تشويه توماس بيكتي لأفكار كارل ماركس


عبدالرحمن مصطفى
2021 / 4 / 18 - 21:54     

في مقال سابق بعنوان "مناقشة كتاب راس المال في القرن الواحد والعشرين" قمت باستعراض أفكار بيكتي الرئيسية وتحليله التاريخي للامساواة،وفي هذا المقال ؛ مناقشة مقتضبة للمغالطات التي وقع بها بيكتي عند استعراضه لأفكار ماركس الإقتصادية والتاريخية ،وبيكتي يختزل كارل ماركس في مسألة التنبؤات ومدى صدقها أو عدم صدقها ،وعلى نحو مايفعل الليبراليين المبتذلين "مع تزييفهم المعتاد في هذا" ويشاركهم في هذا الستالينيين أيضا ،الذين يختزلون ماركس في البيان الشيوعي ورغم احتواء البيان على العديد من التنبؤات الصادقة ،إلا أن ماركس صرح بضرورة تنقيح وتعديل البيان المذكور،لكن المشكلة التي يقع بها بيكتي في كتابه ،أنه لم يكن أميناً في نقله لأفكار ماركس ولا لتنبؤاته حتى ،ورغم أن بيكتي درس المنهج التعليمي السائد في الإقتصاد والذي وصفه كارل ماركس عن حق بالمبتذل ،إلا أن بيكتي خرج عن هذا النهج وأعلن رفضه للمنهج الرياضي القياسي المتبع فيه ،وهو مايتضح من المنهج المتبع في الكتاب المذكور ،حيث أن بيكتي يستخدم المنهج التاريخي في تحليله للامساواة والتقلبات التي طرأت على معدلاتها وفي دول مختلفة ويضرب صفحاً عن الشعوذات الرياضية التي تستخدم في الاقتصاد السائد ،لاشك أن كتاب بيكتي المذكور مهم من ناحية احتواءه على مادة إحصائية ثرية بشأن معدلات اللامساواة في الثروات والدخول تفند كل الأكاذيب الراسمالية والنيوليبرالية ليس في مسألة توزيع الثروات بل في معدلات النمو ايضا ،حيث أن الدول التي شهدت انخراطا حكوميا في اقتصاداتها حققت معدلات نمو أكبر مما كان عليه الحال بعد لجوء هذه الدول لتحرير اقتصاداتها هذا حال الدول الإفريقية مثلا ،حيث حققت هذه دول معدلات نمو 2.1% من عام 1950-1970 لكن بعد تبني البرنامج النيوليبرالي أو مايدعى التكييف الهيكلي structural adjustment تراجعت معدلات النمو الى 0.3% بين الفترة من 1970 -1990 و1.4 % بين الفترة 1990 -2012 الأمر ذاته ينطبق على أوروبا وأمريكا حتى (رغم أن الدعاية التي تسلق عليها المحافظين في ثمانينيات القرن الماضي في أمريكا وبريطانيا هي لحاق الدول الصاعدة "ألمانيا واليابان"التي شهدت معدلات نمو مرتفعة)..لكن لايمكن قبول تحليله التاريخي والاجتماعي واستعراضه للفكر الاقتصادي دون مناقشة ونظر،لهذا سأناقش وبشكل مقتضب استعراضه لأفكار كارل ماركس الإقتصادية والتحليل التاريخي والإستشرافي الذي استخدمه كارل ماركس.

