متى سنكون ما نريد


جاسم ألصفار
2021 / 4 / 9 - 02:06     


في حوار بث على الهواء مباشرة، ذكر السياسي الروسي المخضرم فلاديمير جيرينوفسكي أن الحضارات التي سادت في التاريخ، أفلت لأسباب عديدة دون أن يتسنى لها النهوض مرة أخرى، وأضاف مازحا ان ما تركته الحضارة الرومانية للعصور المتقدمة ليس أكثر من "معكرونة" أما ما بقى من الحضارة ألألمانية فهو " سيارة المرسيدس" وهكذا استرسل في ضرب أمثلة عن هزالة ما تبقى من حضارات أوربية أفلت بعد أن كان اشعاعها يملأ الدنيا. وبغض النظر عن أهمية ما صرح به جيرينوفسكي في القناة الروسية الاولى، الا أن دراسة عناصر ديمومة الحضارات وقدرتها على الصمود بوجه عوامل انهيارها وتبدد آثارها، لن تفقد أهميتها بالتأكيد على مر العصور.
لا ريب في أن الانسان، منذ بزوغ فجر الحضارات، كان العنصر ألأبرز في نظام ديمومة الحضارات ونهوضها وكبوتها ثم انبعاثها. والحديث هنا عن الحضارات العالمية الاصيلة التي تركت أثرها في التركيبة النفسية للإنسان وقيمه الأخلاقية. فالحضارات الاصيلة هي وحدها القادرة على صياغة ورصف نوتات الموسيقى الداخلية للإنسان والارتفاع به فوق الحيوان على مر العصور (على هذا النحو كتب بوريس باسترناك في الدكتور زيفاكو).
في الإتحاد السوفيتي السابق، رغم المناخ الأيديولوجي والحزبي السائد آنذاك، كانت هنالك قيم أخلاقية سامية تجلت في الاعمال ألأدبية والسينما والمسرح. من تلك الاعمال فلما سينمائيا تم عرضه في سبعينات القرن الماضي في صالات العرض في موسكو ومسرح أحداثه روسيا السوفيتية فترة الحرب الاهلية بعد استيلاء البلاشفة على السلطة، والتي كان محوراها الرئيسيان هما الجيش الاحمر البلشفي المدافع عن ثورة اكتوبر والجيش الابيض المدافع عن النظام القيصري. وتجدر الإشارة الى أن ضباط الجيش الأبيض، في جلهم، تميزوا بتقاليدهم العسكرية القيصرية الارستقراطية مع مستوى لا بأس به من الثقافة.
يروي الفلم احداث معركة بين كتيبتين من الجيشين في منطقة ريفية نائية، يقع فيها أحد ضباط الجيش الابيض اسيرا بيد الكتيبة الحمراء. بعدها تنتقل احداث الفلم الى الخطوط الخلفية للجبهة حيث يبدأ التحقيق مع الضابط الاسير. والذي تنشأ اثنائه علاقة ود وثقة متبادلة بين الضابط المحقق والاسير الذي كان يرد بهدوء وادب على اسئلته. والتحقيق في الجبهة، حينها، كان اجراء روتيني يدون فيه المحقق افادة الأسير قبل ارساله الى أقرب مدينة يسيطر عليها البلاشفة ليعاد التحقيق معه والحكم عليه، وهو غالبا حكما قاسيا.
بعد انتهاء التحقيق الاولي وتنظيم اوراق الارسال، قرر الضابط البلشفي، وهو من اسرة تحسب على الانتليجينسيا الروسية، التريث في قرار ارسال الضابط الابيض الى المحكمة. فيستدعيه مجددا للإجابة على سؤال واحد، هذه المرة، وهو ان لو أطلق سراحه، هل سيعود لقتال البلاشفة من جديد. تأمل الاسير في وجه المحقق، غير مصدق إمكانية حصول ذلك، واجابه بعد تردد لم يطل كثيرا، انه مستعد للقسم بعدم عودته لقتال البلاشفة من جديد وانه سيعتزل العمل في الجيش القيصري ليعود الى اسرته التي تحتاج اليه في تلك الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد. وإثر سماعه لإجابة الضابط الابيض، امر المحقق بإطلاق سراح الاسير على مسؤوليته الخاصة وبضمانة شخصية منه اقنعت زملائه في الكتيبة، على مضض.
تمر بعد هذه الحادثة اسابيع اخرى من القتال الضاري بين الطرفين، تنتصر في نهايتها الكتيبة الحمراء على الكتيبة البيضاء ويفر قائدها مع بعض من ضباطه من ارض المعركة الى نهر الفولغا القريب من الجبهة، ليقلون زورقا صغيرا كان متروكا على الشاطئ منحدرين به مع المجرى. ولكن المطاردين لهم من الكتيبة الحمراء استبقوهم الى موقع ضيق من مجرى النهر يوصل بين ضفتيه جسر. فكمنوا للضباط الفارين فوق سطح الجسر. وعند اقتراب الزورق من الجسر، رفع أحد الضباط البيض ناظوره لمراقبة الموقف على الجسر، فشاهد وجه الضابط الاحمر الذي حقق معه في الاسر والذي وعده بعدم العودة للقتال ضد البلاشفة.
