عيسى عبد الله ورسوله


عباس علي العلي
2021 / 5 / 3 - 23:29     

عيسى عبد الله ورسوله للناس
في النص القرآني هناك تفريق بين العبد لله وبين عباد الله في المعنى والدلالة، فالله كمبدأ عام يخاطب الناس بعبادي، أي المؤمنون الذين يؤمنون بالله فيعبدون بما أمرهم وخط لهم منهج الحياة دون أن نجد كلمة واحدة تؤكد أو تلمح أن الله يريد له عبيد بمعنى الأسترقاق الذي يخرج الإنسان من الحرية الطبيعية للعبودية بمعناه الذي نفهم، أما أن يقول الإنسان العابد لله والمؤمن به حق الإيمان الكامل أنه عبد لله، فهذا قول الإنسان وليس قول الله وإرادة الأول دون أن تنقص من منزلته (لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ۚ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا) (172)، والمسيح عليه السلام وبموجب نبوءة سابقة يعلن عبوديته لله كما يؤمن من هم على دينه، وهذا فخر له وميزه لا يريدها أنصاره أن يكون الكامل المستقيم في عبادة الله بدون حواجز معنوية أو متطلبات دنيوية («ألَيسَ كافِياً أنْ تَكُونَ عَبدِي، لِقِيامِ قبائلِ بَنِي يَعقُوبَ، وَرَدِّ النّاجِينَ مِنْ بِنِي إسْرائِيلَ؟ لَكِنِّي سَأجعَلُكَ نُوراً لِلأُمَمِ، لِكَي يَصِلَ خَبَرُ خَلاصِي جَميعَ النّاسِ إلَى أقصَى الأرْضِ.» (إشعياء 49: 1، 5- 6 ).
هذه النبوءة يؤمن بها من أمن بالله ومن يحرفها برغم أنها بينة صريحة واضحة لا لبس فيها فهي تعزز قول القرآن وتقدير منزلة عيسى عليه السلام، ليس أنتقاصا ولا تقليل من عظمة وجوده وهو الذي بعث نورا في العالمين ليدل على الله وطريقا للخلاص من عذابات وكيد الشيطان، فهو ومنذ إن كان جنينا في بطن سيدت النساء مريم أقر وبحسب النبوءة أنه رمزا للعبادة الكاملة المستقيمة التي لا تلوثها منافع ولا مصالح دنيوية، بل أقر في نص أخر أنه خادم لله (جَبَلَنِي اللهُ فِي بَطنِ أُمِّي لأكُونَ خادِماً لَهُ، لإرجاعِ شَعبِ يَعقُوبَ إلَيهِ، وَلِجَمعِ إسْرائِيلَ حَولَهُ. لِهَذا أنا مُكَرَّمٌ فِي عَينَيِّ اللهِ، وَقَدْ صارَ إلَهِيَ قُوَّتِي)، الملفت في هذا أنه يقر بأن الله هو من جبله على ذلك وأن الله هو إلهه ومصدر قوته ومكرم عنده لأنه عرف الله جيدا وسار على منهج العبادة الحقة للدرجة التي أتحدت بها عبادته مع عبوديته.
نجد كثيرا من النصوص في الإنجيل يصف السيد المسيح نفسه أنه أبن الإنسان، كما نجد الكثير منها يشير إلى أنه أبن الله، هذا التناقض ليس في مقصديات النص ولا في دلالاته الحكمية، فهو أبن الإنسان لأنه من سلالة يعقوب عليه السلام عن طريق أمه مريم، فإذا هو أبن يعقوب وإبراهيم وأبن آدم في النهاية فهو أبن الإنسان (فَقالَ يَسُوعُ: آنَ الأوانُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإنسانِ.)24، المشكلة في المفهوم الثاني وهي كلمة الأبن والتي ترددت كثيرا في نصوص العهدين القديم والجديد والمكتوبة باللغة العبرية، فالعبرية تعرف الأب تعبيرا مجازيا لكل ذي سلطة على أتباعه، حتى أنها تطلق كلمة أبناء الرب على كل الشعب الإسرائيلي كما تطلقه على الكهنة والأنبياء والمرسلين، فكل تابع بالقوة هو أبن لمتبوعه بما في ذلك من هم على بعد زمني كقولهم أنهم أبناء يعقوب وهم في زمن عيسى عليه السلام، فالمفهوم الثاني مجازي والأول حقيقي وهنا أصبح الخلط ممكنا لمن يريد أن يضع الناس في الحيرة (الآنَ تَتَضايَقُ نَفْسِي، فَماذا أقُولُ؟ أأقُولُ نَجِّنِي أيُّها الآبُ مِنْ ساعَةِ الألَمِ هَذِهِ؟ لَكِنِّي جِئْتُ مِنْ أجلِ هَذِهِ السّاعَةِ. فَمَجِّدِ اسْمَكَ أيُّها الآبُ.» فَجاءَ مِنَ السَّماءِ صَوْتٌ يَقُولُ: «لَقَدْ مَجَّدْتُهُ، وَسَأُمَجِّدُهُ أيضاً.».
