعيم إيليا
2021 / 5 / 9 - 18:00     

للعلماء في عصرنا وسائل مادية عملية أو نظريات رياضيىة في تحصيل المعرفة وتطبيقها في مجالات الحياة المتعددة. فلديهم ، مثلاً، التلسكوبات العملاقة لتحديد مواقع الأجرام السماوية المرئية واللامرئية، وكذلك لمعرفة كيف تدور هذه الأجرام في أفلاكها، وكيف هي. ولديهم منشآت ضخمة مثل (مصادم الهيدرونات الكبير سيرن) على الحدود السويسرية الفرنسية، لتفسير كيف نشأ الكون، وأيضاً لتفسير ألغازه، وظواهره المبهمة كالثقوب السوداء، وكتباعد المجرات المتسارع بصورة مذهلة، وأيضاً لتفسير كيف نشأت هذه الظواهر ومما نشأت، وما الذي يترتب على نشوئها من آثار. ولديهم مراكز أبحاث علمية غاية في الرصانة والفخامة مزوَّدة بأحدث المعدات التكنولوجية، مثل ما لديهم من نظريات مدهشة معجبة كالنظرية النسبية، والنظرية الكمومية.
فأما الفلاسفة، فلاسفة العصور القديمة على الأخص، فكان المنطق بقياساته وافتراضاته أداتَهم على الأغلب في فهم وتفسير معضلات الوجود ولاسيما معضلة نشأة الكون التي هي أسُّ كلّ المعضلات. فها هو ابن سينا – على سبيل المثال - يستعين بالمنطق كغيره ممن تقدمه أو عاصره أو جاء من بعده، في إثبات أن الكون واجب الوجود بغيره؛ أي إنه أزلي ولكنّ أزليته صادرة عن أزلية الأول، من غير أن يحرجه تصور وجود أزليَّين معاً (الله والعالم) فتصور وجود أزليَّين لم يكن يحرج في العصور الغابرة عقل بعض الفلاسفة، فحتى أرسطو لم يحرجه أن يتصور وجودَ أزليين معاً، بل إن ابن رشد بالرغم من تديّنه، فإنه لم يحرجه أن يتصور العالم أزلياً مع الله.
فإذا سائل سأل الآن: وماذا كان برهان ابن سينا وغيره من الفلاسفة على أن الكون أزلي؟ جاءه الجواب: إن برهانه لم يكن غير ألفاظ منضَّدة منسقة في جمل منطقية من صنع العقل وإلهامه تفترض أن كلَّ موجود : إما أن يكون واجب الوجود، أو يكون ممكن الوجود، أو يكون ممتنع الوجود مستحيلا.
فلما لم يكن الكون واجب الوجود بذاته، ولم يكن ممتنع الوجود، فهو إذاً ممكن الوجود. والممكن الوجود عند ابن سينا حين يتعلق بالكون، يمسي واجب الوجود ولكن لا بذاته وإنما بغيره، وغيره هو المبدأ الأول.
هكذا بمثل هذا القياس يستدل ابن سينا على أزلية الكون بصورته لا بمادته. وقد شرح كلَّ هذا في غير واحد من كتبه، ففي كتاب (النجاة) يقول:
„إن الواجب الوجود الذي متى فرض غير موجود عرض منه محال، وأن الممكن الوجود هو الضروري الوجود، والممكن الوجود هو الذي لا ضرورة فيه بوجه أي لا في وجوده ولا في عدمه. فهذا هو الذي نعنيه في هذا الموضع بممكن الوجود وإن كان قد يعني بممكن الوجود ما هو في القوة ويقال الممكن على كل صحيح الوجود وقد فصل ذلك في المنطق ثم ان الواجب الوجود قد يكون واجباً بذاته وقد لا يكون بذاته. أما الذي هو واجب الوجود بذاته فهو الذي لذاته لا لشيء آخر أي شيء كان يلزم محال من فرض عدمه. وأما الواجب الوجود لا بذاته فهو الذي لو وضع شيء مما ليس هو صار واجب الوجود لا بذاته مثلاً أن الأربعة واجبة الوجود لا بذاتها ولكن عند فرض اثنين واثنين والاحتراق واجب الوجود لا بذاته ولكن عند فرض التقاء القوة الفاعلة بالطبع والقوة المنفعلة بالطبع أعني المحرقة والمحترقة. „.
