الحالة الإيمانية تُخرب وتُدمرعقولنا وإنسانيتنا


سامى لبيب
2021 / 4 / 26 - 22:15     

لفت إنتباهي أن الحوار المتمدن خصص محوراً لكتابة السيرة الذاتية لأرى أننى أحمل بين ثنايا دماغي الكثير من الذكريات الجديرة بالذكر , ولكني لم أجرؤ على الكتابة في هذا المحور تحت رؤية صنمية غبية أو قل حالة من التواضع ترى أن الذين يحقون لهم الكتابة عن سيرتهم الذاتية هم الأشخاص المميزون أصحاب المكانات المرموقة المشهورة وأنا لست كذلك , فهكذا إعتاد تفكيري النمطي فى هذه المسألة , لأخجل أن أكتب سيرتى حتى لا أحتل مكانة ليست لي , ولكن تفكيري تغير وتبدل وأدركت حماقة نظرتي هذه وتقييمي هذا , فليس بالضرورة أن يكون كاتبي السيرة الذاتية إناس أصحاب شأن وشهرة , فلتكن الأمور فى إطار الرغبة فى البوح وتدوين الخواطر والذكريات القديمة التي لها جمالها ومغزاها ورؤيتها الفكرية , ولتكن الكتابة أيضا القدرة على البوح والصراخ وتنفيس ما فى الداخل الإنساني من حزن وفرح وغضب وبراءة , لذا سأكتب ذكرياتي وملامح من محطات حياتي .

أعلن أحد المعلقين فى إحدى مقالاتي مهاجماً ساخراً أن أفكارى طفولية لا تتجاوز مرحلة الصبا .. فى الحقيقة لم أغضب من هذا التعليق بالرغم أن صاحبه يريد السخرية , فبدلاً من أن يواجه ما أطرحه لجأ إلى الإزدراء سبيلاً , ليكون ردى أننى أفتخر أن جذور الكثير من أفكارى كانت فى مرحلة الطفولة والصبا حيث إنطلقت تتأمل الحياة بجرأة وشجاعة بلا قيود ولا قولبة ولا تلقين , أفكار إنطلقت بشفافية تبحث وتريد أن تعرف لتمتلك الجرأة والقدرة على الدهشة فيما هو مطروح فى زمن فقد الكثيرون الدهشة , لتعلن عن توقفها لتصرخ به فى أجواء تقبلتها في البداية برفق لترفضها في النهاية بقسوة , لأتعلم أن أتامل وأندهش ولا أعلن عن تأملاتي القوية لأحد ممتنعاً عن البوح بها لتجد مصيرها للكتابة فى كشكول إحتفظت به لذاتي كشكل من أشكال البوح .
أعتز بطفولتي وصباي عندما إمتلكت القدرة على التأمل والتوقف والصراخ بجرأة لتصطدم بما هو مقدس وراسخ , مُستنكرة الكثير من المشاهد , مُعلنه رفضها لها بجرأة أحسد عليها , ولكونها فى إطار الطفولة فقد تم الترفق بها فى البدايات أملا فى ترويضها ثم صارت مُستهجنه فيما بعد , ولكن هذا أفضل حالا من حال صديقي أحمد الذي شاركني بعض التأملات فكان مصيره هو حرق كف يده بملعقة ساخنة , لأتعلم أننى يجب أن أكون حذراً وليس الحذر بالكف عن التفكير بل بالإعلان عنه , فالجهر به سيجلب الحرج لأهلي , لذا تعلمت أن أفكر وأصرخ بأفكاري فى مذكراتي لأخلق المعادلة بين التأمل والتفكير والبوح على أوراقي , كما أقتدي بقول المسيح : لا تعطوا قدسكم للكلاب .
فى هذا المقال سأتناول ذكرياتي ومواقفي البدئية من أحداث مرت بي لأصل إلى أن الإيمان يُخرب ويُدمر عقولنا وإنسانيتنا ومصداقيتنا ونقاءنا .

