من مبادرة فرنسية لإنقاذ لبنان إلى مبادرة لإنقاذ المبادرة


حسن خليل غريب
2021 / 5 / 2 - 20:24     

غريب هو واقع النظام الطائفي السياسي في لبنان، لا بل هو نظام مريب.
نظام لا مثيل له في العالم؟!
فعلاً هو كذلك، فهو لا يتعالى فوق القواعد والشرائع التي تنظِّم علاقة الحاكم بالمحكوم فحسب، بل هو أيضاً يتعالى فوق مفاهيم العلاقات الدولية، ويعمل على استنزافها وابتزازها من أجل مصالح أحزابه المشاركة في الحكم، بحيث يستقوي كل منها بعلاقاته مع هذا الطرف الخارجي أو ذاك.
فإذا كانت مقاييس نجاح نظام، أو فشله في القيام بواجباته تجاه شعبه، تستند إلى أحكام ذلك الشعب، فقد سقط فعلاً في مناظير الشعب اللبناني، وصدرت شهادة وفاته، وشهادة الأمر بدفنه بتاريخ 17 تشرين الأول من العام 2019.
وإذا كانت مقاييس نجاحه أو فشله بالقيام بوظيفته، يستند من جهة أخرى إلى معايير المجتمعات الدولية ذات الطابع الإنساني، فقد سقط فعلاً في مناظير تلك المجتمعات، وصدرت شهادة وفاته، وشهادة الأمر بدفنه بعد تاريخ الرابع من آب من العام 2020، بعد انفجار مرفأ بيروت، وما تركه من أسباب قاطعة الدلالة تجيز إصدار شهادة وفاته وشهادة دفنه. وفي حينها طار الرئيس الفرنسي إلى لبنان، يدفعه الغيض الدولي، حاملاً مبادرة إنقاذ لما آلت إليه أزمة النظام في لبنان. فغضبت أحزاب السلطة لغضبه، ولبَّت دعوته للاستماع إلى الإملاءات التي حملها، وصفقوا لها، وخُيِّل للرئيس الفرنسي، أنه أصبح المنقذ الأساسي للبنان واللبنانيين، وأعطى لتلك الأحزاب فرصة أسابيع محدودة لتنفيذ بنود تلك المبادرة.
نتيجة كل ذلك، ونتيجة التوافق اللافت بين أهداف ثورة 17 تشرين الأول، وأهداف المبادرة الفرنسية، لاذ اللبنانيون إلى فسحة من الراحة، بانتظار مفاعيل الحدث الإنقاذي.
وإنه بدلاً من فسحة من الراحة التي انتظر منها اللبنانيون أخباراً سارة لإنقاذهم من الأزمة الخانقة، راح القلق يتعمَّق كل يوم أكثر من اليوم الذي سبقه، خاصة بعد اعتذار السفير مصطفى أديب، بعد تكليفه لتنفيذ أهداف المبادرة الفرنسية المعلنة، عن تشكيل الحكومة بسبب المطبات والعراقيل التي نصبتها له أحزاب السلطة في لبنان. تلك التي بسببها دبَّ الضعف في جسد المبادرة الفرنسية، والتي أخذت تتعرَّى شيئاً فشيئاً من زخمها الأول، وخاصة بعد تكليف سعد الحريري بتشكيل الحكومة الذي واجهته عراقيل أشد إيلاماً، وشروطاً لم تكن تتوقعها المبادرة الفرنسية. ومن ثم غرقت في بحور الشروط والشروط المضادة التي تبادلت أحزاب السلطة في إطلاق البعض منها في وجه البعض الآخر. وبدلاً من اختصار الوقت وإعلان عدم جدية أحزاب السلطة في إنجاح المبادرة، واتخاذ إجراءات دولية حازمة في دعمها، فقد غرقت المبادرة الفرنسية في متاهات الابتزاز والمساومات اللبنانية والخارجية. وكلما كان الرئيس ماكرون يوجِّه بتقديم تنازل لمصلحة حزب ما، كانت أحزاب السلطة تطلب تنازلاً آخر. وبمثل ذلك المشهد، وبدلاً من أن يكون الرئيس الفرنسي حكماً دولياً، تحوَّل إلى ما يشبه لاعباً من اللاعبين اللبنانيين من أحزاب السلطة. ففقدت المبادرة حياديتها وزخمها.