في كتاب رأس المال في القرن الواحد والعشرين ،يقرن توماس بيكتي بين تحليل ماركس لأزمات الرأسمالية والفكر الاقتصادي السائد في القرن التاسع عشر ،الذي طور على يدل ريكاردو ومالتوس (ولو أن الأخير انحرف الى الاقتصاد المبتذل أكثر) ،لهذا يرى بيكتي أن المفكرين في تلك الفترة كانوا أكثر تشاؤما بالمآلات التي سيؤول اليها النظام الرأسمالي وعلى اختلاف توجهاتهم الآيديولوجية ،وإنطلاقاً من مشكلة الندرة حذر كلاً من ريكاردو ومالتوس من مصير النظام الرأسمالي ،فالأول رأى ان الموارد الزراعية في تناقص وأن أسعار السلع الزراعية ستشهد ارتفاعاً سيؤدي الى عودة طبقة ملاك الأراضي مرة أخرى الى المشهد بعد أن تزيح الطبقة البورجوازية الصاعدة ،والثاني عبر عن رضاه عن حالة اللامساواة التي شهدها العالم الراسمالي في القرن التاسع عشر! لأن زيادة الأجور ستترافق مع معدلات نمو سكاني مرتفعة مما يحول دون الإستفادة من الموارد المحدودة في الكوكب ،والغريب في الأمر أن بيكتي يقرن تحليل ماركس بهذه التفسيرات اللاتاريخية والتي تقف على النقيض من رؤية ماركس التاريخانية للنظام الرأسمالي ولتحليله لمسألة التراكم ،وبيكتي يصور فكر ماركس كما لو أن الأخير درس "المشكلة الاقتصادية" كمشكلة موارد والطريق الأمثل لإدارتها على نحو مايفعل الاقتصاد المبتذل ،لقد إنطلق كارل ماركس في تحليله للرأسمالية وفي كتابه الأساس (راس مال) من اعتبار أن فائض القيمة تنبع من الشكل الاجتماعي للنظام الاقتصادي ،أو من العلاقة بين الراسمالي والعامل ،ففائض القيمة هي نتاج لاستغلال العامل وليست المسألة من أين تنبع على نحو ما نظر الفيزوقراط وتبعهم آدم سميث في اعتبار أن فائض القيمة تنبع من الأرض ،الموارد الطبيعية تحديداً.

لعل مايميز كارل ماركس عن غيره من رواد الاقتصاد السياسي هو هذه النقطة تحديداً،ولهذا كتاب ماركس في (راس المال) ليس كتابا اقتصادياً صرفاً يبحث في سبل تنمية الإقتصاد بالإعتماد على مشكلة الندرة النسبية ،بل هو كتاب يبحث الظاهرة الاقتصادية في تموضعها الاجتماعي ،ولقد كان ماركس ناقداً للاقتصاد السياسي في عصره وللاقتصاد المبتذل الذي سيسمى زوراً (النيوكلاسيك) رغم ان هذا لاتجمعه أية علاقة مع الاقتصاد السياسي الكلاسيكي ،حيث أن الأخير انطلق في تحليله من الإنتاج لا من التداول أو السوق على نحو مايفعل المبتذلين ،لهذا ماركس لم ينظر الى الاقتصاد كحقل علمي مجرد على نحو ما هو متعارف عليه في ميدان العلوم الطبيعية ،فليس هناك قوانين أبدية للاقتصاد ،وإن الصراع الطبقي والصراعات السياسية بين الدول والأمم والتنافس بين التكتلات الاقتصادية كل هذه الصراعات والتنافسات تؤثر في موازين القوى والتوازنات الاجتماعية للطبقات المختلفة ،وإن يكن هناك ظاهرة مميزة للنظام الراسمالي كنظام اقتصادي ،هو قانون القيمة ومفعوله في النظام الاقتصادي ،وفائض القيمة ليس نتاجاً طبيعيا ،بل هو نتاج اجتماعي للاستغلال الطبقي في المجتمع الرأسمالي .