- الببغائية والزيف .. لن أصلي بعد اليوم .
فى الثانية عشر من عمري وصلت لأقوى قرار فى حياتي حينها عندما أعلنت لأبي أنني لن أصلي بعد الآن .. كان والدي يجمعنا للصلاة صباحاً قبل الإفطار والذهاب للمدرسة من خلال كتاب الصلوات المدعو بالأجبية لنقرأ صلاة باكر ونرددها ومن تكرارها لم نكن بحاجة أن ننظر إلى الأجبية .
أصابنى حالة من الملل الشديد من هذه الببغائية كما إنتابتني دوماً حالة من عدم التركيز بشرودي الدائم أثناء الصلاة لأفكر دائنا في أمور شتى بعيدة عن الصلاة , ليأتي يوم الجمعة الذي أتذكره جيدا ليوقظني أبي من النوم للصلاة فأمثل أننى غارق فى النوم حتى أهرب من الصلاة ليقول : قوم يا إبني فبكره هنموت وننام كثيرا .
إنتابتنى حالة من الثورة والشجاعة لأصرخ فى وجه أبي معلناً أنني لن أصلي لينتاب أبي حالة من الذهول والصدمة , ولن أذكرك بحال الأباء فى هذا الزمن خاصة أبي , ليسألني لماذا , فأرد عليه لأنني أحس بملل شديد وينتابني الشرود الدائم فلا تركيز لدي لأحس أننى ببغاء أو شريط كاسيت يفرغ محتواه .. يصمت أبي قليلا ليعلن بعدها أن الشيطان يتملكني ويعبث بدماغي .
وجه أبي بعض الكهنه لهدايتي لأقدم أحاسيسي وإنطباعاتي عن الصلاة والملل والشرود الذى ينتابني فكان ردهم نفس ما قاله أبي بأن الشيطان يعبث بدماغي ! وينصحني أحدهم بالتغلب على الشيطان بدوام الصلاة والتكرار !
المهم أنني أصبت بحالة من الإرتباك الشديد فلماذا أنا موقفي من الصلاة بهذا الشكل بينما أري الآخرين يعلنون عن سعادتهم بالصلاة , فلماذا أنا مختلف ؟!
إقتربت من أصدقاء وزملاء مسيحيين ومسلمين سائلاً عن حالتهم أثناء الصلاة ليجيب الكثيرون أن السعادة والصفاء الروحي يتملكهم ,وليعلن البعض فى لحظات شفافيتهم أن الشرود ينتابهم أثناء الصلاة بل يذكر البعض أن الخيالات الجنسية حاضرة أثناء الصلاة.
لقد أدركت شيئا حينها أن هناك زيف وببغائية وعدم مصداقية ليعلن المؤمن عن حالة لا يتعايشها مخالفاً لحاله , ولأجد أن تلك الحالة المزيفة تنتاب سلوكه دوما ليعلن عن تلك الحالة من السعلدة والصفاء الذي ينتابه أثناء الصوم أو زيارة الأماكن المقدسة فلا يكون هذا إلا وهم وتزييف للواقع .
مع نضوجي الفكرى وقدرتي على التحليل أيقنت أن كل من يدعي بأن الصلاة تغمره بالسعادة والصفاء وأنه لا يشرد أثناءها ماهو إلا مُزيف ومُنافق , فالإنسان لا يركز إلا بما هو موجود وملموس ومحسوس حينما يكون فى حالة تواصل وتفاعل مع كل كلمة تخرج من فمه تجاه كيان مُحدد , فكيف يكون له تواصل وتركيز مع كيان لا يعلم ماهيته وكينونته , فكيف يتخيل ويتفاعل مع كيان غير مرئ ولا مادي ولا محدد .

- إنعدام المصداقية مع النفس .
لاحظت فى صباي الهوس بالشيطان وإستحضاره فى كل مشاهد حياتنا , فكان أخي يبرر أخطاءه وحماقاته أمام أبي المهووس بفكرة الشيطان بأن الشيطان ضحك عليه وخدعه وأنه سيصلي للرب طالبا القوة والعون .
بينما كنت مؤمنا بجود إله فى حداثتي فلم أقتنع بوجود الشيطان لأري أنه شماعة لهروبنا من تحمل المسئولية عن أفعالنا وسلوكنا وحماقاتنا فهناك من أغوانا وفعل بنا هذا بينما هي أفعالنا بملأ إرادتنا ووعينا فهل دخل الشيطان تلاليف الدماغ ليغوينا .
عند نضوجي الفكري أدركت أن فكرة الشيطان هى عدم المصداقية مع النفس وعدم الشجاعة بالإعتراف بالخطأ وتحمل النتائج , ليخترع مبدع المنظومة الإيمانية فكرة الشيطان ليس لتبرير الشر فحسب بل مغازلة الإنسان لجذبه وتشبثه بالدين فهناك مخرج لسلوكه وذنوبه بتحميلها للشيطان وان الدين هو الداعم له بالمقاومة .