والأولى ههنا أن يُنظرَ في حقيقة (الممكن) من حيث هو أداة منطقية لفظية يستعان بها في التفسير والكشف وإقامة الحجة والبرهان، وأن يهمل النظر في حقيقة مصطلح الواجب الوجود، وفي حقيقة مصطلح الممتنع. وذلك لأن الواجب الوجود والممتنع، أمران لا يختلف فيهما اثنان من العقلاء. فإن كلّ ما هو موجود، فإنما هو موجود لأنه ضروري واجب الوجود. فأما الممتنع، فإنه المحال والمحال عدم. ولقد أدرك ابن سينا هذه الحقيقة؛ حقيقةَ أن الكون واجب الوجود، ولكنّ نزعته المثالية أبت إلا أن تربط هذه الحقيقة المادية الجلية بحقيقة أسمى وأرفع رتبة منها – في نظره - هي المبدأ الأول أو الله.
وهذا الضروري الواجب الوجود – على فكرة - موافق لقانون حفظ المادة الذي قد أضحى مسلَّماً به لدى كلّ من لم تنهك الخرافة عقله.
فإذا نُظر في حقيقة (الممكن) فلا بد من أن يستولد النظر فيها هذا السؤال: وماذا يجدي أن يقال إن شيئاً ما يمكن أن يوجد، وأن لا يوجد في الوقت ذاته؟ أيجدي ذلك في إثبات أن الأشياء تحتمل الوجود كما تحتمل اللاوجود؟ ولكن الأشياء في الواقع لا تحتمل إلا الوجود. إذن فأي جدوى من القول هذا وقد ظهر نبوُّه عن الحق؟
فأما الدليل على أن الأشياء الموجودة لا تحتمل إلا الوجود، فهو عدم وجود أشياء في الواقع تحتمل الوجود والعدم. أوَيوجد حقاً شيء له أن يكون ولا يكون؟ فإن كان يوجد حقاً شيء كهذا الشيء يجمع بين النقيضين الوجود والعدم، فما هو هذا الشيء، وأين يوجد؟
إن القول بأن الشيء يمكن أن يكون ولا يكون، يفترض أن هذا الشيء لم يكن موجوداً قبل أن يوجد أي إنه قبل أن يوجد، كان معدوم الوجود. فهل لشيء كان معدوم الوجود، أن يوجد؟
ولن يجدي رأي الفلاسفة من أمثال ابن سينا وابن رشد: إن هذا الشيء قبل وجوده، كان في حالة قد استوى فيها وجوده وعدمُ وجوده، ثم تهيأ له مرجحٌ فرجّح وجودَه على عدمه.
فإنه إن تُوهم هذا أنه مجدٍ، فكيف عُلم بوجود المرجح؟ وكيف عُلم بأن شيئاً قبل أن يكون موجوداً، كان متمرغاً في حضن تلك الحالة التي قد استوى فيها الوجود والعدم؟
أوَيجتمع الوجود والعدم لشيء بعينه في حال من الأحوال؟
فإن قيل: إن المقصود من أن الشيء الذي هو الآن موجود، كان موجوداً ولم يكن موجوداً، هو أن هذا الموجود كان موجوداً (بمادته) ولكنه لم يكن موجوداً (بصورته) ومثاله المطر. فالمطر كان موجوداً بمادته قبل أن يوجد بصورته المطرية. فإنا لنجد مادته في مصادر المياه فالريح فالسحابة حتى إذا تحققت له شروطُ أن يكون مطراً، صار مطراً، وإلا فهو ليس.
قيل في الرد على القائل بذلك: إن كانت صورة المطر معدومة قبل وجود المطر في صورته، فإن (المطر) إذاً لم يكن مطراً قبل أن يتصور مطراً، وإنما شيئاً آخر تغير فتحول فصار مطراً.