هذا المفهوم الحقيقي هو الذي يرد دوما تعريفا لعيسى أو اليسوع بحسب المصدر الذي نأخذ منه، فكل من كان إبن الإنسان لا يمكن أن يكون غير ذلك لأنه من طين أول ومن نفخة واحدة هي نفخة الروح في جسد آدم ولم يزل طينا بين يدي الرب الأول (فَقالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: «لَقَدْ سَمِعْنا مِنَ الشَّرِيْعَةِ أنَّ المَسِيْحَ سَيَبْقَى إلَى الأبَدِ، فَكَيْفَ تَقُولُ إنَّهُ يَنبَغِي لابْنِ الإنسانِ أنْ يُرْفَعَ؟ إذاً أيُّ ابْنِ إنسانٍ هَذا؟»)، لقد ورث المسيح من الشريعة أبديته ووعد له من الله بها، لكن ما لا يفهمه الأخرون أن الأبدية ليست فقط بالجسدية المادية، بل بالجسدية الروحانية وبالنور الذي سيبقى في الأرض ليشير لمجد الله، هنا أجابهم عيسى عليه السلام بكلام مفهوم (35 فَقالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «سَيَبْقَى النُّورُ مَعْكُمْ زَماناً قَصِيْراً بَعْدُ، فَسِيْرُوا مادامَ النُّورُ مَعْكُمْ، وَقَبلَ أنْ تُدرِكَكُمُ الظُّلْمَةُ. لِأنَّ السّائِرَ فِي الظُّلمَةِ لا يَعلَمُ إلَى أيْنَ يَتَّجِهُ. 36 آمِنُوا بِالنُّورِ مادامَ مَعَكُمْ، فَتَصِيْرُوا أولادَ النُّورِ.» قالَ يَسُوعُ هَذا وَمَضَى وَتَوارَىْ عَنْهُمْ). فالنور الباقي هي الأبدية أما الروح التي تحرك النور فلها مكانها في عالم الأرواح عند الله وبين يدي قدرته.
تتلخص كلمة عيسى ورسالته على مبدأين أساسيين هما، أولا خلاص العالم من الظلمة والثانية تمجيد الله في علياءه حتى ينتشر الإيمان بين الناس، فهو لا يدعو لنفسه بأنه المخلص من خارج أمر الله، كما لا يدعو أحدا لعبادته بديلا عن الذي أرساه، في النقطة الأول نجد النصوص الكثيرة في الأنجيل تقول صراحة وبلا تأويل (إنْ سَمِعَ أحَدٌ كَلامِي وَلَمْ يُطِعْهُ، فَإنِّي لا أحكُمُ عَلَيْهِ. فَأنا لَمْ آتِ لِكَي أحكُمَ عَلَى العالَمِ، بَلْ جِئْتُ لِأُخَلِّصَ العالَمَ.48 وَمَنْ يَرفُضُنِي وَيَرفُضُ أنْ يَقبَلَ كَلامِي، فَهُناكَ ما يَحكُمُ عَلَيْهِ: الرِّسالَةُ الَّتِي عَلَّمْتُها هِيَ الَّتِي سَتَحكُمُ عَلَيْهِ فِي اليَوْمِ الأخِيْرِ. 49 فَأنا لَمْ أتَكَلَّمْ مِنْ عِندِي، بَلِ الآبُ نَفسُهُ الَّذِي أرسَلَنِي هُوَ الَّذِي أوصانِي بِما أقُولُ وَبِما أتَكَلَّمُ.50 وَأنا أعلَمُ أنَّ وَصِيَّتَهُ تُؤَدِّي إلَى الحَياةِ الأبَدِيَّةِ. فَما أتَكَلَّمُ بِهِ الآنَ، إنَّما أتَكَلَّمُ بِهِ كَما تَكَلَّمَ بِهِ الآبُ إلَيَّ.»)، إذا رسالة المسيح خلاص الوجود بما علم من ربه والذي أرسله، وما جاء به من رسالة الخلاص ليس إرادته بل هي مضمون وجوده ووصية الله وأمره وكلامه، فيقول أنا لا أتكلم به من عندي بل هو ما تكلم به (أبي) بالمعنى التوفيقي الذي تكلمنا به، فكل من لا يؤمن به لا يعني ذلك أنهم لا يؤمنون به بل لا يؤمنون بالله الذي أرسله (فَهُناكَ ما يَحكُمُ عَلَيْهِ).