والحال على هذا المنوال أخذ يتأكد أن المبادرة التي جاءت للإنقاذ، أصبحت بحاجة إلى مبادرة لمن ينقذها. وتحوَّل الوضع المأزوم في لبنان إلى وضع مأزوم في فرنسا. وهذا ما يطرح التساؤل: ولماذا حصل ذلك، خاصة تمرد بعض أقطاب السلطة ضد تطبيق المبادرة الفرنسية؟
بداية يمكننا القول إن لبنان ما كان ليصل إلى أزمة شبيهة بالأزمة التي يمر بها، لو لم يتعلق الأمر بتقديم مصالح الطبقة الحاكمة على مصالح الشرائح الأكثر اتساعاً من اللبنانيين. والذي يعني رفض الطبقة الحاكمة تطبيق القوانين والشرائع التي تحدد مهمتها بتوفير أفضل شروط وعوامل الحياة الكريمة للمواطنين.
وثانياً، ما كانت المبادرة الفرنسية لتغرق في أزمة لو لم يتعلق الأمر بتقديم مصالح الرأسماليين في فرنسا والعالم على مصالح الشعوب. أي بمعنى إصرار فرنسا ومن يدعمها بمبادرتها الإنقاذية من أجل حماية اللبنانيين، بوسائل إنسانية مبدئية، إلى الرجوع لاستخدام وسائل المساومات السياسية من أجل حماية الطبقات الرأسمالية الدولية. ولهذا السبب الباطن وضعت المبادرة الفرنسية نصب أعينها كسب أصدقاء لمصالحها أكثر مما هو كسب للمبادئ الإنسانية، وهؤلاء الأصدقاء لا يمكن أن يوجدوا خارج منظومة أقطاب الطبقة الحاكمة في لبنان.
نجد، من تلك الوقائع، التي ترقى إلى مصاف الحقائق، هو أن تضافر مصالح الطبقات الحاكمة، على مستوى لبنان والعالم، هو المنهج المحرك للمبادرة الفرنسية. وإن الاستجابة الأولية لها من أحزاب الطبقة الحاكمة في لبنان، على الرغم من فجاجة الأسلوب الذي اعتمده الرئيس الفرنسي بالترويج لمبادرته، إنما تصب بقيم التجارة والمال، وليس بالقيم الإنسانية التي تحثُّ على الانتصار للشعوب المظلومة والتي صُودرت حقوقها لمصالح المنهج الرأسمالي الاستعماري.
وأما الآن فتبشرنا الأخبار بأن وزير خارجية فرنسا قادم على حصان محمل بقرارات من تهديد أحزاب السلطة في لبنان، وعنوان الحمولة مبدأ (إذا أردت أن تُوجع الرأسماليين وتجار السياسة، فاضربهم على جيوبهم). ولذلك، ربما جاء بلائحة من عشرات الأسماء المدرجة على لوائح العقوبات، وهو يتوخى أن يرغمهم، بتبليغهم بأسماء المشمولين بالعقوبات، على القبول بتشكيل حكومة ربما تبدأ بالخطوة الأولى من الألف ميل لحل نعرف كيف يبدأ، ولكننا لا ندري أين سيصل. وهذا التشكيك نابع من أن ربما صفقة ما سيتم عقدها بين رأسماليي لبنان ورأسماليي الخارج. ولن تطمئن قلوب اللبنانيين سوى بوضع الحلول على قواعدة (نصرة الشعوب المغلوبة على أمرها من أحزابها الحاكمة في الداخل، ومناهج أنظمة الرأسمالية الدولية والإقليمة في الخارج).
وبانتظار إنقاذ المبادرة الفرنسية، التي وضعت أصلاً لما يزعمون بأنه إنقاذ لبنان، والتي أصبحت بحاجة إلى إنقاذ، لا يمكن الركون إلى نوايا الأحزاب الحاكمة في لبنان، وأهداف ضمان مصالح الدول الخارجية، سوى ببقاء سلاح الرفض الشعبي اللبناني على أهبة الاستعداد، لكل ما يتعارض مع مصالحه، والتي يأتي على رأسها تغيير بنية النظام الطائفي السياسي المهترئ. تلك البنية القائمة على الفساد أولاً، والالتحاق بالخارج ثانياً بأسلوب من التبعية والعبودية لم يعرف التاريخ مثيلاً له.