-الانسايوان-والطبيعه:مقاربتان عقليتان؟


عبدالامير الركابي
2021 / 4 / 26 - 14:40     

بعيش الكائن البشري منذ مايقرب العشرة الاف عام، من دون ان تبدو له واضحة احتمالية وجودية أخرى غير تلك التي عاشها على انها الاشتراط الوجودي الأوحد، وهو ماتتداخل في تعيينه الاحتياجات الحيوية للكائن ومايؤمن ديمومته، مع الممكنات التي توفرها الطبيعة، الى ان تحول ذلك بمرور الوقت الى مبدا ثابت، نهائي، ومحوري، يشمل كل ماترتب على، ويتجاوز حدود المباشر من تامين الحاجات الحيوية، ليدخل باب البناء "الحضاري" المرتكز أصلا وبالاساس للعلاقة الابتدائية بين الكائن البشري وحاجاته التي تؤمن استمراره.
لم يسبق ان خطر على البال، كون العلاقة المشار اليها يمكن ان تكون لها تجسدات او ممكنات أخرى غير تلك المعاشة، او ان ماهو معاش يمكن ان يكون حصيلة قصور وانتكاس ابتدائي قد يكون مؤقتا بما قد يحول المعاش، ويجعل منه بمثابة مرحله وشوط اجباري غير نهائي، وهو مايشمل مبتكرات من قبيل "الواقعي" و "العقلاني" المعدودة نهائية هي الأخرى، حتى وان كانت دالة على تسمية ماليس قابلا للتحقق، وماهو مفروض بحكم اشتراطات بعينها، ومع استبعاد كلي لاحتمالية ان يكون هنالك مثلا مسرب اخر جربة الكائن البشري، او حاول ان يذهب اليه وفشل، ماقد اضطره من حينه لقبول او التعايش مع الخيار الاخر، الارضوي الجسدوي، كمثل الاعتقاد بالصلة بالكونية والسماوية كسكن، وكيف، او احتمالية ان يكون الكائن الحي من صنف سائر الى مافوق ارضوي، استعدادا واهلية وجودية.
المعضل الكبير هنا ينبثق أولا وقبلا من الغلبة المتحققه لاحد الخيارين، وهذا متوقع بظل انطماس حضور ودالات تعبيرية الخيار الاخر، ماقد اعطى الفرصة للمنظور الأحادي لكي يصبح بمرور الوقت "أوحدا"، يمتلك الأسباب وماهو ضروري كي يفرض تسمياته ورؤيته للوجود والاشياء، ومعها نفي ماينم عن الخيار الاخر المطموس فيمنعه من التجلي الذاتي، علما بان الخيار الغائب أصلا من ساعة اندحاره، لايعود حاضرا كاحتمالية موازية، أي انه لا يتوفر على أسباب تأكيد ذاته المستقلة، حتى حين يوجد او يكون هنالك ماهو دال عليه، وباق ليذكر به وبحضوره غير القابل للتجسيد.
في اعلى حالات القراءة الارضوية للعقل المتوفر الى اليوم، يتوزع الايعاء العقلي وحسب هيجل الى مراحل، الاثنين الاولين منهما: الأسطوري ابتداء، وديني ثانيا، قبل الفلسفي العقلاني، مع مايضمنه تسلسل كهذا من الالحاقية والتدرجية التي تمنع ان يكون الأسطوري بذاته نوع اعقال مستقل، يتوافق متناغما مع خياروجودي يعينه، وان التفلسف من ناحيته يوافق تجلي الاعقال داخل، وبناء على اشترطات أخرى، وان المستويين من الاعقال، او نوعيهما لاصلة تصل بينهما، خصوصا من حيث التتابع، او افتراض التطور التدرجي المراحلي والمكاني.
بمعنى ان تسلسل التجلي الأسطوري الديني، مايزال ينتظرمايكمله، وانه سائر نحو الشكل الموافق له ولبنيته الاعقالية المنبجسة من داخله، وبما يوافق ذاتيته، وان مايقال عن الفلسفة باعتبارها الطور او نوع التطور"الطبيعي" الأعلى، هو مجرد عمليه مصادرة الحاقية،من قبل موضع بعينه، ونوع مجتمعية، لايجب القبول بها اعتباطا، فالفلسفة بنت محيطها واشتراطات تجليها، وظهرت تكرارا وفي قمتين: الاغريقية اليونيانيه الأولى، والاوربيه الراهنه، في حين ماتزال الرؤية الأسطورية وماتبعها من منظور سماوي، تنتظر تجليها الأخير الثالث الذي لم يزل بعد قيد التشكل.
