صورة الله في سفر أيوب، الرب الذي يستكرهه الشيطان


عباس علي العلي
2021 / 5 / 3 - 04:24     

صورة الله في سفر أيوب
الرب الذي يستكرهه الشيطان
في العقيدة الدينية أن اله يضع المؤمن الحقيقي دائما في الأختبار ليكشف له أي للعبد مقدار ما يمكن حمله من ثقل الإيمان بالله والمطاولة والمصابرة على أمر الله، وأيضا يجعل منه آية ودرس للإنسان العادي لينهمل من الصورة ما يغذي إيمانه ويقوي أسس الصبر والجلد في حقيقة وجوهر الطاعة والتسليم، قصص الأديان كلها تقريبا تدور في هذا المنحى وتتشارك في طرح الرؤية بتفاصيل عامة قد نجد فيها بعض الفروق، ولكن العنوان يبقى واحدا بينها، ما قصة آدم وإغواء الشيطان له إلا مثال وإن كان الغرض منها إبلاغ الحجة مع إيماننا نحن المؤمنون بالدين أن الله أراد بها أن يبلغ مشروعه الأرضي بعد أن أتم القسم السماوي أو المقدمة اللازمة.
في قصة نوح نجد نفس المنحى ونفس المضمون وكذلك في قصة إبراهيم وإن كان أكثر الأمتحانات والبلاءات جرت له من أمتحانه الأول الذي أكتشف فيه صورة الإيمان الصادق وصولا إلى التضحية بأبنه وتصديق الرؤيا، مرورا بموسى الممتحن وهو جنين وصراعه مع القدر الذي مثله فرعون أولا وقومه من بعد، إلى عيسى عليه السلام وصراع اليهود معه والتحريض على قتله وتسليمه للحاكم المستبد وكل مؤامرات اليهود ضده وضد أنصاره وتلامذته، لكن تبقى قصة النبي أيوب الذي عدت لوحدها معجزة في الصبر وأصبح سيدنا أيوب مثالا لقوة الإيمان الحقيقي مع عظم البلاء الذي أصابه.
في القرأن الكريم وردت قصة ايوب في مواضع متفرقة بدون تفاصيل ما قبل البلاء، لكنه وصفه القرأن بنعم العبد، وأشار إلى أنه مع عظيم ما أبتلي به لن يهتز إيمانه بالله ولم ينحرف أو يحاول التخفيف من هذا الضغط الذي كان عليه، الغريب أن التفاصيل التي وردت في سفر أيوب وإن تكفلت بشرح كل أحوال النبي الصابر الذي أنهم الله عليه ثم سلبه كل شيء ليرى قدرة الإيمان لديه في أن تصمد أمام ريح الأمتحان، لكن ما يلفت النظر تلك المحاورات التي كانت تجري بين الله والشيطان وجها لوجه وكأن الله يجلس في مجلس الحكام ويدخل عليه الأعوان والأتباع ويكلموه دون أن يخشوا سورة العظمة أو يبين لنا النص التوراتي المكان الذي كان يلتقي به الشيطان مع الله ليحرضه ضد أيوب، الغريب أيضا أن الله كان في كل مرة يستجيب لمؤامرة الشيطان وينصاغ لرغباته كالأبله.
تبدأ الحكاية في سفر أيوب منذ البداية بأن الله منحه ما لم يمنح غيره من العباد أمولا وأملاكا وماشية وأبل وأولاد وبنين، فكان مع كل ذلك شديد الحرص على رضا الله والتسليم لمشيئته لا تغره النعمة ولا تهز إيمانه ما بين يديه من ثرة (كانَ رَجُلٌ فِي أَرْضِ عَوْصَ اسْمُهُ أَيُّوبُ. وَكَانَ هذَا الرَّجُلُ كَامِلاً وَمُسْتَقِيمًا، يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ. وَوُلِدَ لَهُ سَبْعَةُ بَنِينَ وَثَلاَثُ بَنَاتٍ. وَكَانَتْ مَوَاشِيهِ سَبْعَةَ آلاَفٍ مِنَ الْغَنَمِ، وَثَلاَثَةَ آلاَفِ جَمَل، وَخَمْسَ مِئَةِ فَدَّانِ بَقَرٍ، وَخَمْسَ مِئَةِ أَتَانٍ، وَخَدَمُهُ كَثِيرِينَ جِدًّا. فَكَانَ هذَا الرَّجُلُ أَعْظَمَ كُلِّ بَنِي الْمَشْرِقِ) أيّوب 1: 1- 5.
