الاشتراكية الاضطرارية


احمد المغربي
2021 / 4 / 30 - 22:34     

خلال عقود طويلة ظل تأجيل الاشتراكية نقطة التقاء جميع الاتجاهات اليسارية الاصلاحية و نقطة انطلاق سياستها في نفس الوقت ففي البلدان المتخلفة أجّلت الاحزاب الشيوعية "الثورة الاشتراكية" تحت ذريعة عدم نضج الشروط الموضوعية لمستقبل بعيد سمته المرحلة الثانية بعد "الثورة الوطنية الديمقراطية" و قضت وقتها في البحث عن تحالفات مستحيلة مع برجوازية تقدمية لم توجد في الواقع أما في البلدان المتقدمة "الناضجة" فقد وضع اليسار الاصلاحي النضال من أجل الاشتراكية ضمن الحد الأقصى في برنامجه كحلم جميل لا كمهمة آنية و انخرط في تطبيق برامج التقشف الملحة بالنسبة للرأسمالية
و رغم تكاثر حجج هؤلاء لتفادي الكفاح من أجل ما صار ضرورة ملحة منذ القرن اعشرين فقد اثبتت الأحداث التي تلت الثورة البلشفية أن "إن شتى أنواع الثرثرة حول عدم « نضج » الشروط الموضوعية للاشتراكية ليست إلا حصيلة الجهل، أو ضرب من الخداع الواعي. فالمقدمات الموضوعية للثورة البروليتارية ليست ناضجة وحسب، بل أخذت تتعفن. بدون الثورة الاشتراكية في الفترة التاريخية القادمة، تتعرض الحضارة الإنسانية بكاملها لخطر الكارثة. كل شيء مرهون بالبروليتاريا، أي بطليعتها الثورية في المقام الأول. إن الأزمة التاريخية التي تعاني منها الإنسانية تتلخص في أزمة القيادة الثورية."(البرنامج الانتقالي – ليون تروتسكي)
كما اثبتت الثورات التي اندلعت في البلدان المتخلفة صحة أطروحات الثوري ليون تروتسكي التي عبر عنها أول مرة في كراسه "نتائج وتوقعات" و التي تعرف باسم نظرية الثورة الدائمة و تنطلق هذه الأطروحة من فكرة إفلاس البرجوازية الذي بدأ منذ منتصف القرن التاسع عشر و موقعها في النظام الاجتماعي الذي يجعلها عاجزة عن قيادة ثورة أو نضال فعال ضد الاستبداد
و نقطة انطلاق أطروحته كانت فكرة أساسية في مذهب الجناح الثوري للاشتراكية-الديموقراطية الروسية بل و كانت في الواقع الخط الأساسي الذي يفصل البلاشفة عن المناشفة لكن أصالة تروتسكي و أطروحته تكمن في أنه منذ 1905 استنتج النتيجة المنطقية لمقدمته فكان الاشتراكي الوحيد الذي أدرك العلاقة بين طبيعة الثورة و الطبقة التي تقوم بها و كذلك العلاقة بين الثورة الديموقراطية و الاشتراكية و بعد ثورة أكتوبر التي أثبتت صحة أطروحته أكد لينين أيضا زوال الخلاف النظري بين الثورييْن حول العلاقة بين الثورتين فقال في الذكرى الرابعة للثورة : "إن الأولى تتحول إلى الثانية. والثانية تحل، عرضا، قضايا الأولى. والثانية توطد عمل الأولى. والنضال، النضال وحده، هو الذي يقرر إلى أي حد تنجح الثانية في تجاوز الأولى"
و رغم تعرض الثورة الدائمة لهجوم الستالينيين الذين اعتبروها هرطقة تروتسكية فقد أكدت "الاشتراكية الاضطرارية" صحتها كحقيقة بقوة منطق الواقع فبينما أمضى الستالينيون وقتهم في البحث عن برجوازية وثنية للقيام بثورة دون القفز على المراحل اندلعت ثورات قادها أشخاص لم يكونوا اشتراكيين أو ماركسيين بهدف تنمية بلدانهم و تحريرها من التبعية للإمبريالية و لم يكن تجاوز حدود أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية ضمن جدول أعمالهم لكن تحقيق تلك الأهداف في عصر إفلاس البرجوازية و سيادة الإمبريالية فرض عليهم تجاوز حدود الرأسمالية و البدء في اتخاد اجراءات اشتراكية
فمنذ نهاية الحرب العالمية الأولى و اندلاع الثورات في العديد من بلدان العالم بدأت الحلقة الأولى لمسلسل نهاية الاستعمار و التخلف و بعد الحرب العالمية الثانية وصل المسلسل للجزء الذي أسعد جميع الثوار و الأحرار و ملأت العالم الثورات ضد التخلف و الاستعمار لكن في هذا الجزء برزت مشاكل لم تكن واردة في ذهن ممثلي الثورة فاتضح لهم أن الصراع ليس فقط ضد غزاة اجانب و أقلية من عملائهم المحليين و أن مسائل التنمية لم تجد حلها بعد طرد جنود الامبريالية أو إسقاط الأنظمة الديكتاتورية