لهذا لعل ما يبرز هنا عند مناقشة استعراض بيكتي لتحليل ماركس هو المقدمات الخاطئة التي اعتمدها بيكتي ،فماركس ليس من المتبنين لفكرة نهاية التاريخ كما هي عند منظر الرأسمالي الأبرز فوكوياما ،أو حتى هيجل ،وفكرة الديالكتيك لوحدها تنفي أي تصورات خاطئة عن نهاية التاريخ ،وماركس لم ينظر الى أزمات الرأسمالية كمشكلة إنتاجية ،وهنا بيكتي يدعي خطئاً أن ماركس تصور أن معدل النمو السكاني هو صفر ! والأمر ذاته بالنسبة لنمو الإنتاج،وإن اطلاعاً بسيطاً على المجلد الأول من كتاب راس مال يفند هذه التصورات ،فعند استعراض موضوع فائض قيمة ،فرق ماركس بين الزيادة المطلقة في فائض القيمة والزيادة النسبية ،والأخيرة تعبر عن ارتفاع انتاجية العمل ،فالعامل ينتج في وقت معين ضعف ما كان ينتجه في السابق وذلك بعد إدخال وسائل تكنولوجية حديثة (آلات حديثة في الإنتاج) ،ويكتي يعبر خطئاً بقوله أن ماركس تصور أن الزيادة في عدد الالآت فقط ! وليس في المستوى التكنولوجي ،وهنا يتضح عدم قراءة بيكتي لكتاب راس المال رغم انه يستشهد به في أحيان.

ولعل المغالطة الأبرز والتي توضح ان بيكتي اما انه لم يفهم كتاب راس المال أو انه لم يقرأه أصلا ،هو ما ارتآه عند تحليل انخفاض معدل الأرباح في التحليل الماركسي ،فبيكتي لكي يؤكد تصوراته يستشهد بهذا القانون ،ولتوضيح هذا ينبغي استعراض علاقة سبق أن أوضحتها في مقالتي السابقة ،ففي كتاب بيكتي المذكور تعبر العلاقة ؛ راس المال | الدخل القومي، وهي على المدى الطويل تعبر عن العلاقة بين الادخار والنمو ،بيكتي يرى أن باعتبار ماركس لم يتصور أن الإنتاج يمكن أن ينمو! فأن الدخل القومي يصل الى صفر ! وبذا لايبقى الا المدخرات أو الأصول الرأسمالية ،وبهذا ينشب صراع بين الراسمالين أو تقوم ثورة عمالية كنتيجة لانعدام النمو الإنتاجي ولجوء الرأسماليين لاقتطاع فوائضهم من الأجور! إن تصورات بيكتي هذه توضح أنه لم يفهم فعلياً مسألة انخفاض معدل الربح ،وأن الاقتصاد النيوكلاسيكي المبتذل عموماً والمتبع في الجامعات يشوه عقل دارسه ومن الصعب أن ينزع عنه سيطرة هذا المنهج الزائف كلياً ،وذلك رغم ثورة بيكتي على المنهج النيوكلاسيكي المذكور.

فماركس لم يقل أن انخفاض معدل الربح هو انخفاض للدخل القومي أو الإنتاجية بل العكس تماماً هو الصحيح! ،حيث أن انخفاض معدل الربح يعبر عن ارتفاع الانتاجية وارتفاع الدخل القومي في حالة بيكتي هذه،فمعدل الربح يقاس بالنسبة لراس المال ككل (الثابت والمتغير) ،فمثلاً لو أن رأس المال الثابت 80والمقصود هنا (الالات والأراضي والمواد الأولية كالصوف أو المعادن الخ والمواد المساعدة كالوقود الخ) ،وراس المال المتغير 20 ومعدل فائض القيمة 100% اي أن فائض القيمة 20 ،تصبح المعادلة :

80 ث +20م+20ف ،هنا معدل الربح 20% ،لكن في حال ارتفاع نسبة راس المال الثابت الى 130 واعادة توزيع للعمل الفائض والضروري بحيث تصير م =15 وف=25 ،هنا معدل الربح 25|145 = 17 %

