يورغن هابرماس (1929 - )


غازي الصوراني
2021 / 4 / 21 - 12:37     


فيلسوف وعالم اجتماع ألماني "يُعَدْ، مع ماركيوزه وهوركهايمر وأدورنو، من أبرز ممثلي مدرسة فرانكفورت، درس الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعتي هايدلبرغ وفرانكفورت، أراد مع سائر فلاسفة المدرسة أن يستأنف مشروع ماركس في نقد المجتمع وأشكال الاستلاب الحديث، وفهم الماركسية بالتالي على أنها نظرية نقدية كبرى، بشرط أن تكون أيضاً جدلية"([1]).

عارض الوضعية بقوة، ورأى أن مهمة الفلسفة المحافظة على إمكانية خطاب عقلاني يمتنع بدونه اشتغال الديموقراطية، ودعا إلى فلسفة أنوار جديدة، في اطار نظرية الفعل التواصلي"([2]).

"وصل يورغن هابرماس إلى درجة من الشهرة والتأثير العالمي لم ينجح الرعيل الأول من ممثلي النظرية النقدية الاجتماعية والمعروفة في حقل الفلسفة المعاصرة بمدرسة فرانكفورت في الوصول إليها.

ففي كتابه الموسوم "القول الفلسفي للحداثة" " أقرّ هابرماس أنّ الحداثة تمرّ اليوم بأزمات خطيرة لا شكّ في ذلك ولا يمكن نُكرانها، ولكن من غير المجدي إدانتها جذريّا والتنكّر لمنجزاتها السابقة جُملة وتفصيلا، وفوق ذلك بالإمكان استدراك مزالقها وأخطائها، فراح هابرماس يكرّس موقفه التجديدي في نظريّته عن العقل النقدي التواصلي مؤسّسا بذلك لفلسفة نقديّة جديدة، تقترح أن يتحولّ العقل فيها من العقل الأداتي إلى العقل التواصلي من مفهومه الضيّق الذي يسعى إلى الربط بين الذات والمعرفة ربطاً آلياً مباشراً إلى مفهومه الإنساني الذي يعتني بالتواصل وبالعلاقات بين الذوات في العالم، في جوّ ديمقراطي وإنساني مسؤول بغضّ النظر عن مذاهب الناس واختلافاتهم"([3]).

"وهكذا يكون هابرماس، بمشروعه ذاك، قد خالف رأي الجيل الأوّل من فلاسفة مدرسة فرانكفورت الذين سبقوه إلى نقد قيّم الحداثة والتنوير كـأدورنو وهوركايهمر في كتابهما "المشترك جدل التنوير"، وهوركايهمر في كتابه "أفول العقل"، وماركيوزه في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد"، الذين كانوا قد أعلنوا جميعهم عن فشل العقلانيّة الذريع وإفلاس التنوير وانسداد أفق الحداثة، فما كان من هابرماس إلاّ التأكيد من بعدهم أنّ نظريّة العقل التواصلي بإمكانها استدراك أخطاء العقل الأداتي وربط العلاقات بين الناس وتحقيق التفاهم فيما بينهم متى تمّ السعي الحثيث إلى ذلك، وبمقدورها أيضا تحويل العلم والتقنية إلى وسيلة لخدمة الإنسان وليس إلى وسيلة ضدّه، فبدل أن تسيطر التقنية على الإنسان بات من الأهميّة بمكان أن يسيطر هذا الأخير عليها! فهل تحقّق هذا المبتغى؟"([4]).

كان يورغن هابرماس يهتم دائماً بالعلوم الاجتماعية، وكان مفهومه للغة في البداية يفيد أنها فعل كلامي. ومفهوم الفعل (والمؤسسات) عند هابرماس له أسبقية على مفهوم النص. تدرب في مدرسة فرانكفورت. غير أنه انفصل عن النقد الكامل الواسع والتشاؤم اللذين ميزا الجيل الأول لهذه المدرسة (أدورنو وهوركهايمر)، وارتبط ذلك الانفصال بتمييز هابرماس نوعين مختلفين مما كان يدعى الاهتمامات المعرفية: علينا أن نكون قادرين على السيطرة على الطبيعة لكي نشبع حاجاتنا الحيوية.

فعلى الرغم من الثقل العلمي لأفكار الجيل الأول (هوركهيمر، أدورنو، ماركيوزه، إريك فروم…)، إلا أن هابرماس هو الفيلسوف الوحيد الذي فرض نفسه على المشهد السياسي والثقافي في ألمانيا كـ"فيلسوف الجمهورية الألمانية الجديدة" وفقاً لتعبير وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر، وذلك منذ أكثر من خمسين عاماً، انه بالفعل يعتبر الوريث الرئيسي المعاصر لتركة مدرسة فرانكفورت كما يعبر عن ذلك ايان كريب، وعلى الرغم من أن هناك افكارمشتركة واضحة بينه وبين أسلافه، فإنه نحا بهذه المدرسة منحى مختلفاً.

واذا كان ما يجمع أعمال أدورنو وهوركهايمر وماركيوزه الاهتمام الشديد بحرية الإنسان مهما بعدت إمكانية وجود تلك الحرية عن أرض الواقع، فإن هابرماس أقل حماسا في هذا الجانب رغم وجوده، إنه يتحرر من التذبذب بين التفاؤل والتشاؤم ويركز جل تفكيره بدلاً من ذلك على تحليل الفعل والبنى الاجتماعية، ولا جدال في انتماء هابرماس إلى اليسار، إلا أنه، وربما بشكل غير متوقع ينتقد التقاليد الفكرية التي تنتمي إليها، الأمر الذي انتهى به إلى النأي بنفسه عن الحركة الطلابية التي ظهرت في الستينات، ويمكن النظر إليه، أولاً، باعتباره متماسكاً بتصور يزاوج بين البنية والفعل في نظرية كلية واحدة.وثانيا، بوصفه مدافعاً عن مشروع الحداثة، بالأخص عن فكرتي العقل والأخلاق الكليين.

