الموقف من الورقة البيضاء (5/4) نقاط ضعف الورقة


فلاح علوان
2021 / 4 / 10 - 21:02     

لقد تعرضنا بالنقد والملاحظة للعديد من المواد، أثناء قراءة فقرات الورقة والتعليق على ما جاء فيها. وقد إتضح من خلال العرض، أن الورقة تعاني من العديد من نقاط الضعف الجلية، سواء في التعبير عن المحتوى، أم في الصياغة. وكان لا مفر من حصول هذا، فالورقة تقوم على تناقض اصلاً، فهي تدعي طرح حل للأزمة المالية والإقتصادية في العراق، في الوقت الذي تكرر ما جاء في برامج الإصلاح الهيكلي التي يقررها صندوق النقد، وهي صيغ جرى تنفيذها في العديد من البلدان خلال عشرات السنين. ومن جانب آخر، فإن واضعي الورقة لا يعترفون بأن مواد الورقة، هي ترجمة حرفية لبرامج التعديل الهيكلي، والتي تأتي كتنفيذ لبرامج صندوق النقد الدولي.
يتحدث مدخل الورقة ومبررها الأساسي حول تأمين الإيرادات، أما الأهداف والسياسات المطروحة، فهي تغيير هيكل تركيب رأس المال الثابت كلياَ. وقد إنعكس هذا في العديد من التناقضات والتبريرات التي حفلت بها الورقة. وكان يتعين على أصحاب المشروع، الوضوح في تناول الموضوع، وهو تغيير هيكل الإقتصاد بالكامل، وكشف أهداف المشروع المخطط مسبقاً.
يلاحظ الحشو والتكرار، وعدم التركيز والتناقض بين الطروحات في أكثر من موضع. فمثلاً يعزو أصحاب الورقة الأزمات المالية والإقتصادية التي يواجهها العراق، الى تراجع أسعار النفط والى جائحة كورونا. ثم يجري إعتبار الخلل الهيكلي في الإقتصاد العراقي هو العامل الأساس،حيث تقول الورقة " إن الخلل في الهيكل الإقتصادي هو حاصل تراكم السياسات العامة والاقتصادية منذ سبيعينيات القرن الماضي" ويعتبرون توسع القطاع العام وسيطرة الدولة على الإقتصاد هي السبب. ثم يجري الحديث عن الدور الريعي للدولة في تقديم الخدمات العامة للمجتمع، باعتبارها هي أسباب التشوه الهيكلي. ثم يعزى تفاقم الأزمة الى الضغوط السكانية. إن هذه الذرائع والإدعاءات الواردة تعكس عدم بلورة رؤيا اقتصادية واضحة وتناقضا بيناً.
أن واضعي الورقة لا يناقشون أزمة الرأسمالية العامة المتواصلة، والتي نجمت عنها أزمة المديونية العالمية عام 1982 والتي قادت الى تقديم برامج التكييف والتعديل. ويتصف شرحهم للأزمة بالإنتقائية، وتقديم أسباب هي في أغلبها نتائج للأزمة.
ومن جانب آخر، يجزم واضعو الورقة بأن التوجه الى إقتصاد السوق هو الحل للأزمة. في حين إن البلدان التي تمر بالأزمات تسارع الى تدخل الدولة والى التخطيط. ويعتبر واضعو الورقة وجود القطاع العام والشركات العامة عبئاً على الإقتصاد، وإن القطاع العام فاشل ولا يلبي متطلبات النمو. وهنا نحن أمام سبب آخر تماماً للازمة الاقتصادية لا صلة له بتراجع أسعار النفط. إذ أننا أزاء طرح فلسفة إقتصادية اخرى في مواجهة الإقتصاد المخطط، الذي سار عليه الإقتصاد في العراق طيلة عقود.
يتكرر إستخدام تعبير فشل القطاع العام كمسلمة في نص الورقة، ويعتبر أصحاب الورقة ما جرى وكأنه بسبب نوع ملكية المشروع. في حين لا يتصدون للمسار التاريخي الذي تسبب في هذا الواقع. حيث إن استهداف القطاع العام والإقتصاد المخطط، هي عملية سياسية عالمية جرت خلال أربعة عقود وبقيادة الرأسمالية الأمريكية والبريطانية، فيما عرف بالريـﮜانية والثاﮀرية، والعمل على هيكلة وتصفية القطاع العام عالمياً. وقد وصل الأمر حد الإطاحة بالحكومات التي تعارض هذا التوجه الإقتصادي، أو شن الحروب وتدمير دول وبنى اجتماعية كاملة، كما حصل في بعض دول أوربا الشرقية وآسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا.