و باستثناء الصين و فيتنام التي تم حل مشاكلهما بثورة اشتراكية (رغم اعلان قادتهما الوفاء للمذهب الستاليني-المنشفي) فأغلب البلدان التي كانت خاضعة للاستعمار و التخلف إما عجزت عن تحقيق التحرر الحقيقي و الاصلاح الاجتماعي و كان هذا هو حال البلدان التي سيطرت فيها البرجوازية على النضال أو فرض عليها تحقيق أهدافها السير في طريق الاشتراكية الاضطرارية و كان هذا حال مصر و كوبا فبخلاف الثوار الصينيين و الفيتناميين لم يكن للقادة المصريين و الكوبيين أي منظور معادي للرأسمالية بل كان بين صفوف الضباط الأحرار و حركة 26 يوليو بعض المعادين للاشتراكية و بعد انتصار الثورة لم يحاول عبد الناصر و كاسترو الدخول في صراع مع برجوازيتهم المحلية أو الامبريالية الأمريكية بل وحاولوا حتى تكوين علاقة جيدة مع هذه الاخيرة ففي جولته لنيويورك بعد الثورة دعا كاسترو الرأسماليين الأمريكان للاستثمار و المساهمة في تنمية كوبا
لكن بينما كان لعبد الناصر و كاسترو أوهام ونية حسنة كان للطفيليين المحليين و اللصوص الأجانب مصالح و شهية غير محدودة للنهب فما إن أُعلن الاصلاح الزراعي(الغير اشتراكي) في مصر و كوبا حتى تعالت أصوات ملاك الأراضي و أبنائهم البرجوازيين منددة بانتهاك الحق في المِلكية [التي تفرض كشرط لوجودها انعدام المِلكية بالنسبة للأغلبية الساحقة من المجتمع (البيان الشيوعي)] و ما إن اختار ناصر وكاسترو الاستقلال في سياستهم الخارجية حتى شنت الامبريالية حملة ميكارثية تتهمهما بالشيوعية
و زادت حدة التباعد و الصراع بعد عزم الزعيمين على سن قوانين عمل تساهم في التنمية الوطنية و تنهي فوضى النهب التي كانت تمارسها الشركات الامبريالية فتم حذفهما من لائحة العملاء المحتملين و وُضعا في لائحة المعضوب عليهم من طرف اللصوص الامبرياليين و بدأت المؤامرات ضد الثورتين ليبدأ معها تجذرهما و تقدمهما نحو الطريق الاشتراكي
و سيرورة التجذر التي كانت بطيئة في مصر قدمت أفضل توضيح لكيف تفرض الاشتراكية الاضطرارية نفسها على البلدان المتخلفة كبديل وحيد للتنمية فعلى عكس القيادة الكوبية لم يرفض أغلب القادة المصريين في البداية انتهاك حقوق العمال لتشجيع الرأسمال المحلي و الأجنبي على الاستثمار بل بلغ ظلم العمال في قوانين 1953 درجة دفعت خالد محي الدين لتقديم استقالته من مجلس قيادة الثورة لكن حتى تلك السياسات القمعية و الشبه فاشية لم تكن حلا للتنمية بسبب الطبيعة الطفيلية للبرجوازية في عصر الامبريالية فضعف البرجوازيين و ولعهم بالمضاربة و الربح السريع كان يعني أن التحديث الحقيقي للبلد لم يكن بين أولوياتهم و اهتماماتهم هذا بالطبع فضلا عن أن تلك السياسات كانت مغامرة كلفتها السياسية و الاجتماعية باهظة جدا إذ كانت وصفة لخلق "اجماع وطني" معارض لنظام الضباط و هذا ما أقنع ناصر بضرورة السير في الطريق الغير رأسمالي رغم أنه بخلاف كاسترو لم يستطع أن يسير فيه حتى نهايته فنشأ في مصر اقتصاد مختلط بين نقيضين متصارعين و كان لهيمنة البيروقراطية على القطاع العام و لسيطرة نخبة الضباط على الحياة السياسية دور حاسم في انتصار أحدهما على الآخر بعد وفاة عبد الناصر
لقد أظهرت السياسات الغير رأسمالية تفوقها في بلدين كانا متخلفين و رغم كل ما يمكن أن نقوله عن التجربة المصرية و الكوبية فلا يمكن إنكار الانجازات العظيمة التي نتجت عن السياسات الاشتراكية و فقط اليمين الرجعي من ينكر أن البلدين مقارنة بمحيطهما كانا مثل حسناء يحيط بها الوحوش فالبلدان التي لم تسر في طريقهما ظلت غارقة في الديكتاتورية و التخلف و التبعية
و إن كانت هناك خلاصة للسطور السابقة فهي أن "المفتاح الوحيد لتحرر و تنمية البلدان المتخلفة هو الاشتراكية" و رغم أن وجود الاتحاد السوفييتي و الكتلة الشرقية سابقا كان عاملا مساعدا جدا لمصر و كوبا فغيابه الآن لا ينفي وجود إمكانيات أخرى أهممها انتشار الثورة في محيطها كما أن حقيقة سيطرة الديكتاتوريات الحاكمة و حاشيتها على جزء كبير من الاقتصاد في بلدان منطقتنا تجعل التأميم ضرورة ثورية ملحة و بالإضافة لهذا فبلدان المنطقة تواجه تهديدا حقيقيا من طرف الفاشية الظلامية و بدون ثورة اجتماعية جذرية توحد كل الفئات الشعبية سيستطيع القطب الرجعي استقطاب الجماهير اليائسة و آنذاك قد يستغرق التخلص من الكارثة وقتا لن يكون قليلا "فإما الاشتراكية أو البربرية"
ملاحظة ضرورية
بالنسبة للستالينيين الذين أمضو وقتهم في البحث عن برجوازية وثنية أقصد الأحزاب الاصلاحية التي كانت من نمط حزب علي يعثة أما المنظمات اليسارية الثورية فرغم اختلافي مع افكارهم حول البرجوازية و الثورة المرحلوية أحترم تضحياتهم ونضالهم في سبيل تقدم شعوبهم إذ أن أغلب هؤلاء أمضو حياتهم في سجون الديكتاتوريات القمعية