أما حجته في ذلك فهي "أن مشروع الحداثة لم يفشل بل بالأحرى لم يتجسد ابداً ،ولذا، فالحداثة لم تنته بعد، ويظهر أن هذا الموقف يضعه في اتجاه معارض تماماً مع أسلافه بالنظر إلى موقفهم من نقد عقل التنوير، إلا أن موقفه يتضمن الإصرار على جدل التنوير، أي أن عملية التنوير لها جانبان: يتضمن أحدهما فكر البناء الهرمي والاستبعاد، في حين يحمل الجانب الآخر إمكانية إقامة مجتمع حر يسعد به الجميع على الأقل"، إن نظرية ما بعد الحداثة تفتقد حسب هابرماس إلى هذا العنصر الأخير، ولذا تركز المشروع الفلسفي لهابرماس على النقطة الأساسية التالية: " تجديد مشروع التنوير والحداثة، بدلاً من النعي عليه وشتمه ومحاولة إلغائه أو إبطاله.

وهكذا "قدم هابرماس الأمل من جديد للغرب كله ودَلَّهُ على طريق الخلاص او الخروج من المأزق المسدود؛ ولهذا السبب انتصر على ميشيل فوكو وعلى جميع العدميين اليائسين في الساحة الفلسفية، وكل ما يريده هابرماس هو القول بأن مشروع التنوير – أي مشروع العقل والعقلانية – هو شيء مستمر لا ينتهي، فلا بديل عن العقل إلا العقل، ولا بديل عن التنوير إلا المزيد من التنوير، ولكل عصر عقله وتنويره اللذان يتناسبان معه ومع ظروفه ومشاكله الطارئة"([5]).

بهذا المعنى فإن هابرماس يريد العودة إلى الأصول الأولى – أي إلى جذور التنوير والحداثة لدى كانط وهيغل – لكي يعرف كيف تشكلت لأول مرة كمشروع للتحرير والتقدم، ثم كيف انحرفت عن مسارها الصحيح في لحظة ما من لحظات المسيرة الطويلة، ولكن ما هو هذا التنوير الجديد الذي يدعو إليه هابرماس؟ أقصد التنوير الذي يليق بهذا القرن، القرن الحادي والعشرين؟

على هذا السؤال يجيب الرجل مطولاً في كتبه الكثيرة والصعبة عموماً، فقد اخترع نظرية فلسفية كاملة لاقتراح بديل متكامل، ولذا رأى بعضهم أنه "كانط جديد" أو "هيغل جديد"، جاء لكي ينقذ الغرب من الوقوع في مهاوي العدمية والتفسخ والضياع، فكما أن سلفيه الكبيرين بلورا صيغة عن العقل تناسب عصرهما وتلبي مشكله وحاجياته، فإنه يحاول جاهداً بلورة صيغة تناسب هذا العصر وحاجياته([6]).

لن نستطيع هنا أن ندخل في كل التفاصيل المعقدة لنظرية هابرماس عن "العقل التواصلي أو الحواري" –كما يقول هاشم صالح-، وإنما سنكتفي ببعض الإيضاحات البسيطة:"يمكن القول بأن مشروعه كله ينضوي تحت العنوان العريض التالي: "أخلاقية المناقشة الحرة والديمقراطية". بمعنى: لا يحق أن أفرض رأيي عليك بالقوة، وإنما من خلال النقاش والجدل الحر، وإذا لم أتوصل إلى ذلك فعلى الأقل تكون مواقعي قد توضحت وكذلك مواقعك أنت، وتكون الإشكالية الفكرية قد انكشفت على حقيقتها، وتوضحت من كل جوانبها، وهذا بحد ذاته إنجاز ومكسب، فالحوار اللغوي يحتوي على إمكانيات ضمنية للتواصل والتفاوض والنقاش، وينبغي أن يُحَتَرم هذا الحوار ويُماَرس على المستويات كافة للتوصل إلى تسويات عقلانية مقبولة من الجميع، أما إذا مُنِعَ الحوار وفُرِضَ الرأي، فإن المجتمع قد ينفجر.

هذا "باختصار شديد، ملخص نظرية هابرماس، التي تتطلب مجلداً كاملاً لتوضحيها. يضاف إلى ذلك أنه من خلال الحوار الحر تنكشف في لحظة ما، المحاجة الأقوى والأفضل، ويتبناها مختلف الفرقاء المنخرطين في عملية الحوار، فالإنسان الحر لا يخضع إلا للمحاجة العقلانية التي تثبت صحتها وأرجحيتها، وعلى هذا النحو يحاول هابرماس أن يتجاوز العقلانية الضيقة – أو التي أصبحت ضيقة للقرن الثامن عشر من جهة – والنقد المدمر للعقل والعقلانية لدى فوكو ودريدا وغيرهما من جهة أخرى، وهكذا يشق طريقاً جديدة لإنقاذ العقلانية التنويرية، إنه يحاول أن يخرج من التطرف والتطرف المضاد في آن معا ويتوصل إلى بلورة عقلانية جديدة تليق بعصر الديمقراطية"([7]).