- بلادة المشاعر .
فى طفولتي وصباي أعلنت إستيائي وغضبي من المذابح والهمجية التى باركها الرب خاصة ما تسمي بالضربات العشر لأعلن ثورتي وغضبي من المصائب والبلايا التى أطلقها الرب على شعب مصر فداء شعب إسرائيل , والغريب والعجيب أن الرب قسى قلب فرعون ليتمجد بهذه البلايا .. ليكون غضبي من منطلق إنساني فما ذنب الشعب المصري ليُباد ويُذل هكذا , كما كانت مصريتي داعية للرفض والإستنكار .
أعلنت عن إستيائي من قصة الضربات العشر عالياً مما أثار إستغراب وإندهاش الكثيرون , لأجد أن تلك المصائب البشعة التى أصابت المصريين لم تُحرك أى شعور بالتوقف والإستهجان لدي الدينيين بل على العكس فقد تكلل هذا الفعل الإلهي بالعظمة والتمجيد فهكذا هو الرب قوي وجبار وكأننا فى مصارعة للمحترفين ليحظي الأكثر قوة وشراسة وبطشاً بالتمجيد والفخار .
حاول أن تبحث فى سلوك المؤمنين أمام الأعمال الإرهابية والهمجية للإله أو أنبياءه فلن تجد أي توقف أو إستهجان بل يصل بالكثيرين منهم لتمجيدها وتقديرها لنصل فى النهاية أن الحالة الإيمانية أصابت المؤمنين ببلادة لبمشاعر والإحساس .

- بلادة عقل والتغابي وتمرير جمل من سم إبرة .
إستغربت فى فترة صباي من أن الخرافات والمغالطات العلمية تمر أمام المؤمن فلا يتوقف أمامها أحد , فقد رصدت هذا الخرافات وقدمتها فى سلسلة مقالات هنا بعنوان :" مائة خرافة مقدسة " , وبعض الخرافات المذكورة فى هذه السلسلة إستوقفتني قى فترة الصبا ومنها على سبيل المثال أن الله سيقذف بالنجوم التى تعادل شمسنا أى مليون مرة حجم الأرض على الأرض وأن النجوم والشهب هى راجمات للشيطان فى الرواية الإسلامية !
إنتابتني الحيرة فلماذا أنا أتوقف أمام هذه النصوص والمزاعم وزملائي لا يتوقفون أمامها ؟! لأدرك أن السبب يكمن فى الإيمان أى التصديق والتسليم والتقديس ليمررها المؤمن كمن يمرر جمل من سُم إبرة , ومن هنا ترسخ العملية الإيمانية التغابي والإهمال والبلادة الفكرية , بينما ما إنتابني من توقفات ماهو إلا جرأة وشجاعة عقل قادر على التفكير والتمحيص بلا خوف ولا إنبطاح .

- أنا لا أحب الله ولا أكرهه .
أعلنت فى صباي قول بأننى لا أحب الله ولا أكرهه فى مواجهة القول بأن الله يحبك فهل أنت تحبه أيضا .. جاءت مقولتي من خلال قراءة أحاسيسي ومشاعري بمصداقية كما أحسها بلا زيف ليثير قولي هذا إستنكار وإستياء الكثيرين .
عندما إمتلكت لاحقاً درجة من النضج والتحليل الفكري والنفسي وجدت أن مقولتي الفطرية هذه صحيحة , فالحب والكراهية مشاعر تأتى من تواصل وتفاعل بين طرفين محسوسين يدركان بعضهما فكيف تتولد مشاعري بالحب أو الكراهية مع كائن غيبي يطلقون عليه لامادي غير مُدرك .
إن مقولة الله يحبني وأنا أحب الله هي الزيف والوهم بعينه , فالله بإعتباره مطلق كلي العظمة والحكمة لا يمكن أن يحب أو يكره , كما تجعله بشري الفكر , فالحب والكراهية جاءت بتفاعله مع الحدث لتنتج مشاعر بشرية بالحب أو الكراهية , كذا مقولة أنا أحب الله هي كل الزيف فكيف تحب كيان لا تعرف ماهيته ولا تتلمسه .
قد يقول البعض أن الحب للفكرة وهنا إعترفوا بالإله كفكرة وليس كوجود , وليعلموا أنه لا مكان للحب مع اللا مُدرك , كما أن العقل الناضج لا يجب أن ينزلق لحب أو كراهية فكرة .