الأسطورة والدين اذا تحدثنا عن اعلى واكمل اشكال حضورهما وابكرها، هما من اختصاص مكان بعينه على مستوى المعمورة، والفلسفة باعلى واكمل اشكال تجليها، هي وتكرارا، بنت موضع من المواضع، يصادف انهما ضيقان مساحة، بما يجعل من منجزهما بذاته ذي طبيعة وخاصية اقرب للاستثناء، والمقصود بما نذهب اليه الزاوية القصوى الجنوبيه المابين نهرية السومرية، واليونان على الضفة الغربية الاوربية المقابلة، ومنطقة وعنصر التفاعليه الرئيسي المواجه، الأولى السومرية هي نقطة الازدواج التحولية المجتمعية الابتدائية، واللحظة التي تبدا معها الظاهرة المجتمعية بالاكتمال والنضج ( بعد ان تعبر الحالة العابرة مابين الصيد واللقاط والمجتمعية التحولية والتي تكون بالأحرى حالة / انتاج + تجمع/ العتبة الانتقالية قبل العبور الى المجتمعية التحولية، بؤرة وخارطة تحولية تفاعلية )(1) كما تعرف الانتكاس تحوليا بنيويا للتعذر، ولعدم اكتمال الأسباب الضرورية للانتقال الى مابعد مجتمعية.
ان سياقات التاريخ التصيري المجتمعي البشري، هي تلك الموصوله بالابتداء الرافديني الازدواجي، وهي تبدا من "التحولية البنيوية " المنتكسه غير القابلة للتحقق، ولا للادراك العقلي، فتظل مؤجله ومطوية، وصولا الى "التحولية المكتملة الاسباب"، مع توفر الوسيلة المادية الضرورية لزوما للتحول المجتمعي المؤجل، والذي ظل واستمر شاخصا وحيا كاحتمال وكامكان بنيوي منذ الابتداء المجتمعي.
خلال الفترة الفاصلة بين التحوليتين ( الامر يذكر هنا بالمرحلتين المفترضتين احاديا لدى ماركس وماديته التاريخيه بين شيوعية أولى بدائية وشيوعيه نهائية مادية ) يغلب على الوعي البشري للذات والوجود، ومجمل التاريخ، منطوق الأحادية لاسباب منها أصلا تصيرية عقلية بحكم كون العقل مادة متشكلة، لاتكون يوم تبدا المجتمعات بالنضج في حالة اكتمال، احدى اهم علامات قصوره التي تستمر ملازمة له، حالة نكوصة إزاء الظاهرة المجتمعية كظاهرة بحد ذاتها، وبقدروعيه لمنطوياتها وماتضمره وهي سائرة نحوه، أي التحولية وتبعا لها حالة المؤقتية المجتمعية.
ثمة خيار لاارضوي جربة الكائن الانسايوان ابتداء، وصاغ اعقاله لوجوده على اساسة ليس اجتهادا بلا أساس، بل ضرورة متصله بحالة وجود مافوق ارضوي، ففي سومر سادت أسباب وعوامل حياتيه مافوق ارضوية، مخفضه للدواعي الارضوية للاعقال الوجودي الابتدائي، ومكرسه للسماوية الكونية الأقرب للسكنى، الامر الذي تراه الأحادية من قبيل السذاجة او مايسمى في الادبيات الأحادية المتعالمة "طفولة البشرية"، مع انه زمن نضج الكائن الحي اتفاقا مع شروط وجوده التي افتتحت بها الظاهرة المجتمعية، فالتأله، ونزوع الذهاب الى السماء، هو المسرب العقلي الواقعي ضمن اشتراطاته المجافية لدرجة التعامل مع الأرض، او البيئة او مايعرف على انه "الطبيعة" كعامل طارد، ليضع مجهوده وممكنات تفكره انطلاقا من "حافة الفناء" كما تكرسها وجودا وانتاجا، العلاقة بنهرين هما الاعتى تدميرا ضمن نوعهما، المعاكسين فيضانا للدورة الزراعية، مع كل اشتراطات المناخ والأرض الرخوه، واللهيب الصيفي، والعواصف، والحدود المفتوحة شرقا وغربا وشمالا على السلالات ومصبها البشري من الجبال الجرداء، والصحاري،نحو ارض الخصب، مايضيف للجنون الذي تولده الطبيعة المجافية، جنون الحدود، ويجعل السيف والبندفيه مثل الفاس والمحراث، وسائل انتاج مثلها مثل اليقظة الدائمه، والتوجس ليل نهار من احتمالية طيران وانثلام حواف الأنهار وغلبة الفيضان، وفوق هذا مايحدث الى الأعلى من البؤرة التحولية الجنوبيه في الزاوية القصوى، من قيام "دول" سلالية معسكرة ومسلحه، تستقر في اعلى ارض السواد داخل مدن محصنة اشد تحصين، وتظل منفصلة عن المجتمع الأسفل، حيث "الحرية الإنتاجية" تساوي الوجود محمية بالسلاح، بوجه دول تمارس الغزو الداخلي لاجل احتلاب الريع، قبل ان تنكفي الى الخلف امام استحالة بسط السيطرة على المجتمع المشاعي المساواتي المحارب الأسفل، باحثة عن أسباب ادامة وجودها خارج ارض الرافدين الى الشمال والغرب، وهكذا يعمل قانون "الإمبراطورية" باعتباره حالة عجز ازدواجي بنيوي عن اخضاع المجتمعية السفلى.