أي أن معدل الربح انخفض هنا ،لكن معدل فائض القيمة ارتفع ،وبهذا يزيد الرأسمالي استغلال عمالته من خلال ادخال آلات أو تقنية أكثر تطوراً في الإنتاج بحيث ينقص من خلاله وقت العمل الضروري أو بتعبير معاصر (الحد الأدنى للأجر وعلى حسب كل قطاع) ،لقد عبر ماركس و بصورة واضحة بأن انخفاض معدل الربح ماهو إلا ترجمة لارتفاع انتاجية العمل وزيادة استغلال العمل وهذا ما يطمح اليه الرأسماليون،فكتلة الربح تشهد ارتفاعاً ومعدل فائض القيمة أيضاً لكن معدل الربح يشهد انخفاضا بسبب زيادة حصة راس المال الثابت في العملية الانتاجية ،وهذا نتاج لإحلال التقنية أو الالة بدلاً من العمل الحي ،وزيادة الانتاجية هذه تعني ارتفاع ما ينتجه العامل في وقت محدد ساعة مثلاً( بدلا من 100 وحدة من سلعة معينة ينتج العامل وبعد ادخال تقنيات انتاج حديثة 200 ) وسعر السلعة الواحدة ينخفض وبذا كتلة الربح تنخفض للسلعة الواحدة لكن كتلة الربح ترتفع بالنسبة لمجموع السلع المنتجة (200 في حالتنا) ،لهذا وعلى عكس ماذهب اليه بيكتي ،فأن انخفاض معدل الربح يعبر عن نمو الانتاج واستخراج فائض قيمة أكبر.

أما الخلاصات التاريخية لكارل ماركس والتي شوهها بيكتي ،فهي أن الصراعات تحتدم فعلاً بين الراسماليين ،لكن ليس بسبب انخفاض الانتاجية كما ذهب الى ذلك بيكتي ،بل على النقيض بسبب زيادة الانتاجية! فأزمة النظام الراسمالي بالدرجة الأولى هي أزمة فائض انتاج وهذا يتضح أكثر في مناقشة ماركس لبرودون في كتابه بؤس الفلسفة من أن النظام الاقتصادي هو نظام عرض وليس طلب ،أي الانتاج يحتاج دائماً الى أسواق لتصريف السلع ،ولهذا فأن الاستعمار ما هو الا تعبير عن أزمة النظام الراسمالي وحاجته لتصريف السلع ،بالإضافة لتصدير رؤوس الأموال (بغية تحقيق ربح أكبر كون الاستغلال اكبر في البلدان الطرفية) ،ولهذا فأنن تنبؤات ماركس صحيحة تماماً فأزمة النظام الراسمالي تجلت بالاستعمار وما نشب عنها من حروب كنتيجة للتنافس الشرس بين القوى الاستعمارية على الأسواق والبلدان المختلفة (في منطقة البلقان وفي شمال افريقيا "الأزمة المغاربية بين ألمانيا وفرنسا" وفي آسيا الخ..) وكنتيجة لهذا التنافس ،فأن الراسماليون يسعون الى اقصاء بعضهم البعض وذلك من خلال الحد من انتاج الآخر لا رفعه! أي حتى تسيطر فئة معينة على الانتاج الراسمالي وتستفرد في تزويد السوق الوطنية أو الأسواق الأجنبية بالسلع اللازمة ،لهذا يظهر الاحتكار وهو ما بدأ من نهاية القرن التاسع عشر ،وقد صدقت تنبؤات ماركس في هذا ،فالنظام الراسمال يتجه أكثر فأكثر الى الاحتكار .

خاتمة ،ان كتاب بيكتي المذكور مهم من ناحية احتواءه على احصاءات مهمة تكشف تطور اللامساواة وعودتها (منذ الثمانينات) حتى وصلت الى نسب قريبة لما كان عليه الحال قبل الحرب العالمية الأولى في أمريكا تحديداً ،اما الدول الاوروبية فقد حافظت جزئيا على ميراثها الاجتماعي والاشتراكي ،خصوصا الدول الاسكندنافية ،لكن التحليلات والأفكار الرئيسية التي ينطلق منه بيكتي هي محل النظر وبالأخص رفضه لاعتبار العمل كراس مال! بحجة أن الراس مالي لايملك العمل كما يملك الآلة مثلا ،لكن اذا كان من الصحيح تماما أن الراسمالي لايملك العامل كإنسان وعلى نحو ما كان في العصر العبودي ،الا أن الراسمالي يملك قوة العمل ويملك استخدام هذه القوة وتعويضها عن جزء من استخدامها ،لهذا العمل هو مصدر فائض القيمة .