- الجبن والخوف الرابض فى الضلوع .
أعلنت فى صباي أننى لا أخاف الله ليعلن الكثيرون عن إستيائهم وإستنكارهم لقولي هذا ليكون تبرير قولي حينها أن هذا ما ينتابني من إحساس بعدم الخوف نتاج قناعتي أن هذا الرب العظيم خالق هذا الكون الهائل بمليارات مجراته ونجومه وكواكبه يستحيل أن يغضب وينتقم من شخصي الضعيف الكائن على ذرة تراب فى صحراء كونه الشاسعة !
لاحظت فى صباي أن المؤمنين لا يؤمنون بالله من منطلق أنه خالق ومُسبب الحياة فهذا الشي لا يعنيهم كثيراً , فكل ما يعنيهم أنهم يستعينون بالإله لمواجهة الخوف من الحياة بحاضرها ومستقبلها , كما لاحظت أيضا أن العملية الإيمانية هى تصدير دائم للخوف من الطبيعة وأهوالها .. من الحاضر والمستقبل ..من المرض والمصائب والبلايا .. من الموت .. من النار والعذاب , ألخ لتصل الأمور إلى الخوف من الإمتحانات والفشل .
يكون الله هو الداعم لنا ضد هذا الخوف فهو المُعين والستار والحافظ ليبقى سؤالي قائما : ماذا لو لم أخاف من كل هذا لأمارس الحياة بشجاعة كما أن المصائب تصيب المؤمنين الخائفين وغير الخائفين , فما معنى الخوف وما أهمية وجدوي الإله .

- إجترار الوهم وإستحضاره .
هذا التأمل راودني فى مرحلة الشباب عندما أعلنت أمي أنها تنتظر الموت فداء لقاء أخي الشاب المتوفي فى ملكوت السموات فهكذا آمنت بالبعث , وأتصور أن الكثيرين سبقها في هذا الأمل أو قل الوهم فكيف تأمل فى لقاء أخي وقد تحلل وصار تراب فى قبره .
فى الحقيقة لم أستهجن هذا التصور ولم أعلن رفضي له فقد وجدت أن الوهم قد يريح ويعزي في بعض الأحيان فليس هناك مشكلة أن يعيش الإنسان الوهم طالما سيريحه من آلام الفراق .
مشهد آخر لأمي عندما كانت تحتفظ بصورة وحيدة محددة للعذراء مريم لترافقها منذ طفولتها فشبابها فزواجها فتقدمها فى العمر لا تفارقها لتخلق حالة من التواصل الخيالي مع صورة , فلا أستغرب التعايش وإجترار الوهم بعد أن جسدته في صورة , ولكن هذا لم ينفعها عندما كان أخي بين الحياة والموت ولم يسعفها على الشفاء من مرض السرطان وآلامه وتشفعها بالصورة .
أنا لست من اللاعنين للخرافة وإنما قد ألعن من يروجها ليبقي موقفي بعدم وجود مشكلة لتمسك الإنسان بأوهامه شريطة أن لا تكون وسيلته للحلول , فقد رفضت أمي بإصرار وعناد أي محاولة للعلاج الجراحي أو الكيماوي من مرض السرطان متوهمة أن الرب سيشفيها وصورة العذراء ستكون بجانبها تدعمها , لتموت أمي وصورة العذراء تحت مخدتها .

دمتم بخير .
لو بطلنا نحلم ونتذكر نموت .. طب ليه ما نحلمش ونتذكر .