وهكذا يبشر السيد المسيح بدعوته لأنه يؤمن أنه عبد لله مطيع لا يدعي حقا ليس له ولا يطلب أمرا خارج إرادة الله وأمره، هذه العبودية تشكل له أعلى درجات الطاعة والتصديق والإخلاص، لأنه بها تحول إلى نورا أبديا يكشف للناس الطريق الوحيد الذي يخلصهم من الخطيئة ويعيدهم لله، وهنا ينفي المسيح الإيمان به على أنه هو الرب أو ابن الرب المساوي له في الجوهر حيث يقول (44 وَقالَ يَسُوعُ بِصَوتٍ مُرتَفِعٍ: «مَنْ يُؤمِنُ بِي، فَإنَّهُ لا يُؤمِنُ بِي أنا، بَلْ يُؤمِنُ بِذاكَ الَّذِي أرسَلَنِي. 45 وَمَنْ يَرانِي يَرَى ذاكَ الَّذِي أرسَلَنِي. 46 لَقَدْ جِئْتُ نُوراً لِلعالَمِ، فَكُلُّ مَنْ يُؤمِنُ بِي لا يَبْقَى فِي الظَّلمَةِ)، كان خطابه حسيا وعقليا وبالصوت دون الإخفاء أن من يراني بحقيقتي فإنه يرى الله، بمعنى من يراني أبن الإنسان كما أنا أقول يرى الله رب الإنسان ورب الوجود ورب كل شيء.
في إنجيل يوحنا الإصحاح 17 آية 3 يشهد السيد المسيح يسوع على نفسه ولربه عن الحياة الأبدية التي يعرفها من تعاليم الله بقوله (وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته)، فعندما يصرح السيد المسيح بأن الله هو وحده افله الحقيقي وان يسوع ليس إلها بالتالي وليس أكثر من رسول الله، هذا النص لا يفهم كحقيقة إيمانية ومن قانون الإيمان بالرغم من أنه أكثر من هذا القول في مناسبات متكررة لعلها الأكثر ورودا في الإنجيل من غيرها ((يوحنا 14: 22) "لا تضطرب قلوبكم أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي")، فهو يفرق بين الإيمان بالله وحده كحقيقة ثابته مطلقة تتفرع منها أن هذا الله أرسل رسلا من قبل وهو واحدا منهم طالما أنه يتكلم بكلام الرب ويقيم لهم النور ويسمعهم كلام الحق، فلا بد أن يؤمنوا به كرسول وليس إله كما زعم نص أخر وحسب تفسيرهم المبني على مقدمة لا يمكن الإنفكاك منها أن الله والمسيح واحد متساويان في الجوهر (قال يسوع: أنا هو الطريق والحق والحياة ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي" يوحنا 14: 6.).
لقد كان كل الرسل والأنبياء من قبل عيسى ومن بعده الطريق إلى الله وكلمة الحق والحياة الأحسن والأصلح للإنسان، وحتى في الجملة اللاحقة (ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي) فهي تعبير نؤمن به كما أمن الرسل والأنبياء والمؤمنون جميعا أن لا بابا يصلنا بالله إلا عن طريق رسله، وكل باب نطرقها هي باب ضلالة ووهم وغرور، لأن طريق الله يبدأ من الإيمان به وبما أرسل وينتهي بالتصديق على خط هذا الإيمان وعدم الشرك به وهذه هي العبادة الكبرى التي من يكملها ويستقيم عليها يكون عبدا صالحا لله.