يوميات نصراوي: كيف نحتفل بالاستقلال وشراع الحق حطام؟


نبيل عودة
2021 / 4 / 29 - 13:10     

نبيل عودة

* والدي لمدير مدرستي دفاعا عن حقائق النكبة التي اغضبت المدير: طز في مستقبله إذا بني على الكذب والتزوير*

بينما تحتفل اسرائيل بمرور أكثر من سبعة عقود على قيامها، وكما في كل مناسبة، استعيد في ذاكرتي الكثير من الصور والذكريات المرتبطة بهذه المناسبة. ومنها حدثان لا يغيبان عن ذاكرتي ابدا.

1 - كيف نحتفل وشراع الحق حطام؟

شاركت بلقاء مع طلاب يهود ثانويين يساريين وشيوعيين في اوئل الستينات من القرن العشرين، تفاجأ الطلاب اليهود اننا لا نحتفل باستقلال الدولة. عبثا حاولنا بمفاهيمنا السياسية الأولية ولغتنا العبرية الضعيفة ان نشرح ما يؤلمنا في هذا اليوم. بعد حوار طويل أشبه بالحوار السفسطائي، او حوار بين طرشان، نجحنا بمساعدة مرشدتنا التي هي أيضا لا تعرف العبرية بشكل مقبول، في ايصال بعض ما يؤلمنا.

راودتني فكرة.

سألتهم: ما هو شعوركم بمثل هذا اليوم الذي يسمى استقلال اسرائيل؟ كان ردهم متشابها: الشعور بالأمان والسعادة ان لهم دولة تحميهم وتجعلهم اسوة بجميع الشعوب. قلت لهم فورا اول جملة تيسرت لي بالعبرية: هذا بالضبط ما ينقصنا نحن. واضفت بلغة مكسرة بمساعدة سائر الزملاء العرب والمرشدة: استقلالكم يعني تشريد أكثر من مليون فلسطيني من شعبنا. استقلالكم يعني مصادرة اراضينا. استقلالكم يعني اننا صرنا مواطنون اقل شأنا منكم. استقلالكم يعني ارهاب الحكم العسكري وتقييد حريتنا بالتصاريح. استقلالكم جر علينا كوارث تدمير أكثر من 500 بلدة عربية وطرد سكانها. استقلالكم يعني مجزرة كفر قاسم رغم انهم يعتبرون مواطنين في دولة اسرائيل مساوين لليهود حسب القانون على الأقل... وربما اضفت نماذج اخرى ليست اقل شانا.

كان ذلك في سنوات الستين من القرن العشرين، والتطورات عمقت حدة النزاع مع الفلسطينيين ومع سائر الشعوب العربية حتى التي وصلت بغفلة من زمن عربي ضائع (وحتى اليوم كله زمن ضائع)، الى اتفاقات سلام مهينة لكل منطق سياسي سليم، على الأقل بتحولها الى وسيط بدون شرف، وبدون علاقة بقضية العرب المركزية .

2 - طز في مستقبله إذا بني على الكذب والتزوير

في مناسبة استقلال أخرى للدولة، وكان الحكم العسكري يتحكم بالقمع والارهاب بالأقلية العربية الباقية في وطنها، بدون رقيب وذلك تحت مظلة قوانين الانتداب الاستعماري البريطاني لفلسطين.
كان الحكم العسكري من نصيب المواطنين العرب فقط، تخضع له جميع مناحي الحياة وخاصة فرص العمل والوظائف في المؤسسات وحق التنقل داخل الوطن. حتى للعمل خارج بلداتنا كنا نحتاج الى تصاريح عسكرية محدودة بالزمن والساعة والمسار المسموح، وقد عانيت انا شخصيا من حرية التنقل بسبب الاقامة الجبرية التي فرضت بسبب نشاطي السياسي وبداية نشاطي الثقافي والاعلامي، وذلك بعد انهائي للثانوية مباشرة، وحاجتي لإيجاد عمل ومواصلة دراستي الجامعية).
ولا بد من التنويه ان تعسف الحكم العسكري برز بالتحكم بالتعليم العربي، اقرار المناهج التعليمية، التوظيف لسلك التعليم وارهاب المعلمين، ساد الخوف بين المعلمين من امكانية طردهم من التعليم إذا لم يتقيدوا بالتعليم حسب الكتب المنهجية الضعيفة والتافهة التي تشوه اللسان والعقل.
انتشرت في تلك الفترة ظاهرة طرد المعلمين العرب من سلك التعليم، لأن الحكم العسكري لم يعد يثق بتبعية المعلم والتزامه بالبرنامج التعليمي المقرر في دوائره. هناك معلومات ان ظاهرة السيطرة الأمنية على جهاز التعليم ظلت سائدة بقوة حتى سنوات قليلة ماضية، وربما آثارها القوية باقية حتى اليوم، اذ هناك شكوك اليوم بان جهاز التعليم العربي ما زال يخضع لرقابة أمنية شديدة رغم الاتساع الكبير في مساحة الحرية، هذه الحرية النسبية اليوم لم تحدث في فراغ، بل بثمن نضالي كبير.

