ماركوس أوريليوس، مُعالجاً للمجتمعات العربية


عبدالله محمد ابو شحاتة
2021 / 4 / 12 - 23:13     

يقول أحمد شوقي في قصيدته "نهج البردة"
مُسَـيْطِرُ الفـرْسِ يبغـى فـي رعيّتـهِ وقيصـرُ الـروم مـن كِـبْرٍ أَصمُّ عَمِ
يُعذِّبــان عبــادَ اللــهِ فـي شُـبهٍ ويذبَحــان كمــا ضحَّــيتَ بـالغَنَمِ

فيحدثنا شوقي عن بطش وتجبر أباطرة الرومان الذين يذبحون البشر كما تُذبح الغنم. والحقيقة أن هذا الوصف كما ينطبق على كثير من أباطرة الرومان فإنه ينطبق أيضاً على معظم فترات الخلافة الإسلامية التي رثاها شوقي قائلاً.
عادت أغاني العرس رجعَ نواحِ ونعيتِ بين معالم الأفراح
كفنتِ في ليلِ الزفاف بثوبه ودفنت عند تبلج الإصباح

وكأن أن شوقي سمع بجرائم أباطرة الرومان ولكنه لم يسمع بجرائم خلفاء بني أمية ولا بأبو العباس الذي أقام الولائم على جثث ضحاياه أو حتى خلفاء العثمانية المتمرسين في قتل إخوانهم وأبنائهم والبطش بالشعوب الواقعة تحت حكمهم. كما يبدو أنه لم يسمع أيضاً بماركوس أوريليوس الفيلسوف الرواقي والامبراطور الروماني وهو موضوع تلك المقالة.

ولكن في البداية علينا أن ننوه أن ماركوس لم يكن هو التصور الوحيد للأباطرة الرومان، بل إننا نملك الضد المخالف كقيصر ونيرون. فليس ما قررناه سالفاً يعني أفضلية الامبراطورية الرومانية على الخلافة الإسلامية أو العكس، ولكننا فقط نتعجب من أن الحس النقدي لجماعات الاسلاموية السياسية وأتباعهم يتحرك حصراً ضد تاريخ الحضارات الأخرى، بينما يتعامون تماماً عن مساوئ تاريخهم الخاص، فهم عاجزون تمام العجز عن النقد الذاتي. ولكن يمكننا على كل حال أن نلتمس العذر لشوقي مُعتبرين أنه عالم بالوزن والقافية ولكنه جاهل بالتاريخ.