هذه النعمة مع التقوى التي كان عليها وحسب النص فأنه ملتزم بنظام أو عمل عبادي في كل يوم لأنه يخشى أن يدخل الشيطان في بيته أو بيت أبناءه فيكفرون بالنعمة ويكفرون بالله (لأَنَّ أَيُّوبَ قَالَ: «رُبَّمَا أَخْطَأَ بَنِيَّ وَجَدَّفُوا عَلَى اللهِ فِي قُلُوبِهِمْ». هكَذَا كَانَ أَيُّوبُ يَفْعَلُ كُلَّ الأَيَّامِ)، هذا الأمر لم يكن يريح ويروق للشيطان وهو يرى أستقامة الرجل وحرصه على أن يكون مع الله روحا وجوهرا، فشن الحرب عليه متخذا من محاولة تغرير الله والعبث بقوته (وَكَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَنَّهُ جَاءَ بَنُو اللهِ لِيَمْثُلُوا أَمَامَ الرَّبِّ، وَجَاءَ الشَّيْطَانُ أَيْضًا فِي وَسْطِهِمْ)، هنا نقع في أول إشكالية كفرية حين نجسد الله وكأنه مثل الحكام أو البشر العاديين ونحن نعلم أن الشيطان ومنذ أن طرده الله من الجنة كان بينهما عهدا ووعدا أن يكون الموعد في نهاية العالم حينما يبدأ الحساب، عندما سأل الله الشيطان عما دعاه للحضور (هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟ لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ، يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ)، عندها أجاب الشيطان (هَلْ مَجَّانًا يَتَّقِي أَيُّوبُ اللهَ؟ أَلَيْسَ أَنَّكَ سَيَّجْتَ حَوْلَهُ وَحَوْلَ بَيْتِهِ وَحَوْلَ كُلِّ مَا لَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ؟ بَارَكْتَ أَعْمَالَ يَدَيْهِ فَانْتَشَرَتْ مَوَاشِيهِ فِي الأَرْضِ. وَلكِنِ ابْسِطْ يَدَكَ الآنَ وَمَسَّ كُلَّ مَا لَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ).
المصيبة في النص أن الله قد صدق الشيطان ووسوسته وهو الذي قال عنه قديما لآدم عليه السلام أنه عدوك وعدو زوجك، وأنه العدو المبين الواضح الذي لا يخفي عدواته لبني آدم (هُوَذَا كُلُّ مَا لَهُ فِي يَدِكَ، وَإِنَّمَا إِلَيهِ لاَ تَمُدَّ يَدَكَ) أيّوب 1: 6-12، هذه الصورة حتى لو كانت أفتراضية أو تحصيل حاصل لفعل وعمل الشيطان، أو قد أستخدمت برمزية كما في رمزية قصة آدم، لكنها في النهاية تزعزع إيمان الإنسان بربه حين يكون نصيرا ومصدقا لفعل الشيطان، وكأن الله أيضا لا يعلم ما يجب أن يفعله لفحص إيمان عباده، وهكذا تكررت نس الرواية بعد أن تدخل الشيطان في حياة النبي أيوب وتغيرت النعمة، لنشهد أن للشيطان قوة موازية لقوة الله أو على الأقل قادرة على إمحاء الرحمة والنعمة التي وهبها الله لعباده الصالحين، وبعد أن فقد كل شيء ماله وحلاله وأبناءه بفعل الشيطان نجد أنه لم يجدف بالله ولم ينسب له جهالة على حد تعبير النص (فَقَامَ أَيُّوبُ وَمَزَّقَ جُبَّتَهُ، وَجَزَّ شَعْرَ رَأْسِهِ، وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ وَسَجَدَ، وَقَالَ: «عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ. الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا». فِي كُلِّ هذَا لَمْ يُخْطِئْ أَيُّوبُ وَلَمْ يَنْسِبْ للهِ جِهَالَةً).