أما المصالح المعرفية فتعني عند هابرماس أننا دائما نطور المعرفة لغرض معين، وتحقيق ذلك الغرض هو أساس مصلحتنا في تلك المعرفة، والمصالح التي يناقشها هابرماس هي مصالح مشتركة بين الناس جميعاً، بحكم أننا أعضاء في المجتمع الإنساني، فيذهب هابرماس إلى أن العمل ليس وحده ما يميز البشر عن الحيوانات، بل واللغة أيضاً، فالعمل يؤدي إلى ظهور المصلحة التقنية، وهي المتمثلة في السيطرة على العمليات الطبيعية واستغلالها لمصلحتنا. وتؤدي اللغة، وهي الوسيلة الأخرى التي يحوّل بواسطتها البشر بيئتهم إلى ظهور ما يدعوه هابرماس "المصلحة العملية" وهذه بدورها تؤدي إلى ظهور العلوم التأويلية.

فمع توسع أشكال العمل النافع وجدنا تطوراً في العلم التطبيقي وتكنولوجيا السيطرة على الطبيعة، وهذا هو الاهتمام المعرفي التقني، غير أننا في الوقت ذاته –يقول هابرماس- "نعتمد على الفعل العام والتفاعل الاجتماعي". ويرتبط التفاعل عنده، ارتباطاً داخلياً باللغة، ويزداد تطور الفهم التفاعلي في العلوم التأويلية بدءاً من الأنثروبولوجيا الاجتماعية وصولاً إلى التاريخ، وهذا هو الاهتمام المعرفي العملي. وأخيراً نحتاج أن نحرر أنفسنا من الروابط الأيديولوجية بالتفكير النقدي، كما في التحليل النفسي وفي نقد الأيديولوجيا، وهذا هو الاهتمام المعرفي التحريري.

أما بالنسبة إلى الطبيعة فإن عقلانيتنا –كما يضيف هابرماس- "تتمثل في السيطرة، وذلك ما وجب أن يكون، لأن الاهتمام المعرفي التقني لابد منه"، ولا يرى هابرماس في ذلك ما يستحق اللوم، فذلك ما يجب أن يكون، إلى هذا المكان ينتمي هذا النوع من القوة، غير أن هابرماس يرى أيضاً شكلاً من المعرفة والعقلانية لا يسيطر، فهو مُشَادْ على الاهتمام المعرفي العملي، وهنا أمر مهم، وهو، أن هابرماس لا يتصور العقلانية في القمع والسيطرة فحسب، فبدلاً من نوع من جبرية نوع واحد من عقلانية السيطرة، لدينا عمل مهم، هو البحث عن توازن معقول بين العقلانية التقنية والعقلانية العملية، وبين السيطرة والفهم، وينتمي الاهتمام المعرفي التحريري أيضاً إلى هذا المستوى الاجتماعي، وهو مهم في الصراع ضد التشيئ والقمع الباطني.

وبكلمات أخرى، نقول إنه "بالنسبة إلى الطبيعة يجري تطبيق اهتمام معرفي واحد، وهو اهتمام الشرح والسيطرةأما في المجتمع فيجري تطبيق الاهتمامات المعرفية الثلاثة جميعها. لذلك علينا أن نجهد لإيجاد التوازن الصحيح بين الثلاثة، وبخاصة بين الاهتمام التقني من ناحية، والاهتمامين العملي والتحريري من ناحية أخرى. وهذا يعني، من الوجهة المنهجية، أن هابرماس يعتقد أننا بالنسبة إلى الطبيعة لا نستطيع أن نمارس إلا البحث الذي يقوم على الفرضيات والاستنباط المنطقي، والذي يؤدي إلى شروحات بمبدأ السببية. وبالنسبة إلى الظواهر الاجتماعية يمكننا أن نقوم ببحث افتراضي – استنباطي وبحث تأويلي (فهم السوسيولوجيا) ويعني هذا في المنظور النقدي التاريخي الأوسع أن هابرماس رمى إلى إظهار وجود نوع واحد من العقلانية جوهرها يتضمن الفهم المتبادل لا السيطرة، ولدينا عقلانية الاتصالات وفعل الاتصالات"([8]).

بَيَّن هابرماس أن خَلْق الاختلافات في عملية التحديث، أدى إلى توترات أساسية بين منطقتين، هما: ما يسميه النظام وعالم الحياة، ويمكننا القول إن النظام يضم الميدانين الاقتصادي والسياسي، وهنا نجد تقدماً على شكل سيطرة علمية وتكنولوجية متزايدة. لذا، "تكون هناك فسحة للتفكير العقلاني بمعنى تحسين العقلانية، أي تحسن في معرفة أي وسائل تؤدي إلى أي غايات (أي عقلانية الوسيلة – الغاية)، غير أن نقطة هابرماس الرئيسية تمثل في أن ذلك لا يؤلف القصة كلها: وفي الوقت نفسه الذي يكون لنا فيه مؤسسات تتطور في الميدانين الاقتصادي والسياسي وترافقها عمليات تعلم، نرانا ننشئ قدرة في عالم الحياة على شكل عقلانية اتصالات ذات تطور أفضل. وباختصار نقول إن ذلك التفريق بين النظام وعالم الحياة يعني أننا نتعلم أن نمسك بتمييزات أساسية معينة: سنتوقف عن جلد البحر عندما لا يعجبنا "سلوكه" [كما فعل الملك قورش (Xerxes) في بلاد فارس في القرن الخامس ق.م، إذ أمر عبيده بجلد البحر بالسلاسل المعدنية]، لأننا نكون قد تعلمنا أن نميز بين الطبيعة والمجتمع، وبين الأشياء التي لا نستطيع التأثير فيها إلا بامتلاك نظرة في العلاقات السببية، والأشياء التي نستطيع أن نتواصل معها ونوبخها. لقد تعلمنا ذلك التمييز، لذا فإننا في مستوى تطوري أعلى من مستوى الذين لم يتعلموا بعد، ونفترض أن أولئك الذين "يجلدون البحر" بجد اليوم هم في حالة عقلية مضطربة"([9]).

