المتمرد، شفيع شلبى


حسن مدبولى
2021 / 4 / 26 - 14:25     

كل من تابع الإذاعة والتليفزيون المصريين فى فترة السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضى كان يعرف شفيع شلبى بكل تأكيد ، فقد كان الرجل من أشهر وأنجح الإعلاميين المصريين والعرب خلال تلك الفترة، عرف شفيع شلبى بفكره التحرري وطريقته المميزة فى تقديم البرامج والتى سبقت عصره بسنوات طويلة ، فمن الناحية الشكلية كان يطل علينا من الشاشة الصغيرة بملابس كاجوال وقميص مفتوح وشعر كانيش مجعد بخلاف زملائه الذين كانوا يلتزمون بالبدل الكاملة والشعر الحليق (أوالبواريك ) والمظهر النمطى
( المنشى ) وعلى الرغم من الجدل الذي أثاره هذا السلوك وقتها، إلا أنه حقق نجاحًا كبيرًا بين الجماهير ببساطته وتلقائيته التي كان أداء التلفزيون يفتقدها في ذلك الوقت، وساعده على ذلك أنه عمل دون أن يتقاضى مليمًا واحدًا لأنه يرى نفسه مهنيًا بالدرجة الأولى،والمهنى الذى يعمل بالإعلام وفقا لإعتقاده لا يجب أن يتقاضى أجرًا أو يعمل لحساب أشخاص أو جهات ، كما ساعده على النجاح ثقته الكبيرة فى القيمة والمصداقية التى تتضمنها أعماله،ولم يكن شفيع شلبى مجرد مذيع يقرأ النشرات بالتليفزيون المصرى فقط ،لكنه كان مخرجا ومنتجا سينيمائيا خاصة للأفلام التسجيلية
،وكذلك كان محاورا مبدعا فى برامج تليفزيونية رائعة سبقت وتفوقت على كل ما يقدمه الإعلاميون المعاصرون فى الوقت الحالى ، الذين لا يجرؤون على التحلى بنفس شجاعته،