كان الخطر على لقمة العيش مسلطا فوق الرؤوس، ساد وقتها جو كئيب في مدارسنا، امتنع الكثير من المعلمين عن التعبير عن آرائهم او اضافة معلومات من خارج كتب التعليم، والتوسع في مواضيع الدراسة، خوفا من سيف الفصل من العمل، المؤسف ان هذه الظاهرة لم تؤرخ بشكل يظهر ممارسات الحكم العسكري الذي أطلقته دولة اسرائيل على رقاب الأقلية العربية وأطلقت يده الحرة حتى بالتضييق على لقمة الخبز للمواطنين بطريقة تعسفية استبدادية وارهاب متواصل لدرجة خوف المواطن من التعبير عن رأي لا يقع جيدا على آذان زلم دوائر الحكم العسكري. للأسف تحول بعض المعلمين الى مخبرين رغما عنهم، او استسلاما للأمر الواقع وربما بعض الطلاب ايضا أصبحوا عيونا تراقب وتدون وتنقل؟!
نعود لموضوعنا:

في عشية أحدى مناسبات الاستقلال وكنت طالبا بالصف السادس بالمدرسة الابتدائية، طلب معلم العربية من صفنا ان نكتب موضوع انشاء بهذه المناسبة السعيدة للعرب ، شرح لنا استاذ اللغة العربية (مرغم اخاك لا بطل) كيف تطورنا وتقدمنا (هل صرنا اشبه بالإنسان ؟)، انتشرت المدارس والتعليم وصار العرب بفضل دولة اسرائيل عمالا في المصانع وفي البناء دون ان يذكر ان مصادرة الأرض العربية اجبرت الفلاحين للتحول الى العمل المهني ونقلتهم عنوة من مجتمع فلاحي الى مجتمع شبه مدني مع مشاكل هذا الانتقال القسري وتناقضاته الصعبة على جميع المستويات.

كنت ابنا لوالد شيوعي وام مثقفة اهتمت بتدريسي اللغة العربية على صفحات جريدة الحزب الشيوعي (الاتحاد) .. وصرت قارئا ممتازا منذ الصف الثالث ولم اترك كتابا في مكتبات ابناء العائلة الكبار الا وقرأته، حتى لو لم افهم الكثير من نصوصه.

كنا نعاني وقتها من حصار ثقافي ومنع الكتب من العالم العربي وكل طباعة كتاب يجب ان تمر على الرقابة العسكرية. سحرتني الروايات والقصص وبدأت منذ الصف الرابع في صياغة القصص مقلدا ما أقرأ، عشقت الانشاء العربي ولكن شرح المعلم لم يعجبني ويتناقض مع المعرفة التي نشأت عليها والمعلومات التي بدأت تشكل بداية وعيي السياسي المبكر، فكتبت موضوعا عن النكبة والتشريد واللاجئين ومصادرة الأرض والحكم العسكري، لا اتذكر بالتفصيل ما كتبته، لكن مربي الصف، لم يكن هو نفسه مدرس اللغة العربية، دخل بوجه شاحب غير عادي، ظنناه لوهلة مريضا، وضع حقيبته على المنضدة، التقط دفترا تبين انه دفتري، ناداني بصوت مخنوق شعرته يكبت مخارج الكلام : نبيل خذ دفترك واذهب الى غرفة المدير.