وفضلاً عن ذلك، "نحن نتوقع أن يكون الراشدون العقلاء قد تعلموا أن يتحكموا بالتمييز بين الصدق والخطأ، وبين الفهم المفيد أن شيئاً هو القضية والشيء الآخر لا يمت إليها بصلة، ولا شك في أننا جميعاً نخطئ أحياناً في ذلك التمييز، ولسنا جميعاً متساووين في حسن الكلام عنه، غير إنه يمكننا جميعاً أن نوظف ذلك التمييز في الممارسة حالما نبلغ سناً معينة، كما نعتبر الفشل في التمييز بين الواقع والوهم مسألة مرض نفسي. يضاف إلى ذلك أننا نميز بين ما هو صواب وما هو خطأ، والشخص الذي لا يعرف (ولو بشكل غير دقيق وضمني) ما هو ملائم في الأوضاع المختلفة هو الغريب في عالم الحياة، وأخيراً يمكننا التمييز بين التعبير الحقيقي عما نشعر به ونفكر فيه والتعبير الزائف"([10]).

هذا التقدم في المقدرة على التفكير الانعكاسي والاتصالات، يؤدي إلى قدرة في تنظير ومناقشة المسائل المتعلقة بما هو حقيقي، وما هو حق، عندما ينشأ شك وخلافات حول مثل تلك المسائل، وبدلاً من البحث عن اجوبة في التقاليد وفي الأعمال المقبولة نتعلم تتبع المناقشات، وللوصول إلى الحقيقة –يقول هابرماس- "علينا أن نعتمد على أشكال مختلفة من البحث والنقاش، ويرى هابرماس أيضاً أن تظل المسألة مسألة بحث في المسائل المعيارية عن اتفاق معقول بين الأطراف المتناقشة. فإذا توصلنا إلى اتفاق حر مستند إلى نقاش مفتوح وفيه معلومات، فإن الجواب يمكن أن يفترض بأنه الجواب الصحيح معيارياً، واعتقد هابرماس أن الراشدين في ثقافتنا قادرون بشكل مبدئي أن يقرروا المسائل المعيارية الأساسية عن طريق مناقشة تشمل الراغبين، وهذا نسخة من وجهة النظر التي تقول بوجود أجوبة صحيحة بشكل كلي عن المسائل المعيارية، وأننا قادرون مبدئياً على الوصول إلى مثل تلك الأجوبة بواسطة الاستعمال المنطقي للعقل"([11]).

يعتبر هابرماس هذه الحجة –كما يقول غنارسكيريك ونلز غيلجي- "موجهة ضد المذهب النسبي الأخلاقي والمذهب الدوغماتي الأخلاقي، يقول: تُستَبعَد البراهين الاستنباطية لأن مثل هذه البراهين تؤدي إما إلى حلقة منطقية مفرغة وارتداد لامتناه، أو إلى نقطة توقف مختارة بشكل اعتباطي، كما إنه لا يعتمد على الحقائق البديهية أو على الحقائق المعيارية الموحى بها، فلطالما كانت لنا في هذا الميدان أجوبة ميتافيزيقية ولاهوتية مختلفة متناقضة. ولا يرى أيضاً أن الأشخاص الأحرار والمعقولين يمكنهم أن يشقوا طريقهم المنطقي إلى مثل تلك النتائج بأنفسهم وحدهم، فواحدنا يحتاج إلى الآخر لكي نفهم أن نظرتنا هي واحدة من بين نظرات عديدة، ولكي نعي انحرافاتنا اللاواعية فنصححها، ونحتاج الآخرين لأننا نحتاج عقلاً تعددياً نظرياً ومعيارياً بغية أن نناقش الأطر الفكرية الموجودة وأن نوازن الحجج المختلفة، بعضها مع بعضها الآخر"([12]).

وهنا كما يضيف هابرماس: "نواجه عقلانية بينية (Intersubjective) وإجرائية: فهي بينية لأن النقاش حاسم، وهي إجرائية لأن "المستقر النهائي" هو الإجراء ذاته وليس أفكاراً أو نظرات معينة، والإجراء هو المتابعة بشكل موضوعي واستفهامي. وقد يثبته في ما بعد أن النظرة الخاصة التي قبلناها في أوقات مختلفة بوصفها حقيقية أو صحيحة هي نظرة مشكوك فيها، فلا يوجد غير هذا السبيل في تصرفنا، بوصفنا مخلوقات غير معصومة عن الخطأ، أي الاعتراف بأخطائنا ومتابعة السير إلى أمام، لذا فإن هذا السبيل أساسي، لكن علينا أن يعترف واحدنا بالآخر اعترافاً تبادلياً بأن الطرفين عاقلان ومعرضان للخطا. فهما معقولان بما يكفي متابعة الحجة، وغير معصومين عن الخطأ، لأن هناك دائماً ما تتعلمه، والعارف بكل الأمور يمكنه أن يقدم النصح، لكنه لا يناقش، فليس هناك شيء ليناقشه مثل هذا الشخص، ونذكر أن ثمة عنصراً معيارياً في ذلك الاعتراف المتبادل، ألا وهو: المساواة. وهذا يعني وجود قيد على الأجوبة الأنانية والأثنية، وفضلاً عن ذلك هناك شرط الكلية لأن الحجج الصائبة يجب أن تكون صائبة في نظر كل إنسان، غير أنه علينا، في الوقت ذاته، أن نكون حذرين في التأكيد أن تلك مسألة تخص عملية معرضة للخطأ، قد نطلب فيها، وبشكل مستمر، تحسين آرائنا بالبحث والمناقشة، لكن حيث لا نضمن إطلاقاً أن نحوز على الحقيقة النهائية"([13]).