تنحى الضابط الابيض نحو طرف الزورق، والقى بناظوره الى الماء دون ان يخبر زملائه بالموقف، واخرج مسدسه ليطلق النار على رأسه منتحرا وعيونه شاخصة نحو نفس المكان الذي شاهد فيه ضابط التحقيق، ليسقط أثرها في النهر جثة هامدة.
هذه كانت حكاية ضابط روسي اعطى كلمة شرف لعدوه ولم يلتزم بها فانتحر لكيلا يعذبه شعوره بالدونية إذا ما وقعت عليه عينا المحقق، وربما ايضا لكيلا يتعرض الضابط البلشفي، الذي أطلق سراحه، للمساءلة بسببه. بهذه الصورة وفي أعمال أدبية عديدة كان ألكَتاب السوفييت يعبرون عن التركيبة النفسية والقيم ألأخلاقية لإنسان ساهمت النخبة العلمية والثقافية في زرعها داخله على مدى قرون منذ الإمبراطورية الروسية.
هناك حقيقة تاريخية معبرة، جرى الكتابة عنها مؤخرا في روسيا، وهي أن المقاومة الروسية لجيش الاحتلال الألماني لم تأخذ مسارا جديا الا في عام 1942، قبلها كانت الدولة السوفيتية منكسرة تماما، فمنذ بداية الحرب خسر الاتحاد السوفيتي مساحات واسعة من أراضيه وهرب من الخدمة العسكرية، خلال تلك الفترة، الاف المجندين واستسلم للجيش الألماني حوالي نصف مليون محارب سوفيتي. فبسبب التجربة القاسية لنظام حكم ستالين والبيروقراطية الحزبية المفرطة في الجيش السوفيتي، لم يظهر الروس (كانوا يشكلون 75% من الجيش السوفيتي) أي تفاني في مواجهتهم للغزاة الالمان في بداية الحرب. أما حين وصلت الحرب، بعد سلسلة من الهزائم الكبيرة، الى مرحلة تتقرر فيها مكانة شعب روسيا ومستقبل قيمه الحضارية، تغير مسار الحرب وتنوعت سبلها.
وبالمناسبة، فان ستالين كان قد أدرك أهمية ودور التراث الحضاري العلمي والثقافي لدى الشعب الروسي في بعث قيم الكبرياء والاباء الوطني، لذا خاطب الشعب الروسي، تحديدا، من على منصة الساحة الحمراء في موسكو نهاية عام 1941 مذكرا إياه بعظمة تراثه الحضاري فقال: "دع السيرة الشجاعة لأسلافنا العظماء - ألكسندر نيفسكي، وديمتري دونسكوي، وكوزما مينين، وديمتري بوزارسكي، وألكسندر سوفوروف، وميخائيل كوتوزوف - تلهمك في هذه الحرب!"
بعد تعثر الهجوم النازي على الاتحاد السوفيتي نتيجة للمقاومة الباسلة التي ابداها الجيش السوفيتي وانخرط فيها فدائيون شعبيون تمترسوا في الغابات حول القرى التي دخلها الالمان. قررت القيادة الالمانية انشاء جيش من المعارضين للنظام السوفيتي من بين المتعاونين مع المحتل الالماني في الاراضي السوفيتية اضافة للمهاجرين الذين غادروا الاتحاد السوفيتي بعد انتصار ثورة اكتوبر البلشفية في روسيا، ووقع اختيارهم على نائب القائد العام للجيش القيصري وقائد قوات الجنوب لما كان يعرف بالجيش الابيض انتون دينيكن.
كان دينيكين فترة الحرب العالمية الثانية مهاجرا الى فرنسا وعند احتلال المانيا النازية لفرنسا تم اعتقاله مع اسرته ثم أطلق سراحه ليكون تحت الاقامة الجبرية في ظل الاحتلال النازي. وقد استدعي الى قيادة الجيش الالماني والغستابو في فرنسا عارضين عليه قيادة قوات روسية معادية للنظام البلشفي في روسيا ولكن انتون دينيكين الذي قاتل البلاشفة في الحرب الاهلية دفاعا عن روسيا القيصرية اجاب دون تردد "أن الوطن ليس مجال للمقايضة وانا لن اتاجر بوطني". وهذا مثال اخر من أمثلة كثيرة تشير الى أن الانتماء للوطن وللشعب يعززه الشعور الداخلي بالانتماء الى حضارة عظيمة وقيم إنسانية عميقة الجذور
وأخيرا أعود الى جيرينوفسكي مستعيرا منه أسلوبه الساخر في تأبين الحضارات، وأفترض أنه تطرق لحضارة وادي الرافدين لينبهنا الى أن مصدر اعتزازنا وكبريائنا لم يبقى منها سوى "ألمشحوف" و"المسكوف"، أما ما خلا ذلك فلم يجد له مكانا حتى على رفوف محلات البيع والشراء التي يديرها قادة العراق من تجار السياسة والدين في اسواقهم الممتدة بين الأرض والسماء.