الكتّاب يقومون من أضرحتهم


حسن مدن
2021 / 4 / 27 - 00:45     

الولع بموت الأشياء والظواهر ليس أمراً جديداً، حيث أخذت بعض اتجاهات ما يعرف ب«ما بعد الحداثة» منذ العقود الأخيرة في القرن الماضي بالتبشير ب«موت الفلسفة، و«موت الشعر»، و«موت المؤلف»، و«نهاية الرواية»، طبعاً من دون أن نغفل الحديث عن «موت الإنسان» نفسه، وكذلك التبشير ب«نهاية التاريخ» على يد فرانسيس فوكاياما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتصدع النظام الدولي السابق.
هذا الولع ليس جديداً كما ذكرنا، فقد سبق الحديث عن ذلك، أو عن بعضه على الأقل، على لسان الفيلسوف الألماني الأهم هيجل، الذي تحدث بدوره عن «نهاية التاريخ»، وعن "موت الفن"، وهو بالطبع لم يكن يقصد أن الفن لن يعود قائماً بعد ذلك، وإنما كان يعني أن الفن بلغ ذروته، وأعلى مراحل نضجه، ولن يكون جديد في هذا الفن بعد ذلك، وإنما تكرار ومحاكاة للمنجز الكلاسيكي.
وربما يعبر القول التالي له عن هذه الفكرة بوضوح: «لا يمكن لعصرنا أن ينتج من هم بقامات هوميروس، وسوفوكليس، ولا دانتي، وأرسطو، ولا شكسبير، فما أنشد بهذه الروعة، وما جرى التعبير عنه بالحرية التي فعلها هؤلاء الشعراء الكبار، حصل لمرة واحدة، وأخيرة».
يصح على فكرته حول «نهاية التاريخ» الأمر نفسه، فلم يكن يعني أن الزمن سيتوقف عن الجريان، ولكن شيئاً أرقى من الذي بلغته الحضارة الجرمانية، يومذاك، لن يأتي، وبالتالي فإن ما سيأتي بعد ذاك ما هو إلا تنويع على الذي كان. وبدت أطروحة فوكاياما حول الموضوع نفسه تكراراً كاريكاتيرياً للأطروحة الأصلية، لأن الأخير لا يتوفر على العدة والتأسيس الفلسفيين العميقين اللذين كانا لهيجل.
من يقولون اليوم ب«موت الفن»، و«نهاية تاريخ الفن، أو اعتبار الفن لا شيء»، حسب جان بودريار، لا يقولون، إذاً، شيئاً جديداً، فسوى هيجل قال الأمر أصحاب ومريدو مدارس فكرية وفنية مختلفة، بينها الددائية والسوريالية، بل إن مريدي الأولى أصدروا عشرات البيانات المبشرة بمثل هذا الموت.
لكن لا شيء من الذي توقعه هيجل، وكرره غيره في القرن العشرين، وفي قرننا الحالي أيضاً، قد حدث، فالفن لم يمت ولن يموت، ويلفتنا الدكتور زكريا إبراهيم في كتابه: «الفنان والإنسان»، إلى ما طرحه بعض الفلاسفة المعاصرين كهربرت ماركيوز، مثلاً، حول تحوّل الأعمال الفنية إلى سلع تجارية، خاضعة لمقتضيات السوق، وهو أمر صحيح إلى حدود بعيدة، لكن هذه الفكرة تظل ناقصة، إذا لم يجر ملاحظة أن الفن، في القديم، كان حكراً على النخبة الثرية والمتعلمة، ولم يكن متاحاً للعامة كما هو الحال اليوم.
وبعبارة زكريا إبراهيم، فإنه سيكون من السخف «الاعتراض على بيع مؤلفات أفلاطون، وهيجل، وشيلي، وبودلير، وفرويد، وغيرهم في المحال العامة»، بل، بالعكس، فإن هذا يؤكد أن «الكتّاب الكلاسيكيين قد قاموا من أضرحتهم، وعادوا إلى الحياة من جديد».