"هذا المفهوم للعقلانية مضاد لمذهب القرار الفصل، كما في تفكير بوبر، وفيبر وسارتر، وقد تمثل جواب هابرماس في القول بالمناقشة العامة والمتنورة بين أشخاص عاقلين، فهو يرى أن هذه العملية المعرضة للخطأ هي كل ما في حوزتنا، والبديل هو إما اللجوء إلى الحقائق الميتافيزيقية الأساسية التي لم نعد نعتبرها صادقة، أو إلى قرار عديم الأساس العقلي، جواب هابرماس كان معتدلاً، ومن نواح عديدة، إلا أنه كان إشكالية أيضاً من ناحية التحقيق العملي، ومن ناحية النقاش الفلسفي الإضافي، غير أن قوته النظرية تمثل في الحقيقة التي تفيد أنه يصعب تجنبه: فإذا حاججنا ضده ندخل في الوضع النقاشي بشرطه الأساسي الذي يقضي بنقاش متنور، وباعتراف متبادل في ما بين الأطراف المشاركة، والذين يرفضون عليهم أن يظهروا أنهم يملكون حججاً أفضل من حجج هابرماس، وتلك هي "الحلبة السحرية" للعقل المناقش، فالعقل المناقش يمثل مصيراً لا يمكن تجنبه. فلا يعني ذلك أن علينا أن نناقش دائماً، غير أنه علينا في حالات عديدة من حالات عدم اليقين أو عدم الاتفاق أن نعتمد على عقلانية إجرائية وانعكاسية بوصفها محكمة الاستئناف الاخيرة، ويرى هابرماس أن تلك هي السمة الأساسية للحداثة، والحداثة لا تتميز بالتمييز والتقسيم وحدهما، بل أيضاً بالتوحد حول عقلانية منطقية، لا يكون تعريفها بمحتواها، بل بأنها إجرائية. وهكذا يكون هابرماس الوريث لعصر التنوير على الرغم من أنه متحرر من تفاؤله الساذج"([14]).

يتوجه هابرماس في أعماله الأخيرة وبخاصة في"نظرية فعل التواصل" إلى فلسفة اللغة ابتغاء توسيع أساس التظرية النقدية وقد قدم أطروحة صعبة سنجملها في مراحل ثلاث:

1- المرحلة الأولى: يدعو إلى ضرورة التحررمما يدعوه "بفلسفة الوعي" التي يعني بها الفلسفة التي ترى العلاقة بين اللغة والفعل كالعلاقة بين الذات والموضوع (أي التحرر من منظومة الفكر التجريبي).

2- المرحلة الثانية: يمكن أن يتخذ الفعل صورتين، الفعل الاستراتيجي وفعل التواصل. الأول يتضمن الفعل الغائي العقلاني، في حين أن فعل التواصل هو ذلك الفعل الذي يرمي للوصول إلى الفهم.

3- يترتب على فعل التواصل الأولية عدة أمور:

أولاً، العقلانية بهذا المعنى ليس مثالا نقتنصه من السماء، بل هو موجود في لغتنا ذاتها، إن هذه العقلانية تستلزم نسقاً اجتماعياً ديمقراطياً لا يستبعد أحداً.

ثانياً، ثمة نظام أخلاقي ضمني يحاول هابرماس الكشف عنه، وهو الأخلاق الكلية الذي لا يتوجه إلى تحليل مضمون المعايير بقدر توجهه إلى طريقة التوصل إليها، والتوصل إليها -حسب هابرماس- يكون عبر نقاش حر عقلاني.

إذن، ينطلق هابرماس، من داخل الحداثة وخطابها الفلسفي، محاولاً إنقاذ المشروع الحداثي الأوروبي، ومستخدماً العقل كي يهدم أبنية العقل المتحجّرة والمعيقة، ويحافظ على جوهر الحداثة بعقل تواصلي، مرتبط بالحداثة، ينتجها وتنتجه من خلال بناء مختلف للذات، ويستمد هذا العقل التواصلي معطياته من العقل النقدي للحداثة، التي بينت الطبيعة الاختزالية لعقلانية الحداثة، والتي ارتبطت بالعلم والتقنية، تلك الطبيعة التي أنتجها العقل الأدائي، أي العقل بوصفه مجرد أداة لا غير، ووجوده الكلاّني الذي شيّأ كل شيء يحيط به بما في ذلك العقل نفسه، وعليه وجّه هابرماس نقداً شاملاً للعقل الأداتي ومركزه الفلسفي الوضعي، متبعاً دروب هوركهايمر، وأدورنو، وماركوز، وغيرهم من فلاسفة مدرسة فرانكفورت، وعلى هذا الأساس، اقترح هابرماس العقل التواصلي كدرب للخروج من فلسفة الذات –كما يقول عمر كعوش- "من خلال نظرية الفعل التواصلي التي تعدّ قراءة جديدة للفلسفة الأوروبية، تظهر فيهاالحداثة، في التحليل الأخير، كتحقيق لنظرية الفعل التواصلي، وترمي التواصلية إلى بناءمختلف للذات عبر عقل تواصلي يتجاوز الذات الضيقة، ويشكّل نسيجاً من الذواتالمتواصلة، ويستمد العقل التواصلي إمكاناته من العالم المعيش، ويؤسّس عقلانية تقومعلى التلاحم الذاتي، يكون فيها العقل مصدر كل القرارات، ويتطلب الفعل التواصلي،كما تدلّ تسميته، تحطيم دوائر الانغلاق سواء جاءت من العبارة أو رموزها الواقعية أوممثليها المنفذين، بوصفه نموذج الفاعلية الموجهة نحو التفاهم"([15]).

