تحوّلات المدينة الخليجية


حسن مدن
2021 / 4 / 23 - 13:22     

المدينة الخليجية، من حيث هي الجسم العمراني والسكاني الأساسي لدول الخليج ما زالت تبدو غير مكتملة، وفي طور النمو والتوسع، وهذه الملاحظة يمكن تعميمها، فهي في العمق الاجتماعي ليست أقل بروزاً، بل إنها هنا بالذات أكثر حدةً وأبلغ في النتائج .
ويظهر ذلك، أشد ما يظهر، في الازدواجية العميقة للقيم وأنساق الثقافة ومظاهر الوعي الاجتماعي، فمن جهة تخترق مظاهر العولمة ثقافياً وعمرانياً البنى والمظاهر التقليدية في مجتمعاتنا، وتنشأ مدن حديثة تُضاهي المدن الأمريكية أو الأوروبية، لكن خلف هذه المظاهر الجذابة والأنيقة تختفي مظاهر من الكسل والركود في أشكال الوعي .
رغم أن التكنولوجيا الحديثة إذ تدخل مجتمعاً ما فإنها لا تفعل ذلك بصورة محايدة، إنما هي تحمل معها مؤثرات مهمة تمسُّ الوعي، وهذا يحدث فعلاً بنسب متفاوتة في بلداننا الخليجية، لكن الكثير من "الوعي" الذي ينشأ عندنا بحكم ذلك هو وعي مُشوّه لأنه يريد التشبه بمظاهر الحياة الحديثة ويزعم في الوقت نفسه تمسّكه بمنظومة القيم الموروثة .
صحيح أن التطور الصحي للمجتمعات لا يمكن أن يقوم على قطيعة مع الماضي، إنما عبر تمثّل العناصر الإيجابية في هذا الماضي، وإدماجها بروح خلاقة في ثقافة ووعي الحاضر، بيد أن الوعي المُشوّه الذي يتشكّل الآن يعيد إنتاج أشد العناصر سلبية ومحافظة في ثقافة الماضي، ويكسبها رداء عصرياً، فينتج لنا شخصية قلقة، مضطربة، ميالة للسهولة والمظهرية الفارغة والاستعلاء، دون أن يخفي كل ذلك أوجه الهشاشة والضعف .
ليس هذا النوع من الاضطراب أو القلق بين التحديث والتقليد حالة خاصة بمجتمعات الخليج، غير أن هذه الظاهرة تكتسب طابعاً أكثر حدة لعوامل عدة بينها نمط الاستهلاك الترفي والبذخ الذي ارتفع إلى مستوى القيمة التي تقدر بها منزلة المرء ومكانته الاجتماعية، وبينها أيضا النمو أو "التحضّر الفوري السريع" كما دعاه أحد الباحثين الذي لم ينبت في بيئته بشكل تدريجي، بقدر ما جرى استجلابه من خارجها .
كنا نفترض أن هذه مظاهر مرحلة انتقالية، بعدها ستنتقل مجتمعاتنا إلى حالة من التوازن النفسي والاجتماعي والتنموي، لكن ما يقلق أن هذه الحالة "المؤقتة" أخذت تنتج آليات استمراريتها التي قد تطول، وأكثر من ذلك تنشئ وتعمم القيم وأنساق الثقافة الخاصة بها .
ويجري الإعلاء من هذه الأنساق المشوّهة وتعميمها وتقدّم كبديلٍ للثقافة في أنماطها الرفيعة، وإغفال مستلزمات التنمية الثقافية والبشرية الحقّة التي تتطلب تدريب مهارات التلقي الثقافي، وتربية الإنسان بروح العمل ونبذ الاتكالية .