لم يتوقف أمر الشيطان عند هذا الحد بل حاول أن يصيب أيوب في بدنه لكي يرى كيف سيجدف بالله كما أخبر سابقا وليثبت مقولته، جواب الله هنا جواب الضعيف الذي لا يعرف قدرته ولا يستطيع أن يتخذ قرارا إلا بما يمليه عليه الشيطان (وَإِلَى الآنَ هُوَ مُتَمَسِّكٌ بِكَمَالِهِ، وَقَدْ هَيَّجْتَنِي عَلَيْهِ لأَبْتَلِعَهُ بِلاَ سَبَبٍ)، هل هناك أسوأ من هذه الصورة المهينة لله العظيم وما زال الشيطان يرسم له الطريق (جِلْدٌ بِجِلْدٍ، وَكُلُّ مَا لِلإِنْسَانِ يُعْطِيهِ لأَجْلِ نَفْسِهِ. وَلكِنْ ابْسِطِ الآنَ يَدَكَ وَمَسَّ عَظْمَهُ وَلَحْمَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ)، كم كان الله هنا جاهلا ولا يملك من القوة والقدرة والعلم السابق أكثر مما يملك الشيطان (خَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ حَضْرَةِ الرَّبِّ، وَضَرَبَ أَيُّوبَ بِقُرْحٍ رَدِيءٍ مِنْ بَاطِنِ قَدَمِهِ إِلَى فَأَخَذَ لِنَفْسِهِ شَقْفَةً لِيَحْتَكَّ بِهَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي وَسَطِ الرَّمَادِ) أيّوب 2: 1- 10.
إذا هذه الصورة التي يقدمها العهد القديم والجديد عن الله الذي لا يمثل بأي صورة حقيقة أنه القوة المطلقة التي تحكم الوجود وتتحكم به، ويقدم بدل ذلك صورة كائن يمكن خداعه بسهولة ويمكن التحريض ضد عباده لأنه وحسب النص ايضا يصف نفسه بالظالم (وَقَدْ هَيَّجْتَنِي عَلَيْهِ لأَبْتَلِعَهُ بِلاَ سَبَبٍ)، هذا معروف كمنهج في التوراة أنهم لا يوقرون الله ولا يحترمونه بل يقدمونه مجرد خادم مطيع لبني إسرائيل، أما الأخرون من بني إسرائيل من غير اليهود فهم يلصقون قضية أخرى بالقصة ويربطوها بتفسيرات وتأويلات لم تأت بنص ولا بحجة ولا حتى بمناسبة معقولة يمكن على أساسها أعتبار قصة النبي أيوب هي إحدى البشارات بقيام الفادي الذي يؤمنون به (أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ، وَالآخِرَ عَلَى الأَرْضِ يَقُومُ، وَبَعْدَ أَنْ يُفْنَى جِلْدِي هذَا، وَبِدُونِ جَسَدِي أَرَى اللهَ. الَّذِي أَرَاهُ أَنَا لِنَفْسِي، وَعَيْنَايَ تَنْظُرَانِ وَلَيْسَ آخَرُ. إِلَى ذلِكَ تَتُوقُ كُلْيَتَايَ فِي جَوْفِي)، فهو لا يتكلم عن الفادي بل عن الأخر الذي يقوم أمام الله للحساب ويقصد به الشيطان وهو يعلم أن حسده وخبث عمله كان سببا لهذه الكارثة.
أما المؤمنون جماعة الفادي الذين يبحثون في النصوص عن كلمة قام فيقولون (كان أيّوبُ رجلًا مستقيمًا، لكنّه أدرك مع ذلك أنّه كان يحتاج إلى مَن يفديه لأجل ذلك اليوم. بالرغم من كلِّ مصائبه، كان واثقًا من أنّ لديه فاديًا. بما أنّ التوراة أعلنت أنّ عقاب كلّ خطيّة هو الموت، كان على الفادي أن يدفع الثمن بحياته. عرف أيّوب أن فاديه ’’في نهاية الأمر سيقوم على الأرض‘‘. مَن كان ’’فادي‘‘ أيّوب؟ الشخص الوحيد على الإطلاق الذي مات ثمَّ قام من الأموات ليقوم على الأرض مرّةً أُخرى، هو النبيّ عيسى المسيح عليه السلام. إنّه الشخص الوحيد القادر على دفع ثمن العقاب (الموت) لكنّه ’’ في النهاية سيقوم على الأرض‘‘)، السؤال الذي لا يستطيعون الإجابة عليه هل كان أيوب على خطيئة حتى يكون أجره الموت أولا ومن ثم يقوم الفادي بحمل الخطيئة عنه ودفع ثمنها عنه، أشك أن أحدا منهم مع ما في سفر أيوب وكلام الله عنه يستطيع أن يثبت خطيئة لأيوب ولو حاولوا أن يبحثوا من جديد، لأنهم بذلك يكذبون كلام الله وينفون عنه أن أيوب نص الله به (وَكَانَ هذَا الرَّجُلُ كَامِلاً وَمُسْتَقِيمًا، يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ).