الماركسية كعلم 4


طلال الربيعي
2021 / 4 / 22 - 05:22     

في 14 نوفمبر 2012، بدأ ملايين العمال في جميع أنحاء المدن الرئيسية في منطقة اليورو في احتجاج دولي منسق غير مسبوق ضد الآثار الاجتماعية للضرائب وتدابير التقشف المفروضة من قبل الحكومات بعد انهيار الأسواق المالية في سبتمبر 2008.1. أدت المناقشات التي أدت إلى هذا الحدث وبعده إلى إعادة تأجيج الأفكار النقدية حول الإرث الفكري لكارل ماركس، وخاصة معالجته الواسعة النطاق للعواقب الاجتماعية والفلسفية للرأسمالية المعرضة للأزمات بطبيعتها. بينما يراهن النظام الرأسمالي على أكثر مراحله ديناميكية، أي العولمة الرأسمالية المالية, فان تقريبًا كل مؤيديها البارزين، أُجبروا على الاعتراف بمأزقها. فمثلا, يقول تيري ايغلتون "يجب ان نعلم ان الرأسمالية في ورطة عندما يتحدث الرأسماليون عن الرأسمالية".
Eagleton, T. 2011. Why Marx Was Right. New Haven: Yale University Press
p. 8

السؤال المناسب هو : هل ان الماركسية, باعتبارها النظرية التاريخية النقيض لأطروحة اقتصاديات السوق الحرة، تحتفظ بالأدوات الملائمة والنظرية لحل القضايا الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والثقافية التي تبدو مستعصية على الحل والناشئة في المرحلة الأخيرة للرأسمالية؟

على عكس فترات منتصف القرن العشرين لإريك فروم وميرلو بونتي ولويس ألتوسير ، ان طبيعة التحدي في حقبة ما بعد غورباتشوف لم تعد خلافًا على النسخة الصحيحة من الماركسية، ولكن كيفية تطبيق واستخدام الماركسية كأداة نظرية في الوقت الحاضر بيئيا, اقتصاديا, ديناميكيا ثقافيا, وتقنيا. مواجهة هذا التحدي تمثلت في الأعمال الأخيرة للعلماء الماركسيين مثل كيران ألين
Kieran Allen’s (2011) Marx and the
Alternative to Capitalism
https://www.amazon.com/Alternative-Capitalism-Kieran-Allen-2011-07-06/dp/B01K3QY8HQ
وكتاب Terry Eagleton (2011) المذكور اعلاه
https://yalebooks.yale.edu/book/9780300169430/why-marx-was-right
هي ذات أهمية خاصة. ومع ذلك، فإن الأدبيات الحديثة التي تهمنا اكثر من غيرها هي تلك الأعمال التي تتعامل بشكل مباشر أو غير مباشر مع أهمية الماركسية كنظرية أو نظرة فلسفية, مثل بول بولوتشي
Marx s Scientific Dialectics: A Methodological Treatise for a New Century
https://www.amazon.com/Marxs-Scientific-Dialectics-Methodological-Treatise/dp/1608460398
(الديالكتيك العلمي لماركس : رسالة منهجية للقرن الجديد),
وكذلك كريستيان فوكس وفينسنت موسكو (2012)
Introduction: Marx is Back – The Importance of Marxist Theory and Research for Critical Communication Studies Today
https://www.triple-c.at/index.php/tripleC/article/view/421
(مدخل: عودة ماركس- الأهمية النظرية والبحثية للماركسية في دراسات الاتصالات النقدية اليوم)،
هي من هذا النوع!

خلال القرن الماضي، كان التحدي الرئيسي للمنظرين الماركسيين في دول أوروبا الغربية هو كيفية فهم عدم الاستمرارية بين المثالية الإنسانية المتأصلة في الفكر الماركسي والسلوك السياسي للاتحاد السوفييتي كدولة تأسست وفق المبادئ الماركسية. ضمن تلك الفترة, ميز لويس ألتوسير (1918-1990) نفسه كمفكر تجاوز التحديات السياسية العرضية التي تواجه الاحزاب الشيوعية في الغرب، حيث تصدي للبنية النظرية للماركسية نفسها.

جادل ألتوسير بلا هوادة بأن الماركسية ليست أيديولوجية سياسية. أنها في الأساس وحصريًا علمًا أو نظرية يمكن تطبيقها تكتيكيًا في سياقات رأسمالية مختلفة، بشكل أساسي مثل اللينينية (Althusser 1972: p.167).
Althusser, L. 1972. Politics and History. Surrey: Unwin Brothers
https://www.amazon.com/Politics-History-Montesquieu-Rousseau-Thinkers/dp/1844675726

كعضو فاعل في الحزب الشيوعي في فرنسا، كون التوسير افكاره من خلال رغبة سياسية أكثر من كونها الرغبة في الإثراء الفعال للفلسفة الماركسية لتتجاوز الجدل الإنساني في عصره. وهكذا توقف فقط عند افتراضه الطابع المعرفي للماركسية. هذا التركيز على جانب واحد من محتوى فلسفة ماركس لم يكن مفيدًا في التعامل مع تعقيدات حقبة ما بعد 1989.