ولقد رأيت تلك المقدمة ضرورية لتقديم أحد أعظم حكام الامبراطورية الرومانية بلا منازع وهو الفيلسوف الرواقي ماركوس أوريليوس للعقل الاسلامي الاصولي الذي يجد متعة في تشويه كافة الحضارات لصالح تصوره الخيالي اليوتوبي عن حضارته الخاصة والذي يقبع في عقله فقط دون أن يمت للواقع بأي صلة.
وفي بداية حديثنا عن ماركوس ينبغي أن نقول أن عظمة شخصيته لا تتمثل في الغزو والفتح وإخضاع الشعوب، فذاك هو التصور الأقرب للعظمة لدى العقل الاسلامي الذي يرى في بسط النفوذ العسكري من الهند للأندلس أكبر منجزاته. أما هنا بخصوص ماركوس فإني أتحدث عن عظمة من نوع مختلف، عظمة فكرية وثقافية، عظمة التمسك بمبادئ وقيم كانت سابقة لعصرها بمئات السنين. أفكاراً لا تزال تفتقدها المجتمعات العربية إلى يومنا هذا، فمن المؤسف حقاً أن تتجاوز عقلية ماركوس الذي عاش منذ ما يقارب ألفي عام عقلية كثير من العرب الذين يعيشون الآن في القرن الواحد والعشرين، حتى إنه ليصلح أن يكون معالجاً لهم.
ولنرى كيف يمكن أن يكون ماركوس معالجاً لانحطاط المجتمع العربي اليوم، فنراقب على سبيل المثال قول ماركوس في إحدى شذراته " لا تضيع ما تبقى من عمرك في الانشغال بالغير, ما لم يكن ذلك متصلاً بوجهاً ما من أوجه الخير العام"
هنا يعالج ماركوس إحدى أهم آفات المجتمعات العربية اليوم، وهي الانشغال بخصوصيات الغير حتى في تلك الأمور التي لا تمس المصلحة العامة بأي وجه من الوجوه، فيقول ماركوس مخاطباً تلك العقول " التفكير حول فلان ماذا عساه أن يفعل ولماذا، وماذا يقول أو يضمر أو يخطط وكل هذا الخلط في التفكير يضل بك عن التأمل الدقيق في عقلك الموجه نفسه. عليك أن تتجنب في مسار أفكارك كل ما ليس له هدف أو فائدة، وبخاصة كل ما هو فضولي خبيث "
هكذا يتحدث ماركوس بما لا يفهمه العقل العربي حتى يومنا هذا، أن يعيش الإنسان وفقاً لرؤيته الخاصة دون أن يحاول فرضها على الآخرين، أن يدرك أن للآخرين مساحات خاصة من الحرية لا يجب أن يقحم نفسه بداخلها تحت أي مسمى، وأن يهتم فقط لشؤونه الخاصة.
ثم نجد بعد ذلك قضية أخرى يطرحها ماركوس بشكل كثيف في تأملاته وهي قضية الانتماء الإنساني، تلك الفكرة التي لا يزال يعجز العقل الأصولي عن فهمها إلى يومنا هذا، فلايزال يعاني من تعصب ديني وقومي و محدودية في الأفق. فمن المثير للإعجاب والدهشة أن تجد ماركوس الامبراطور الروماني لا ترد ذكر مواطنته الرومانية في تأملاته إلا بشكل محدود للغاية، بينما يتحدث دائماً عن انتماءه البشري فيقول على سبيل المثال " البشر أخوة، و أنهم يخطؤون عن جهل وليس عن العمد، وإن الموت يطويك ويُطويهم"
ويقول في فقرة أخرى " بهجة الإنسان أن يؤدي العمل اللائق بالإنسان، والعمل اللائق بالإنسان، هو الاحسان لجنسه الإنساني"
فمن المثير للدهشة أن تجد امبراطوراً ورمانياً عاش قبل ما تسعة عشر قرناً يوجه نداءاته للإنسانية جمعاء، بينما ترى تلك المجتمعات العربية الآن غارقة في التعصب والطائفية، عاجزة كل العجز عن التعايش السلمي وتقبل الآخر المختلف.
ولقد عالج ماركوس أيضاً في تأملاته مسألة الدغمائية و التي نراها راسخة في بِنّية العقل العربي إلى الآن. فيقول ماركوس في إحدى شذراته " تذكر أن تغييرك لرأيك أو قبولك لتصويب يأتي من غيرك هو شيء يتسق مع حريتك قدر اتساق عنادك وإصرارك على خطئك، فالفعل فعلك، تحثه رغبتك أنت وحكمك وفهمك في حقيقة الأمر"