يُعَوِّل هابرماس على التوافق الفكري بين الفاعلين، "لأن الفعل التواصلي –كما يستطرد عمر كعوش- "يتطلب وعياً وإرادة لتحقيقه بين أنا وآخر، حيث أنا عندما أقوم بالكلام، والآخر الذي يتخذ موقفاً ازاء كلامي، نعقد كلانا، الواحد مع الآخر، علاقة بين شخصينا، في تبادل يتوسطه اللسان، يتيحللذات أن يكون لها مقابل ذاتها، كأننا متحاوران أحرار في جمهورية حرّة وسقراطية.

إضافة إلى ما سبق، "تناول هابرماس جملة من المسائل الراهنة، التي تثيرها قضايا مختلفة، كالمادية التاريخية وتطوّر البنى المعيارية، والتاريخ والتطوّر، وقضايا الشرعنة في الدولة الحديثة، ودور الفلسفة داخل الماركسية، والتطور كدياليكتيك، من جهة أخرى، يعتبر هابرماس الفرد والجماعة –كما يضيف عمر كعوش- "مبدأين أساسيين، لا يجوز مقابلتهما ضدياً، بل يجب النظر إليهما بوصفهما ثنائية أصلية في الديموقراطية، وبهذا يتجاوز هابرماس الفكرين: الليبرالي الذي يعلي من شأن الفرد على حساب الجماعة، والماركسي الذي يعليمن شأن الجماعة على حساب الفرد، ويشترط القبول بمبادئ المساواة والاستقلالية، بوصفها مبادئ مؤسسة للمجتمع الديموقراطي"([16]).

ويمكن ملاحظة أن مناقشة هابرماس للرأسمالية الحديثة تفتقد للحماس الذي اتسمت به أعمال الرعيل الأول لمدرسة فرانكفورت، فهابرماس يرى في الرأسمالية، أساساً، مرحلة يمكن أن تنحرف فتؤدي إلى كارثة، لكنها عنده ليست شراً مستطيراً، ولقد ركز شأن الرعيل الأول على ظاهرة الهيمنة التقنية والعقل الأداتي السائد في هذا النظام، أما بالنسبة لموقف هابرماس من التنوير، فقد أكد ان "مشروع التنوير مشروع متصل غير منتهي" مؤكداً في نفس الوقت على ضرورة تصحيح واتمام هذا المشروع وليس نبذه، وهو في هذا أبعد نفسه عن مدرسة فرانكفورت، بل انتقدها، للتشاؤم المفرط والراديكاليات والمبالغات المضللة، بالإضافة إلى نقده معظم فكر ما بعد الحداثة، وخاصة أفكار فوكو ودريدا وجان ليوتار وغيرهم ممن انتقدوا الحداثه، ووصل بهم الأمر أحياناً إلى رفضها ورفض العقلانية والسقوط في العدميه، وعلى هذا الأساس انتقدهم هابرماس بشدة في كتابه "الخطاب الفلسفي للحداثه" موضحاً مخاطر أفكارهم، ومدافعاً عن الحداثه والتنوير.

أما نظرية هابرماس حول الحداثة فهي "تشخيص فكري انطلاقًا من أصولها، أي أصول الوعي بها لدى هيغل، ومن التلازم الحميم والصميمي بين الحداثة والعقل والعقلانية والعقلنة لدى ماكس فيبر، أما المعنيون بالنقد في كتابات هابرماس حول الحداثة فهم نيتشه وهايدغر، ثم ليوتار وفوكو، ورواد سوسيولوجيا التحديث والتنمية، ورواد مابعد الحداثة، دون تجاوز نيتشه، هذا المجنون بالله، فهو نبي مابعد الحداثة، وكتاباته هي إنجيلها المكتوب بلغة المراثي"([17]).

أما هايدغر "فهو النبي الثاني لما بعد الحداثة، إذ انتقد الحياة الحديثة باعتبارها حياة يستثمر فيها الإنسان مجموعة "أصنام" هي المال، والجمهور (أو المبني للمجهول)، والأنا، والأداة التقنية، وهي حياة تتسم بأفول المقدس المتعالي والحضور البديل للمقدس المتداني، وبانتهاب واستنهاك الأرض، وقطعنة (من القطيع) الإنساني، وانتشار السطحية والتفاهة والمعيار الكمي؛ كما تتسم بالتيه في صحراء العدمية التي لا تعود فقط إلى انحطاط القيم العليا كما تصور نيتشه، بل إلى نسيان الكينونة والاهتمام فقط بالكائن.

