الملكية الرأسمالية المقدسة.


عبدالله محمد ابو شحاتة
2021 / 4 / 24 - 01:00     

عند الحديث عن الحقوق الإجتماعية الأصيلة التي بُنيَ عليها العقد الاجتماعي فأننا نتحدث عن حق الأمان و الحماية والحرية والمساواة في الفرص وكذلك حق حماية الملكية الشخصية، وهذا الأخير هو الذي حمٌله المجتمع الرأسمالي ما لا يحتمل من نمط الملكية الرأسمالية ثم جعله مقدماً على كافة الحقوق الأخرى، جعل منه محور البناء الاجتماعي وأكثر الحقوق حرمة وقدسية. ولا يهم أن تخل الدولة بكافة التزاماتها الأخرى في سبيله. وهذا الإخلال من الطبيعي أن يحدث، فحق الملكية الرأسمالية المصطنع يناقض بشكل أو بآخر الحقوق الأخرى الأكثر أصالة، كحق الحماية والأمان، فالنظام الرأسمالي الصِرف لن يضمن لمواطنيه من ذوي الحظ التعيس الذين ولدوا صدفة في دائرة الفقر أي نوع من أنواع الحماية، لا حماية من المرض ولا من الجهل ولا حتى حماية قانونية، فاللجوء للقانون بحاجة لمصروفات ستجعله خياراً لا يُطرح لدى الكثير من تلك الفئات. ويظل حق الحرية أيضاً مشوباً، فالعامل والموظف في هذا النمط من المجتمعات لن يمتلك حتى حرية التحكم في مظهره الشخصي، ولن تُشكل إرادته السياسية أكثر من إرادة فرد، بينما الإرادة السياسية البرجوازية تتعدى حدود الإرادة الفردية بما تملكه من إعلام وبرويجندا وثقل اجتماعي يُكسبها إرادة سياسية لا تقهر ويحيل الديمقراطية لحفل تنكري ترتدي فيه الإرادة البرجوازية قناع الرغبة الشعبية.
وفي الواقع فإن حق الملكية الشخصية المشروع لا يُقارب من أي جانب حق الملكية الرأسمالية، فحق الملكية الشخصية هو كما كان معروف في الجماعات البدائية يعبر عن حق امتلاك الفرد لما كسبت يده من عمل. ولو نظرنا هنا لوجدنا أن الملكية الرأسمالية تناقض هذا الحق لكونها تُملك مجهود عمل البروليتاري لغيره، أي أنها تُهدر حق ملكيته. والمناقضة الأخرى تكمن في اعتبار مفهوم الحق نفسه، فالحق يفترض وجود مُستحق، فلا معنى لافتراض حقوق لكيانات غير موجودة، سواء كانت موجودة ولم تعد كذلك أو لم توجد بعد، فلا يحق لشخص أن يوجه ممتلكاته إلى غيره بعد موته، بمجرد موته ينقطع حقه الاجتماعي. كما أن مفهوم الحق كذلك يتطلب الاستحقاق ولا حق بدون استحقاق، فأي استحقاق للثروة هذا الذي يملكه المرء بمجرد ولادته في عائلة برجوازية، فهل صدفة الميلاد يمكن أن تشكل أي استحقاق يبنى عليه أي حق !؟ ( وأعني هنا بالطبع حق الوراثة ).

