عن العقل والعقلانية


فهد المضحكي
2021 / 4 / 10 - 10:48     

لا يزال مستقرًا في وعيي إن الحداثة والتحديث والعقلانية والحرية هي طريق مستقبل حياتنا، ولا فارق بين الحداثة والتحديث إلا في أن الكلمة الأولى تشير إلى الجانب الفكري والمعنوي، بينما التحديث يشير إلى الجانب المادي من الفعل الشامل لتغيير المجتمع وتطويره، أما العقلانية فهي الوعي الذي يحرك الحداثة والتحديث في كل مستوياتهما وعلاقاتهما على السواء، ولا يكتمل له ذلك إلا في مناخ من الحرية التي تفتح أمام العقل كل أبواب الاجتهاد دون خوف من الخطأ أو القمع المعرفي أو السياسي أو الديني.

هذا ما قاله المفكر جابر عصفور في دفاعه عن العقلانية والفكر العقلاني، تأثر عصفور بما جاء في الفكر العقلاني للمعتزلة قبل أن يتأثر بعقلانية ابن رشد أو الفكر الراشدي الذي سطع نوره في القرن السادس للهجرة والذي جاء بعد تحول الفكر الكلامي إلى فلسفة خاصة.

حسب ما ينقل لنا موقع «تنوير» فإن عصفور لم يتخيل فارقًا كبيرًا بين عقلانية الاعتزال.

وعقلانية ابن رشد في حين أنه يؤمن إن أي نظرة فاحصة إلى تراثنا تؤكد أن ازدهار العلم العربي كان مرتبطًا دائمًا بازدهار العقلانية الفلسفية، ولذلك كان ازدهار الفكر العقلاني هو الوجه الآخر لازدهار العلم في التاريخ الإسلامي، وعندما انتقلت ثمرات الحضارة العربية الإسلامية الى أوروبا وأخذت أوروبا في ترجمة العقلانية العربية، سبيلاً لها إلى النهضة والاستنارة، وأخذنا نحن في الانحدار المتزايد والتبعية لأوروبا الصاعدة، فإننا عدنا اليها نتعلم ما سبق أن أعطيناها لها، وما أضافت هي إليه في التتابع الصاعد لحركة التاريخ.

في الوقت ذاته إن الدرس الذي يقدمه تراثنا العربي الإسلامي هو الدرس نفسه الذي يعيننا في سعينا نحو التقدم والازدهار في عصر مختلف في مستقبله وأحلامه عن آفاق مفتوحة إلى ما لا نهاية من الحرية والعدل الذي ورثنا قبسًا من نورهما في عصورنا السابقة، فقد تعلمنا إن العلم كالعقل، وإن العقل يحرك العلم ويدفعه إلى التقدم، فالعلم يبدأ بفكرة والفكرة تبدأ من التفكير والاجتهاد.

إلى جانب ذلك، فإن أي هزيمة وانحدار في مسيرتنا التاريخية مرتبطة بانكسار العقلانية وهزيمتها في مواجهة خصومها: الاستبداد والظلم والقمع.

إن العقلانية كما يراها عصفور مهددة في عصرنا على كل مستوى وفي كل مجال، وإن الفكر المصري قد انحرف عن تطوره الطبيعي في مجرى العقلانية مع السبعينيات، وإن هذا الفكر انتقلت إليه جرائم التعصب والاستبداد والإرهاب منذ التحالف مع الأخوان المسلمين من ناحية ومع الرجعية العربية والغربية من ناحية ثانية، وقد ازداد الأمر كارثية قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، وما أعقبها من نزعات إسلامية متطرفة ومعادية للعقل في غيرها من الأقطار.

فالعقلانية بالنسبة له تعني الاحتكام إلى العقل، والاحتكام إلى العقل يعني المساواة بين العقول وقبول اختلافها بوصفه أمرًا طبيعيًا وسنَّة من سنن الكون.

وعلى هذا الأساس لم يكن من قبيل المصادفة إن ذهب ديكارت الفيلسوف الفرنسي، الى أن العقل هو أعدل تورعًا بين الناس، ولا فارق بين واحد منهم عن غيره إلا في مدى استخدام هذا العقل الحر في مجالاته المختلفة والغاية التي يمكن أن يصل إليها بهذا الاستخدام.