هنا يبين ماركوس أن تغييرك لرأيك لا يمكن أن يقلل من تقديرك لذاتك أو يحد من نطاق إرادتك، فالاحتفاظ بالرأي خيارك كما أن تغييره أيضاً خيارك. ولا يمكن أن يعتبر تغيير الرأي أو الاعتراف برجاحة رأي الغير انتقاصاً منك كما يتصور العقل الدغمائي الذي يخلط بين الرأي وبين تقدير الذات، فيعتبر أن كل تنازل عن رأيه هو تبديداً لتفرده وذاتيته، بالرغم من أن الأمر في الواقع على العكس من ذلك؛ فالاحتفاظ بالآراء مهما بدى خطؤها يدل على انقياد وغياب للفردانية، فالذات المُتفردة قادرة دوماً على التخلي كما هي قادرة أيضاً على الاحتفاظ.
ويقودنا أيضاً عمق ماركوس الفكري إلى قضية أخرى على درجة كبيرة من الأهمية، وهي قضية التغير، فيقول ماركوس في تأملاته " هل يخشى أحد من التغير ؟ حسناً، فأي شيء يمكن أن يحدث دون تغير ؟ أو أي شيء أعز على طبيعة الكل وأقرب إليها من التغير، هل بوسعك أنت أن تغتسل دون أن ينل التغير خشب الموقد ؟ هل بوسعك أن تأكل دون أن ينل التغير ما تأكله ؟ هل من الممكن أن يتحقق شيء نافع في الحياة بدون تغير ؟"
نلحظ هنا كيف يعالج هذا الاقتباس الحساسية المفرطة من التغير التي تعاني منها المجتمعات العربية والتي ترى في كل جديد مفسدة وكل مستحدث مؤامرة، هنا يبين لنا ماركوس كيف أن التغير طبيعة كونية، ويتعجب ممن يتحسسون من التغير متسائلاً ، هل يمكن أن يتحقق شيء نافع بدون تغير مهما كبُر هذا الشيء أو ضؤل !؟ فيتعجب ماركوس ممن يرون الخير دائماً في الثبات على قوانين الماضي، وفي تقديس ما سلف وأنتهى، ولقد أشار ماركوس مراراً في التأملات إلى أن أمر تقديس الماضي هو أمر غير عقلاني، كما أن طلب الشهرة في المستقبل هو أيضاً غير عقلاني، فيقول ماركوس " لا يدرك المتلهف على المجد وبقاء الذكر أن كل واحد من مخلدي ذكره سوف يموت هو أيضاً عاجلاً جداً، وكذلك سيكون حال الأخلاف جميعاً، إلى أن تنطفئ ذكراه تماماً في انتقالها عبر أناس يُعجبون ببلاهة ثم يموتون، وحتى لو افترضنا خلود من يذكرونك وخلود ذكراك، فماذا يفيد ذلك ؟ ولا أعني مجرد جدواه للميت بل للأحياء أيضاً"
هنا يتعجب ماركوس من سعي الإنسان لكي تقدسه أجيال المستقبل، كما يتعجب أيضاً من أجيال المستقبل التي تقدس الماضي و شخوصه ويتساءل أي فائدة يمكن أن تجنى من ذلك سواء لمن يُقدِس أو لمن يتقدس ! ولا يعني هنا بأن لا يستفيد الإنسان من الماضي، بل إن ماركوس نفسه كان كثير الاقتباس من أحداث الماضي وفلاسفته. ولكن الفارق هنا يكمن بين الاستفادة من الماضي والتفكير فيه بأسلوب نقدي لتفادي أخطاءه، وبين تقديسه ومحاولة نسخه كما هو باعتباره النموذج الذي يجب أن نسير عليه في كل زمان ومكان.
ولهذا لم يسعى ماركوس لتخليد ذكراه ولا لأن تقدسه أجيال المستقبل، ولقد قال في إحدى شذراته تأييداً لهذا المعنى " أنظر إلى عقولهم أولئك الذين يبتغون الشهرة، إلى طبيعة تفكيرهم وأي صنف من الأشياء يريدون وأي صنف يتجنبون، وأنظر كيف تُغشي الأحداث اللاحقة على السابقة كما تتراكم أكوام الرمال فينهال لاحقها على سابقها فيواريه"
ولقد أصاب ماركوس إلى حد كبير في هذا التشبيه، فحتى جوته وشكسبير وبيتهوفن وأينشتاين حتماً سيخبو ذكرهم يوماً ما مهما طال، فطول الزمان الذي ينحت الصخور ويفتتها لن يستعصي عليه تفتيت الصيت مهما بلغ مداه.

توفي ماركوس في العام ١٨٠ ميلادية عن عمراً ناهز ٥٨ عاماً، وقد كان من أكثر فلاسفة الرواقية تطبيقاً لمبادئ الرواقية في الحياة العملية، دون أن يتأثر كثيراً بوضعه الساسي كإمبراطور روماني.



*هوامش*

[ماركوس أوريليوس، التأمُلات، ترجمة عادل مصطفى. صفحات ٧٥، ١٤٠ ، ١٥٤، ١٥٥، ١٢٦]