إن الأمر كما يقول إريك فروم هو زراعة نمط سلوكي خادم في أساسه للطبقة المسيطرة داخل اللاوعي الاجتماعي للمجتمع ككل، وبما في ذلك حتى الطبقات المُستغَلة نفسها، فكذلك لا تعجب حين تجد حتى الشخص الذي لا يملك قوت يومه مؤيداً للملكية الرأسمالية بل ومُقدساً لها؛ فالإمر مزروع بقوة داخل اللاوعي الجمعي. كما كان مزروعاً من قبل داخل اللاوعي الجمعي للمجتمع الإقطاعي فكرة تقديس المكانة الاجتماعية الأرستقراطية ومفاهيم الشرف والنبالة، وحتى وسط عامة الشعب ومن كان يُنظر إليهم كأقنان وصعاليك كانت تستشري قيم احترام النبالة والشرف الوراثي للنسب العائلي؛ فالإمر كما وضحنا كامن في اللاوعي الجمعي.
ويتبدل بالطبع هذا للاوعي مع تبدل الطبقات المسيطرة، فمع صعود البرجوازية يصبح النسب بلا قيمة، ولا معنى لكلمات مثل الشرف والنبالة، بل وتتحول تلك المفاهيم من مقدسات إلى مُدنسات، ويصبح المُقدس الجديد هو حق الملكية الرأسمالية؛ فالطبقة البرجوازية المنتصرة لا تملك المكانة الاجتماعية ولا النسب الرفيع ولكنها تملك المال ووسائل الإنتاج الصناعية، ولذلك تنهار قيم النبالة والمكانة وتعلوا قيم الملكية الرأسمالية المُمثَلة للطبقة المسيطرة الجديدة وتتلاحق ثورات التنوير في أوروبا فتعلن الحرب على مفاهيم النبالة والشرف الوراثي قائلة بأعلى صوتها أن البشر يولدون سواسية ولا يولد إنسان شريف وآخر غير شريف أو يولد إنسان نبيل وآخر غير نبيل، فالجميع سواسية. ولكنها لم ترى في المقابل من ذلك أي إشكال في أن يولد إنسان فقير وآخر غني. ولا أجد حقيقة فارق ذي وزن بين توريث مكانة اجتماعية وشرف أرستقراطي وبين توريث ثروة، فالاختلاف هنا لا يتعدى كونه اختلاف في الدرجة لا في النوع.
فالحقيقة كما وضحنا أن المبادئ الجديدة لا تكون في الغالب إلا طبقية في المجمل، فالمساوة و تحرير العبيد والأقنان تخدم بالدرجة الأولى البرجوازية وتهدم الأقطاع بتفريغه من طبقته العاملة وتوجيهها بدلاً من ذلك إلى المصانع، ولم ينل بالطبع الإنسان المُستَغل حرية حقيقة بتلك النقلة، بل إنه بعدما كان مضّطر للعمل لدى الإقطاعي لكونه عبداً أو قن ، أصبح مضطراً للعمل لدى البرجوازي حتى ينال كفاف العيش. ولا يُفهم من هذا أن أعلام التنوير على سبيل المثال كانوا مجموعة من الخُبثاء أو عملاء البرجوازية، بل إنهم صادقين بالطبع في ثورتهم ومطالبهم التي تصوروها في صالح الشعب بالكامل، بل وكذلك البرجوازية نفسها، ففي دفاعها عن مصالحها الطبقية لم تكن لتلاحظ أنها مصالحها الطبقية، فحتى حينما يُعلي الإنسان مصالحه فإنه سيصبغها بالمصلحة القومية وسيقتنع هو نفسه بذلك؛ فاللاوعي الجمعي يعمل عمله في جُل المجتمع المُستغِل و المُستغَل.
فالخطأ المثير للسخرية الذي يقع فيه كثير من الناس هو الاعتقاد بأن المُستغِل يدرك أنه كذلك، وأن البرجوازي يدرك بأن وضع المجتمع الرأسمالي يتسم بلاعدالة ورغم ذلك فهو يُقره، أما الواقع الاجتماعي فلا يتعلق سوى باللاوعي الفردي والجمعي، ولا يوجد فيه إلا الأخيار، فجميع الجوانب والطبقات خيرة في نظر ذاتها هذا أمر لا مناص منه، سواء تلك التي تخدم مصالحها التقدمية أو تلك التي تُمثل مصالحها تيار المحافظة والثبات. فكل طبقة ترى في مصالحها الخير وليس فقط خيرها بل خير الجميع، وحتى تلك الطبقات التقدمية الثائرة فهي تقدمية لأن مصالحها تدفع المجتمع للأمام، وليست تقدمية كرغبة منها في التقدم والتحضر لذاته كما تتصور هي نفسها ذلك، فلا شك أن تقدمية البرجوازية على المجتمع الإقطاعي كانت نابعة من منطلق المصلحة الطبقية، وكذلك أيضاً تكون تقدمية البروليتارية على البرجوازية.
ومع انتصار طبقة جديدة وزوال أخرى يتبدل اللاوعي الجمعي تدريجياً، فمع انهيار الرأسمالية ستتبدل حتماً قيمة حرية التملك ويصبح المقدس الأكبر هو أمن الإنسان لا أمن ما يملكه الإنسان.