عرفت انه دفتر الانشاء، لم افهم السبب، لكن وجه المعلم وصوته المخنوق أدخلني بحالة خوف. ماذا كتبت حتى يستحق هذا التجهم والارسال للمدير الذي كان معروفا بقسوته وتعاونه مع أجهزة الأمن؟
هل سُر بما كتبته عن استقلال الدولة؟

استقبلني المدير بصراخ وتهديد لم اعهده، للحقيقة شعرت بخوف شديد وارتباك وجف حلقي ولم أنبس ببنت شفة. شعرت إني بعد قليل سأُعلق على حبل المشنقة. بعد وجبة الصراخ والتهديد والوعيد والتنويه بالخطر على مستقبلي، فهمت إني كتبت موضوعا يعتبر تجاوزا خطيرا يعرضني للعقاب من الشرطة ويعرض معلمنا لخطر الطرد من التعليم. أمرني المدير ان انصرف الى البيت ولا اعود الا مع والدي ليتعلم كيف يربيني.

كان والدي نجارا مستقلا، وصلت الى منجرة والدي، بصعوبة افهمه ابنه المرعوب ما جرى. ما اخرجني من رعبي ان والدي بدأ يتذمر بغضب من المدير وسياسة السلطة الغاشمة واعتقادها ان تشويه الحقائق سيغير من الواقع. كنت عادة أقرأ قصصي ومواضيعي التي أكتبها على مسامع جمهوري العائلي، لذلك كان والدي على علم بما كتبت. قال لي لا ترتعب ليذهبوا الى الجحيم، يريدون ان يعلموا الطلاب على الخنوع والخوف، ان ما كتبته في موضوعك هو الحقيقة التي لا يمكن تزويرها.

شعرت بالاطمئنان والراحة.
رافقني في الطريق عائدا الى المدرسة. دخل غرفة المدير وانا مختبئ وراءه. لم يعط للمدير ان يقول أكثر من جملة: هل انت على علم بالحماقة التي كتبها ابنك؟ فرد عليه: ان حماقة ابني أفضل من تضليل جهاز التعليم وتشويه عقول الطلاب. فقال المدير ان مستقبل الولد سيكون في خطر، رد والدي بغضب: طز في مستقبله إذا بني على الكذب والتزوير.

بالطبع ذاكرتي لا تحتفظ بنصوص دقيقة لما جرى، لكني اكتب عن مجمل الحدث الذي لم يغادر ذهني كلما كتبت مقالا او قصة وربما ذلك الحادث المترسب في ذهني جعلني حادا في مواقفي، بل وعنيفا احيانا في نقدي لمواقف ارى انها تفتقد للمصداقية.

هكذا عدت الى الصف منتصرا ومستوعبا ان الحقيقة يجب ان تقال.

ملاحظة: الحزب الشيوعي الأرض اسرائيلي (الصهيوني) انكشف دورة كأخطر اداة لعبت دورا سياسيا وعسكريا واعلاميا عبى قيام دولة اسرائيل، وكان الحزب الشيوعي المتحد (بين عصبة التحرر- تنظيم شيوعي عربي- والحزب الشيوعي الصهيوني بقيادة ميكونس) يصدر سنويا تهنئة بمناسبة الاستقلال، كانت تثير انتقادات الشيوعيين العرب الذين يجهلون مواقف رفاقهم من القادة العرب، المبايعة بلا خجل للدولة التي شردت شعبهم وهدمت قراه وارتكبت ضد مواطنيه العزل مجازر رهيبة ابرزها دير ياسين والصفصاف، وكانت خطابات القادة العرب للحزب(كما يبدو تنفيذا لموقف ستالين المخجل والمبايع للحركة الصهيونية) في اول سنوات النكبة، مخجلة ومدافعة بوقاحة نادرة عن حق تقرير المصير للشعب اليهودي بدولة مستقلة وتجاهل حق الشعب الفلسطيني بدولة مستقلة على اساس قرارات التقسيم للأمم المتحدة على الأقل!! واذا استعمل هذا الشعار فكان ذرا للرماد في العيون، وخصص للجمهور العربي. ولدي وثائق مذهلة امتنع عن نشرها لكنها ترجمت نشرت من باحثين عرب، ولم تنشر في وقتها الا باللغة العبرية بصحيفة الحزب، ولم تنشر باللغة العربية الا قبل سنوات بعد ان قام باحثين ومؤرخين عرب بترجمتها من ارشيفات صحيفة الحزب العبرية "كول هعام"!!