في المقابل يؤكد على أن العقل بقدر ما هو دليل على حرية إرادتنا، وعلى قدرتنا على الاختيار الخلّاق في فعل الوجود الفردي والإنساني، فإنه دليل على حتمية حضور العدل في هذا الوجود، وأن لا معنى للحرية من دون العدل، وما كانت هناك حرية إنسانية إلا ووراءها عقل حر، وبالقدر نفسه ما كانت هناك عدالة إنسانية إلا ووراءها عقول حرة تعترف بالاختلاف الواقع بينها، وعندما تقترن العقلانية بالحرية والعدل فإنها لابد أن تقترن بالمساواة ومن ثم بكل القيم التي ينطوي عليها الإنسان من حيث هو مشروع للمستقبل وفاعل للمساواة والحرية والعدل الذي لابد أن يعيش بهم وفيهم، وحسب قواعدهم، ولذلك فلا سلطة على الإنسان إلا من نفسه وبالتوافق مع غيره من أبناء جنسه الذين يتعاقدون على بناء مجتمع إنساني تحكمه قيم العدل والحرية والمساواة وحق الاختلاف على السواء.

وهذه النتيجة يترتب عليها في عصرنا الحديث معنى جديد للدولة التي يجتمع بها البشر، وعلى أساس من عقد اجتماعي يتواضعون عليه، ليبنوا مجتمعًا يقوم على ما يحققه من المنفعة والمصلحة المشتركة للجميع دون تمييز على أساس دين أو عرق أو لون أو ثروة.

وهذا في رأيه هو معنى الدولة الوطنية في عصرنا الحديث، الدولة التي تحقق مصالح الأفراد بعيدًا عن التحيزات الدينية أو العرقية أو السياسية، وهي دولة تعقلن حياتها بقوانين السياسية أو الاجتماع أو الاقتصاد لا تفارق المبادئ التي قامت عليها وإلا فقدت هويتها، وكونها وطنية لا يناقض حضور القيم الدينية أو الروحية.

ولذلك فإن العقلانية كما يوجزها صفة من صفات الدولة المدنية الحديثة التي تحكم الناس بالعدل تستِّوى - من حديث هم مواطنون - بالحق بعيدًا عن أية تحيزات، وهناك دولة عقلانية مقابل دولة غير عقلانية الأولى عقلها هو دستورها الذي تتفرغ منه القوانين والقيم، ولأن الدول العقلانية بوصفها اتجاهًا حضاريًا فإنها لا تزال محاربة في العالم العربي الإسلامي، نتيجة ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية لا تؤدي إلى التخلف والهزيمة، هذا ما جاء في كتابه «دفاعًا عن العقلانية»، الذي يعتبره الباحث الأكاديمي قيس العزاوي موسوعة فكرية تناول فيه التراث العقلاني من: منزلة العقل لدى المعتزلة وابن رشد إلى إيمان رفاعة الطهطاوي بالعقل والعدل وتمثلهما في التجربة الباريسية إلى العقلانية المحدثة في مناظرة الإمام محمد عبده وفرح أنطون ومحورية الفكر الاعتزالي في تجربتهما الخاصة بالدين والعلم والمدنية.

عشرات الموضوعات الفكرية عالجتها فصول الكتاب بعمق وسلاسة في تفاصليها، فإحدى هذه الموضوعات ينقلنا عصفور من الشيخ أمين الخولي ونظريته في تجديد الفكر الإسلامي الذي يراه تجديدًا تطوريًا في العقائد من خلال مفهوم التاريخ إلى الفكر التجديدي لمحمود زقزوق إلى إيمان طه حسين بحرية العقل لأن «العقل الحر هو العقل الذي يتلقى العلم ويستسيغه مهما كان مصدره»، ويسجل عصفور حقيقة أن طه حسين كان متفائلاً عندما تكلم عن تحرير العقل عام 1953 ولكن حلمه الليبرالي هذا ضاع.

وينصف عصفور - إلى حد كبير - نصر حامد أبو زيد الذي خصص له القسم الثالث بفصول الثلاثة.

تلك هي مكانة العقل عند جابر عصفور التي تكتمل عندما يدافع عن مكانة المرأة وحريتها في المجتمع على غرار ما فعله الفيلسوف «دينيس ديدرو» حين جعل تحرير المرأة شرطًا أساسيًا للوطنية.