كما يتوجه "رد هابرماس الدفاعي عن الحداثة كذلك إلى ما يسميه الاتجاه الفوضوي في الفلسفة الفرنسية المعاصرة والذي يمثله كل من جورج باتاي الذي اعتبر أن الحياة الحديثة خاضعة لتكييف كلياني شمولي، وفوكو الذي يود أن ينزع القناع المزين للعقل، ويصور التحديث كعملية عقلنة قمعية وتأديبية صارمة وقاسية كما تتجلى في السجون ومراكز المرض العقلي والمدارس وثقافة ترويض النفوس"([18]).

لقد تميز تشخيص هابرماس للحداثة –كما يقول د. محمد سابيلا- "بتحرره من النغمة السلبية التشاؤمية اليائسة لرواد مدرسة فرانكفورت بالخصوص، والتي عكست خيبة أمل الأنتلجنسيا الألمانية تجاه إخفاقات العصور الحديثة وبخاصة في القرن العشرين والمتمثلة في إخفاق الثورة ضد الرأسمالية وظفر البيروقراطية الاشتراكية في روسيا وحزامها الاشتراكي الأمني، وانتصار الفاشية والنازية وفظائعها بالخصوص، فهو يعتبر نقد كل هؤلاء للعقل وللأنوار نقدًا وحيداً الجانب وغير جدلي وغير استشرافي، فهذا العقل الأنواري الذي يدينونه قد حقق حلم الإنسان في أن يصبح سيدًا للطبيعة، وحرره من هيمنة الكنيسة المطلقة، ومن الميتافيزيقا، ومن الاستبداد المجتمعي والسياسي.

منطلق هابرماس –كما يضيف محمد سبيلا- "هو إعادة قراءة لنظرية ماكس فيبر حول الحداثة كعملية عقلنة بمعنى التنظيم والتكييف المتبادل بين الوسائل والأهداف، وهذه العملية هي أساس الحداثة وجوهر التحديث ونواة نشوء المجتمعات الحديثة والثقافة الحديثة، إذ أن دينامية المجتمع الحديث تعود حسب ماكس فيبر إلى نشوء بنيات اجتماعية متمايزة بعضها عن بعض ومتمحورة لا حول نواة روحية واحدة بل حول منظومتين مستقلتين ومترابطتين في نفس الوقت هما المنشأة الرأسمالية وجهاز الدولة البيروقراطي، حيث يركز هابرماس في قراءته لنظرية فيبر على معنى الحداثة كعملية عقلنة شاملة وعلى العلاقة الحميمة بين الحداثة والعقلنة، ويرى أن كل المفكرين الذين وعوا الحداثة وعلى رأسهم هيجل قد أكدوا على هذه العلاقة الحميمة، لذلك يرى أنه من الضروري العودة إلى كلاسيكيات نظرية الحداثة في شقيها الفلسفي (هيغل) والسوسيولوجي (ماكس فيبر) للتأكد من هذه الصلة الحميمة أولاً ولقياس مدى صحة إدعاء تيارات ما بعد الحداثة الانفصام بين الحداثة والعقل وبأن تطور المجتمع والفكر في الغرب قد جعله ينفلت من هذا الأفق الحداثي العقلاني المحدِّد"([19]).

لماذا يهمنا هابرماس؟

إن لفكر هابرماس ولتحليلاته حول الحداثة وأسسها الفلسفية –كما يستطرد محمد سبيلا- "أهمية كبيرة وفائدة جلية للفكر العربي والمعاصر: "أولها، أنه يقدم للفكر العربي مادة فكرية ثرية حول الأسس الفلسفية للحداثة، حول مشروعيتها وعلاقتها بالتراث والتقليد، وتصورها للعقل والعقلانية أي بسياقات فكرية لم تتعرف عليها الثقافة العربية المتلكئة بين التقليد والتحديث، بين القدامة والحداثة. خاصة وأن الوجه الذي عرفت به الحداثة في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة هو الوجه السياسي المتمثل في مكونات ومظاهر الحداثة السياسية وفي الحداثة التقنية والتنظيمية عامة، أما الأبعاد الفكرية والفلسفية للحداثة فهي ماتزال غائبة أو مغيَّبة عن أفقنا الفكري وهو ما يجعل أفكار هابرماس ذات ضرورة قصوى.

ثانيها، أن هناك ميلاً في الثقافة العربية المعاصرة وبخاصة في مجالات الأدب والفن إلى تبني أفكار ما يسمى تجاوزًا "ما بعد الحداثة" وذلك إما تحت تأثير موجات الموضة والاتباع أو تحت تأثير دفع لا واعي نحو تخطي أو حرق المراحل.

لكن هناك دافعًا آخر قويًا هو أن طغيان مشاعر الهوية الدفاعية وما تولده من نرجسية ثقافية ونزعة أصولية يدفع في اتجاه القول بأن الحداثة (التي تتعلقون بها وتتبجحون بها) قد مَجَّها أصحابها أنفسهم وانتقدوها وهم في طور تجاوزها نحو "ما بعد الحداثة"، هنا أهمية فكر هابرماس تعود إلى جرأته في الدفاع عن الحداثة والعقل والقول بأن الحداثة مشروع واعد وطافح بالآمال.