بدأ شفيع شلبى عمله في التلفزيون المصرى منذ مايو 1971 إلى سبتمبر 1981 لمدة عقد كامل قارئًا للأخبار، وفي ذلك الوقت كانت تقود الإذاعة قامات عظيمة مثل الاعلامى الكبير الأستاذ صلاح زكي والأستاذة سميرة الكيلاني وفى نفس الوقت يعملون بالتلفزيون، ولكنهم كانوا يؤدون فى التليفزيون نفس طريقتهم فى الراديو بدون تفرقة ، الأمر الذى جعل شفيع شلبى يذهب إلى الأستاذ صلاح زكي ويخبره عن تلك الملاحظات، فكانت المفاجأة أن الأستاذ صلاح زكى وافقه على رأيه و أجرى له اختبارًا لتقييم آدائه التليفزيونى، وبالفعل نجح فى الإختبار ، ومن الطريف أن الأستاذ صلاح زكى طلب منه أن يطلق شاربه لكى يبدو كبيرا فى السن لإنه مجرد شاب صغير ، الأمر الذى رفضه شفيع شلبى بالطبع لكنه التحق بالتليفزيون فى النهاية ، حيث كانت له بصمات مختلفة متميزة كقارئ للنشرة التليفزيونية من الناحيتين الشكلية والموضوعية أيضا ، فهو لم يكتفى بمظهره المختلف ولا بدوره كمجرد قارئ نمطى للنشرة المكتوبة، لكنه كان يضع لمسته على الخبر المطلوب إذاعته ، كما كان يحاول احيانا مناقشة ابعادالخبر وتأثيراته ، وهو مالم يكن مسموحا به وقتها ، فتعرض للمتاعب والايقاف اكثر من مرة ، بالرغم من ان قنوات عربية كالجزيرة تتبع نفس الأساليب حاليا مما ساهم فى إنتشارها !! كما نجح نجاحا باهرا كمقدم برامج رائعة متميزة ، وكان اولها برنامج السهرة الكبرى الذى قدم فى عام 1971 مع الكاتب المقرب من الدولة وقتها الأستاذ يوسف السباعى فوجه له شفيع شلبى عدة أسئلة محرجة جعلت السباعى يخرج عن هدوئه وينفعل على شفيع شلبى ، ومن ثم تم ايقاف البرنامج نهائيا ، كذلك كان هو الذى أبدع وإبتكر برامج قراءة الصحف المحلية والعالمية على شاشات التليفزيون و التى لا تزال تقدم حتى الآن على بعض الشاشات العربية ، حيث قدم برنامج بإسم فلاش ، لكنه كان يختار الاخبار أو المقالات المثيرة للجدل والتى تنتقد الحكومة ، فتم ايقاف البرنامج مرة أخرى ،
قدم بعدها برنامجه " من قلب الشارع المصرى " وكان يعتبر برنامجا سياسيا معارضا يتفوق على بعض البرامج السياسية التى يقدمها مشاهير الإعلام حتى فى قنوات المعارضة المصرية فى وقتناالحالى ، ويكفى ان أشير الى أن احد حلقات هذا البرنامج كانت تناقش مدى جدوى قرار رئيس الجمهورية وقتها ( أنور السادات) الذى كان قد قرر إيقاف بيع اللحوم او ذبحها لمدة شهر كطريقة لتخفيض اسعارها فقدم شفيع شلبى حلقه مع الفقراء فى القرى والنجوع والمناطق العشوائية والمدن الشعبية محاولا إثبات عدم جدوى قرار إيقاف الذبح ( لاحظ انه يتحدث عن قرار جمهورى فى تليفزيون الدولة ) وأن الفقراء لا يأكلون لحوما من الأساس ، وان القرار كما افاده المختصون يعتبر شكليا ولا يعالج أصل المشكلة ؟
و فى برنامج آخر وكانت هناك نية لتعديل الدستور المصرى لكى يتمكن الرئيس الراحل أنور السادات من الاستمرار فى الحكم ، إستضاف شفيع شلبى الفنان الكبير عبد الوارث عسر وإتفقا سويا على الحديث عن الدستور ولكن بطريقة تاريخية ، وبالفعل روى الفنان عبد الوارث عسر كيف اتحد الشعب المصرى كله ضد تغييب الدستور المصرى وكيف خرجت المدارس والمواطنين العاديين يهتفون ضد الخديوى وهو يمر من شارع المعز قائلين الدستور يا أفندينا الدستور يا أفندينا !!
لم تتحمل مصر الرسمية مثل تلك العقلية فتم ايقافه عن العمل بقرار جمهورى عام 1981 ، ولم يعد للتليفزيون بعد مجئ مبارك ، ورفض هو فكرة السفر والعمل بالخارج ، فأنشأ المركز العربى للإنتاج الوثائقى وهو مؤسسة لم تكن تهدف للربح أنتجت سلاسل أفلام عديدة منها موسوعة "أعلام معاصرون" وسلسلة "رائدات من القرن العشرين"، حيث إهتم بالتاريخ لأنه أدرك أنه لكي نفكر في المستقبل لا بد أن نعي الماضي جيدًا، فمن لا يعرف التاريخ ويحفظ ذاكرة أمته يهدر عقل الإنسانية، فالأشخاص يرحلون وتبقى صنائعهم!!
كان هو ايضا صاحب فكرة إنشاء قنوات وإذاعات محلية خاصة يتملكها الشعب عن طريق الاكتتاب لكى تتحرر من سيطرة الحكومات ، وكانت تلك الفكرة غريبة جدا فى ذلك الوقت لكنها كانت أحد أحلام شلبي التي يريد تحقيقها ولعله رأى بعينيه فى عصر اليوتيوب والانترنت كيف اصبح هذا الحلم حقيقة واقعة ،.ورغم اختفائه وبعد الاعلام عنه الا انه عمل كمخرج ومؤلف ومنتج وكاتب سيناريو ، وتميزت الأعمال التى شارك فيها بامتلاك الرؤية والعمق كفيلم العوامة 70 وخلف اسوار الجامعة إلخ ،،
لم يكتفى الأستاذ العبقرى شفيع شلبى بعمله الإبداعى، لكن تم انتخابه لمجلس نقابة المهن السينمائية، على مدى العقد الأخير من القرن العشرين لدورتين متواليتين،وكذلك انتخب لمجلس اتحاد السينمائيين التسجيلين عام 1990، و لمجلس جماعة الفنانين والكتاب عام 1999 ،،،
كما مارس أعمالا وطنية معارضة حيث تولى مهمة منسق التوافق الوطنى بين القوى السياسية الوطنية المصرية عام 1995،،
كما ساند ثورة 25 يناير 2011 ، منذ اليوم الأول ، وحاول جاهدا إنقاذها من براثن الثورة المضادة ،
ورغم الحصار الذى تم ضربه حول الرجل لمدة أربعين عاما تم حرمانه خلالها من دخول مبنى التليفزيون الرسمى أو الخاص، ولم تذع له سوى مقابلة باهتة بعد ثورة يناير ، إلا أن الرجل ظل صامدا ثابتا على مواقفه منحازا الى شعب مصر وبسطائه مناضلا من اجل سيادة قيم الحرية والعدالة ، وعاش حياة الكفاف رافضا الدخول فى حظيرة فاروق حسنى كما دخلها آخرون من الشعراء والمثقفين الذين نالوا الملايين ، وظل قابضا على جمر الوطن حتى لقى ربه راضيا مرضيا يوم 12 يناير 2021 ،
كل التحية والسلام والرحمة لروحه الطيبة