لا يوضح أصحاب الورقة، الكيفية التي سيجري وفقها تغيير الإقتصاد صوب سيادة القطاع الخاص، وتصفية القطاع العام. هل المقصود قيام قطاع صناعي خاص يغطي السوق المحلية، ويحقق الفوائض والعوائد المالية عن طريق تحقيق القيمة المضافة، وإحلال الواردات وتنظيم إقتصاد مغلق؟ ومن جانب آخر، فإن الورقة لم تتطرق الى كون آلية السوق غير فعالة في الدول المتأخرة، والتي يطلق عليها الدول النامية، أو العالم الثالث، لأن السوق العالمية مسيطر عليها، من قبل الإحتكارات العالمية التي تتحكم بالإنتاج والتسويق عبر طريق سلاسل التوريد.
إن ما يذهب اليه واضعو الورقة، يتطلب وجود قطاع صناعي قادر على منافسة الإنتاج العالمي المتقدم، والمسيطر على السوق العالمية. بعد أن يجزم أصحاب الورقة على إن الحل هو بالتوجه الى القطاع الخاص، يطرحون تأسيس صندوق "دعم القطاع الخاص". وهذا يعني إن القطاع الخاص متأخر أصلاً، وغير قادر على إنشاء صناعات وهو بحاجة الى دعم.
كما إن تأسيس صندق دعم القطاع الخاص والذي تصر عليه الورقة، وفرض نظام حماية ، كذلك تخفيض سعر صرف الدينار، تتناقض تماماَ مع وعود قيام القطاع الخاص بتأمين الأرباح وتوفير فرص العمل. حيث إن نظام الحماية؛ يعني إن القطاع الخاص غير قادر على منافسة الإستيراد، وبالتالي غير قادر على التصدير، كما إن تخفيض مستويات الأجور، وتخفيض سعر صرف الدينار سيقود الى إنخفاض الطلب. إن هذه السياسات ستقود الى الإنكماش ونقص الطلب، ومن ثم إفلاسات بالجملة للقطاع الخاص. ومعنى هذا أن يصاب القطاع الخاص بالشلل، ويقوم بتسريح العمال، وهذا ما يقود الى الركود والكساد والأزمة الدائمة. لم تجر مناقشة هذه المسألة، ومضى أصحاب النص في الوعود بقدرات القطاع الخاص وإقتصاد السوق، وكل الفرضيات والإستنتاجات، كانت مستمدة من قدرة متخيلة للقطاع الخاص، على تحقيق الإيرادات وتغطية العجز المالي.
على سبيل المثال؛ إن القطاع الخاص الذي سيطر تماماً على قطاع الإتصالات، لم يسيطر بقواه الذاتية وبآلياته الخاصة وأفضلية تنافسية في مجال تخصصه، بل سيطر عن طريق تعطيل كامل متعمد لخدمة الإتصالات العامة، وتمكينه بالتالي من إحتكار مطلق، وفرض أسعار إحتكارية مرتفعة جداً على خدمة الإتصالات. وهذا ما تسبب في إستنزاف عشرات المليارات، التي كانت ستكفي لتطوير خدمات الإتصال الهاتفي والأنترنيت، وتوفير وظائف عديدة وإقامة بنى تحتية جبارة. هذا النوع من الإستثمار في الحقيقة تسبب في خراب قطاع قائم وعريق ولديه خبراته ونظمه، وكان يمكن تطويره وتحقيق عوائد مالية، عن طريق نظام جباية دقيق ومنظم وهو قائم أصلاً. ومن جانب آخر من الصعب على الفساد أن يتحكم به، بالصورة التي نلاحظ في قطاعات اخرى، كون مخرجاته ومدخلاته ونظام التسديد، قابلة للاحتساب بالنظم الرقمية التي تميزه منذ عقود.
ومن الأمثلة الآخرى على تسبب التوجه الى القطاع الخاص في فقدان وخسارة الإيرادات وليس تأمينها. هو مثال عقود التراخيص في قطاع النفط ذي الإيرادات الكبيرة، حيث تراكمت، حسب ما جاء في الورقة، ديون الشركات النفطية.
لم يوضح واضعو الورقة ميادين الإنتاج التي يمتلك العراق فيها أفضلية تنافسية، والإمكانيات العملية لتطوير صناعة على أساس هذه المزايا. فعلى سبيل المثال كان يتعين على أصحاب الورقة أن يؤكدوا من خلال تقاريرهم وإحصائياتهم هم، وليس إستخدام تقارير متناوله من على صفحات الـIMF، على حجم الإستيراد السلعي الوارد الى العراق، وقدرة القطاع الخاص على تغطيته، وإمكان تخمين الوفورات الممكنة.
بل العكس فقد قدمت الورقة نموذج للقطاع الخاص، يقوم على الدعم الحكومي الذي سيبدد المزيد من الثروة، لخدمة مشاريع لم تثبت بعد قدرتها التنافسية. إن الورقة لا تشير الى عوائد أو فائض يتحقق عبر تطوير الصناعة المحلية وتوسيعها، وهذا ما تفتقر اليه الورقة بصورة واضحة.