كل هذا وماقد استغرقه من تفاعليه استمرت لبضعة الاف السنين ابان الدورة الأولى التاسيسية البدئية السومرية البابلية الابراهيمه، هو ماقد نقل الوعي، من الأسطورية الأولى التي هي نتاج المجابهة مع الطبيعة والبيئة، الى الثانيه كمرحلة ناتجة عن اليات الصراعية النمطية مع الطبيعة مضافا لها الدولة الأحادية وكيانيتها، حيث يصير تجسد المنظور والوجود اللاارضوي كيانيا، تحديا استثنائيا اخر وسط تحد غير مالوف، يستحيل معه التجلي داخل الأرض نفسها، لان مثل هذا التجلي لايجد مقوماته في مجتمع "ازدواجي" الكيانية، ازدواجيته العضوية هي وحدته، أي تجل مقابل لذلك الامبراطوري الأحادي، من شانه ان ينفي الوحدة ضمن الازدواج، ماقد طرح على المجتمع الأسفل مهمة كبرى، تتلائم مع كينونته ضمن الكيانيه التي هو منها، فصارت مسالة التحقق الممكن خارج ارض المنشا، هي شكل التجلي الممكن، وماقد منحها من حينه اليات التجلي الموازي، مع الطابع الكوني الاشمل المؤقت الحاضر، بصفته الموافقة لاظروف غلبة الأحادية المجتمعية على مستوى المعمورة شكلا ووعيا.
بهذا تصير الازدواجية التحولية البدئية، ولحظة بلوغ الظاهرة المجتمعية اكتمالها التكويني ( وطن /كونيه)، دالة على الحقيقة المجتمعية، ومتناغمة مع الياتها التصيرية، فقانون "التجلي خارج الأرض" كما حال الابراهيميه الأولى، هو افصاح بنيوي على مستوى المجتمعات البشرية، يبدا داخل البنية الا ستكمالية للمجال الشرق متوسطي الاحتشادي النمطي، حيث "مجتمع اللادولة الأحادية الجزيري"، وقبلا "مجتمع احادي الدولة النيلي المصري"، مع المجال الشامي غير القابل للتشكل في كيان، حيث مجال التحقق الموقت للارضوية الرافدينيه غير الممكن تحققها في ارضها (2) اخذا بالاعتبار لكل اليات وقوانين تشكلها اللاارضوي. (3)
ـ يتبع ـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من الشائع المعتمد احاديا القول بان ظاهرة المجتمعات تبدا مع ( التجمع + انتاج الغذاء) باعتبارها اللحظة اللاحقة على طور الصيد واللقاط، الامر الدال تكرارا على القصور العقلي إزاء الظاهرة المجتمعية .
(2) يفهم الاحادويون "الوطنية" و "الكيانيه" بحسب اكملها الغالب نموذجا الان كما حالة الغرب الأوربي، بما هي كيانيه مجتمعوجغرافيه تحققها مرهون بهذين العنصرين، لهذا يصاب المنظور المشار اليه بالخطل إزاء التجلي خارج الأرض، ويدخل حين يواجه الظاهرة الابراهيميه تهويمات "العلموية" القاصرة والغبية، تحت واجهة الوثيقة والحفريات، مطبقة على نموذج لاارضوي، لا وثائقي بعكس الارضوي، الامر الذي يتطلب "علم اجتماع" اخر مختلف، ازدواجي، متخلص من اشتراطات الأحادية، او لما ينفي تميزه النمطي، أي يلغي الازدواج الذي هو كينونة ثابته لحين انتفاء اسبابها.
(3) لسنا هنا بصدد نظرية التشكل اللاارضوي خارج ارض المنشأ، مع اننا تناولناالظاهرة المنوه عنها مرارا بحسب الضرورة، ابتداء من كتابنا "ارضوتوبيا العراق وانقلاب التاريخ" الصادر عام 2008، بالتنويه باستراتيجيا "التجلي خارج الأرض" الابراهيميه لتعذر، لابل استحالة التجلي الكياني الجغرافي على النمط الاحادي.