في جوهر عمل التوسير يكمن السؤال عن مدى المكنون المعرفي في رفض ماركس للفلسفة الإنسانية للودفيج فيورباخ (1804-1872)، كما أعلن في أطروحاته حول فيورباخ وتم تفصيله في الأيديولوجيا الألمانية (إنجلز ، ماركس [1846]). بعبارة أخرى، هل هناك منهجية جديدة متعمدة في إنتاج ماركس الببليوغرافي - الفكري من عام 1845 وما بعده؟ هذا هو السؤال الذي فرضه ألتوسير بحدة على النقاش حول الطابع الإنساني لماركس بنشر كتابه Pour Marx في عام 1965.
Althusser, L. 1969. For Marx. Hammondsworth: Penguin Press
https://www.abebooks.co.uk/book-search/title/for-marx/author/althusser/first-edition/

استنتاجه ، والذي سنقوم بتقييمه لاحقا, هو أن هناك اختلافً معرفيً جذريً بين ماركس ما قبل عام 1845، وماركس مؤلف كتاب رأس المال (1867). و الفارق الجوهري هو افتراض ان رأس المال مؤلف باسلوب علمي. ماركس الناضج، واللاحق، والحقيقي ، الذي سيكون مفيدًا لنا اليوم، حسب ألتوسير، انسان عالم، وتتكون علمية هذا الماركس باستخدامه الذي لا هوادة فيه لنظرية المعرفة "المعادية للإنسانية". هذا الماركس، وفقًا لذلك، ليس فيلسوفا. مهمتنا هي تسليط الضوء على الكيفية، على الرغم من أن ألتوسير صحيح بشكل أساس ، كما يدعمه رأيه المحتوى العلمي المتعمد لـ Das Kapital، فشل في تقدير أو توضيح هذا النوع من"علم" الماركسية.

الا ان بعض الكتاب يعتقدون ان التوسير فشل في إبراز دور العامل البشري في بناء ماركس للمادية التاريخية, وفي ان النظرية الماركسية علم بشري. في مقدمة ويلهيلم ديلثي (1833-1911) حول الاختلاف بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية, يصنف ديلثي العلوم الإنسانية على أنها Geisteswissenschaft، أي علوم تفسيرية يمكن تطبيقها حتى على العلوم السلوكية مثل علم النفس، و متمايزة عن العلم الطبيعي Naturwissenschaft، كمجرد علم تجريبي، وهذا يشكل موضوعة حاسمة في تحديد طبيعة وفائدة النظرية الماركسية.
Dilthey, W. 1989 [1883]. Introduction to the Human Sciences, Makkreel, R.A. & Rodi, F. (eds)
https://books.google.ad/books?id=-Tq6fu1yu-cC

نتفق مع دانيال ليتل (2008) على أن الماركسية, بصفتها علما انسانيا Geisteswissenschaft, فإن العلم الانساني ينبغي ان يكون أساسًا هيرميناطيقا اجتماعيا لأن التأويل الاجتماعي يقوم على حقيقة أن حياة الإنسان تتكون من فعاليات اجتماعية ومعنى هذه الفعاليات.
Little, D. 2008. ‘What is hermeneutic explanation
http://www-personal.umd.umich.edu/~delittle/Encyclopedia%20entries/hermeneutic%20explanation.htm

بالنظر إلى نهج ومحتوى مشروع ماركس من 1859، فأن أفضل فهم للماركسية هو كونها هيرمانطيقيا-تأويلية اجتماعية للعمل الثوري. إنها شرح للقوانين التي تحكم التغيير المجتمعي في الزمن المادي. إن هدف النظرية الماركسية هو وضع السلوك الاجتماعي البشري في سياق تاريخي يتم تفسيره بمصطلحات ديالكتيكية هيجل. ومن ثم فهي نظرية هرمانطيقية للتغيير المجتمعي ضمن خطوط توصيف ديلثي للعلوم الإنسانية. فيما يتعلق بالتركيز على التأويل، فإن توصيف الماركسية هذا يردد صدى تفسير سونغ للبنيوية والتأويل :
"في عالمنا، لم تعد الهيرمانطيقيا موجهة فقط للمهمة الخاصة المتمثلة في فهم كنه الرسائل اللفظية أو النصوص التي يكتنفها الغموض. بل يتم استخدامها الآن لتفسير عمر كامل أو ثقافة بمجملها".
Seung, T.K. 1982. Structuralism and Hermeneutics. New York: Columbia University Press
https://www.degruyter.com/document/doi/10.7312/seun92986/html
p. ix

من الضروري أن نذكر هنا ما نفهمه ونعنيه بـ "الماركسية". ماركس نقل عنه أنه ذكر مرة في سخط أنا نفسي لست ماركسيا". يمكن اعتبار إرث ماركس هو صياغته لنظريتين متشابكتين تشكلان ما يشار إليهما باسم النظرية الماركسية. هذه هي، أولاً ، المفهوم المادي للتاريخ القائم على قلب ديالكتيك هيجل، كما هو موضح في البيان الشيوعي لعام 1847. والثاني هو صياغة نظرية القيمة الاستعمالية، وخاصة في عزلها عن فائض القيمة باعتبارها استغلال مقنن للعمل البشري كأساس للنظام الرأسمالي. عندما نشير في هذه الورقة إلى الماركسية بصفتها الاجتماعية - التأويلية، فإننا نعني تطبيق هذه النظريتان معًا كأداة لتفسير الماضي والحاضر والمستقبل لنظام اجتماعي معين.
يتبع