لايتحدث أصحاب الورقة عن الآثار الإجتماعية الكارثية التي ستقود اليها هذه السياسات، وقد وردت عبارة "تدابير قاسية" دون التعرض للشرح والتفصيل. تفاقم البطالة، الحرمان من التعليم وخاصة للاناث، زيادة بطالة المرأة، بسبب تشغيل العمال المهاجرين ذوي الأجر المنخفض وكلهم من الرجال، تشديد العمل المنزلي. كل هذه الآثار الإجتماعية التي ستقع لا محالة، لم يجرِ نقاشها، مما يعكس عدم إحساس بالمسؤولية وإندفاع وراء مشاريع المؤسسات المالية الرأسمالية.
لا يعترف أصحاب الورقة بكون البطالة في العراق هيكلية، ولا تحل بإجراءات إنتقائية. ويكررون الوعود بأن الحل هو بيد القطاع الخاص. ويتجاهلون القطاع غير النظامي، والعمالة الهشة، ويتحدثون عن حلها بالإجراءات الروتينية. وهم لا يوضحون كيف سيستطيع قطاع خاص بحاجة الى ودعم حكومي مالي أن يجيب على مسألة بطالة مليونية؟
يجري طرح مشروع عمومي للإقتصاد الكلي، دون الإعتراف بضرورة وأهمية التخطيط المركزي. وتكاد المحاور الخمسة المقدمة أن تكون خليطاً من إجراءات إدارية إنتقائية وإجراءات أمنية ووعود.
لم تعكس الورقة أي ستراتيجية لحل المعضلات القائمة المعقدة مثل مشكلة الكهرباء، التعليم، الصحة، السكن. ويكتفون بوصفات وشروحات لبرامج التعديل الهيكلي.
مثال: يجري الحديث في الورقة عن ضرورة بناء 1000 مدرسة في حين الحاجة المقررة هي 12000 مدرسة يعني إن الورقة لا تقيّم حاجات المجتمع الفعلية أصلاً، وتترك إنجاز القسم الأعظم من مباني لمدارس الى القطاع الخاص.
وفي باب تحقيق إيرادات مالية عن طريق بيع الأصول الحكومية، يعتبر واضعو الورقة إن بيع الأصول سيوفر إيرادات، في حين إن الأصول تباع بالقيمة الدفترية، وبعضها ستباع كخردة بعد طرح قيمة الإندثار السنوي. وبالتالي لن تحقق أي عائد بل ستساهم في ضياع ثروة عامة. إن تحقيق الإيرادات المالية يمكن أن يتم بالتقشف، بزيادة الضرائب، بالتضخم، بزيادة الرسوم، بزيادة أسعار المحروقات أو الوقود، بتقليص الإنفاق الحكومي. وليس بالضرورة عبر تغيير هيكل الإقتصاد.
أن الملفت بوضوح هو تأكيد الورقة على بيع وخصخصة الشركات المنتجة، سواء الرابحة أو التي سيجري تأهيلها بالمال العام لغرض خصخصتها، وهو ما يتعارض تماماً مع الإدعاء بتوفير الموارد، حيث سيشكل الإجراء الأخير الذي تم التأكيد عليه في أكثر من موضع، تعارضاً جوهرياً مع تحقيق الإيرادات، بل هو بالضبط إستنزاف للموارد العامة بغية تحويلها الى القطاع الخاص.
لا يعتبر واضعو الورقة وجود البنى الأساسية والرأسمال الثابت، مصادر رأسمالية أو ثروة، ويرون في الإيرادات النقدية شكلاً للثروة، لمواجهة الأزمة المالية في العراق، التي تتراجع أسبابها يوماً بعد آخر.
إن وجود ممتلكات عامة كبيرة يشكل ثروة للمجتمع وللدولة، ولا يعني تحويلها الى نقد وبأقل من عُشر وربما 1% من أقيامها الفعلية هو تحقيق لإيراد، بل العكس فهذا سيشكل خسارة إيرادات.
ومن التجارب العالمية الكبرى على زيادة العوائد المالية، عن طريق وسائل الإنتاج السلعي، وليس السياسة المالية والنقدية، هو نموذج الصين. حيث إن القدرات الإقتصادية الصينية، تعتمد على قوة وسعة الشركات المنتجة وشركات الإنشاءات والنقل، وهذا ما يؤمن الثروات والعوائد الهائلة التي تتمتع بها الصين، وقدرتها التنافسية الجبارة في السوق العالمية، وليس بنظامها النقدي وسياستها المالية.
إجمالاً، لاتقدم الورقة البيضاء حلولاَ للأزمة المالية والإقتصادية، بل العكس، يجري من خلالها رهن مستقبل البلاد والمجتمع للوعود، ولمخططات المؤسسات المالية العالمية. إن هذا يتطلب تقييماَ جدياَ لمشروع الورقة، ولمجمل السياسات الإقتصادية للحكومة، وتنظيم حركة بوجهها على صعيد المجتمع. وهذا الموقف المعلن من الورقة البيضاء هو مساهمة بهذا الإتجاه.