ثالثًا، يستفيض هابرماس في تتبع وتطوير فكرة هيجل حول الحاجة إلى الفلسفة، والتطابق الحاصل بينهما من حيث أن الفلسفة تفكير في عصرها أو تحويل الواقع إلى فكر، وكذا دورها في المصالحة بين الفكر والواقع التاريخي وفي ترميم الكلية الاجتماعية بعد الشروخ والتمزقات الأفقية والعمودية التي تصيب البناء الاجتماعي نتيجة تفكك الوحدة الروحية التقليدية والتشكل شبه المستقل للبنيات الاجتماعية الحديثة"([20]).

أمام التحولات الجارية في الواقع العربي الإسلامي، تتولد الحاجة إلى بلورة رؤية شمولية تاريخيًا وبنيويًا لهذه التحولات، خاصة أمام تفتت وتجزؤ وتخصص المعارف في مجال العلوم الإنسانية مع ما يصاحبها من نظرة جزئية وغير نقدية، إذ تظل للتناول الفلسفي (الغائب عن معظم الجامعات العربية)، ببعديه الشمولي والنقدي، قيمة إبستمولوجية وفكرية استثنائية"([21]).

في سياق علم الاجتماع، مساهمة هابرماس الرئيسية كانت تطويرالنظرية الشاملة للتطور الاجتماعي الحضاريِ وتركيز الحداثة على الاختلاف بين العقلانية - المذهب العقلي الذي يقول بأن العقل غير مسعف بالوحي الالهي، والعقل هو الهادي الوحيد إلى الحقيقة الدينية أو المعرفة - المترجم - والعقلانية التواصلية من ناحية إستراتيجية /العقلانية الأداتية، دفاعه عن الحداثة والمجتمع المدني كان مصدر إلهام للآخرين، واعتبر كبديل فلسفي رئيسي لتنويعات ما بعد البنيوية، وقد طرح أيضا تحليلا مؤثرا ً للرأسمالية المتأخرة.

رأى هابرماس في العقلانية، والأنسنة، ودمقرطة المجتمع من الناحية المؤسساتية الإمكانية للعقلانية المتأصلة في الفاعلية التواصلية التي هي حالة متفردة للنوع الإنساني، لذلك يؤكد هابرماس على الانفتاح على العلوم الاجتماعية وليس فقط على الاقتصاد, حيث عالج القضايا الرئيسية لدى مدرسة فرانكفورت مثل (التشيؤ) والاغتراب والعقل الأداتي والحداثة والعقلانية التواصلية.

لقد كان هابرماس ناقدا للنقد, وبذلك أعطى للتنوير دلالة ايجابية وخلصه من صفاته السلبية التي دمغها به استاذاه ادورنو وهور كهيمر واستحق ان يوصف بانه المعبر عن التنوير العقلاني في القرن العشرين والحريص على تكوين راي عام حر، فقد "اعتبر هابرماس في تناوله لماركس وللماركسية–كما يقول وليد عطو- على احتوائها على قدرة نقدية هائلة, وحاول إعادة النظر إلى الماركسية بخلقه تعبيرا جديدا في الفلسفة النقدية وهو (الماركسية كنقد)، حيث يذهب هابرماس في كتابه "النظرية والتطبيق" إلى أن الماركسية ليست أيديولوجيا وليست اعتقاداً سياسياً, بل ان الماركسية هي "طاقة للنقد"، وبالرغم من تاثر المدرسة النقدية الكبير بالماركسية إلا أنها لا تقبل المقولات الماركسية على علاتها وكما هي"([22]).

أهم كتبه: "البنية السلوكية للحياة العامة" ، "النظرية والممارسة" و"التقنية والعلم من حيث هما أيديولوجيا"، "وجوه فلسفيه وسياسية".




([1]) غنارسكيربك و نلز غيلجي – تاريخ الفكر الغربي .. من اليونان القديمة إلى القرن العشرين – ترجمة: د.حيدر حاج إسماعيل – مركز دراسات الوحدة العربية – الطبعة الأولى ، بيروت، نيسان (ابريل) 2012 - ص 962

([2]) جورج طرابيشي – معجم الفلاسفة – دار الطليعة – بيروت – ط1 – أيار (مايو) 1987 – ص 687

([3]) د. خديجة زنتيلي – حوار مع فاطمة الفلاحي (بؤرة ضوء) – الحوار المتمدن – 17/8/2017

([4]) المرجع نفسه

([5]) هاشم صالح – من الحداثة إلى العولمة .. رحلة في الفكر الغربي– المجلة العربية - الطبعة الأولى – 2010م - ص 237

([6]) المرجع نفسه - ص 239

([7]) المرجع نفسه - ص240

([8]) غنارسكيربك و نلز غيلجي –مرجع سبق ذكره – تاريخ الفكر الغربي - ص 962-963

([9]) المرجع نفسه - ص 963

([10]) المرجع نفسه - ص 965

([11]) المرجع نفسه - ص 966

([12]) المرجع نفسه - ص 967

([13]) المرجع نفسه - ص 968

([14]) المرجع نفسه - ص 969

([15]) عمر كعوش – النظرية النقدية التواصلية – الانترنت .

([16]) المرجع نفسه.

([17]) محمد سبيلا – دفاعاً عن الحداقة والعفل.. هابرماس واهميته للفكر العربي – مجلة فكر وفن – العدد 92 – 2010.

([18]) المرجع نفسه .

([19]) المرجع نفسه .

([20]) المرجع نفسه .

([21]) المرجع نفسه .

([22]) وليد يوسف عطو – الفيلسوف يورجينهابرماس ومدرسة فرانكفورت – الحوار المتمدن - العدد: 4768 – 4/4/2015.