الجاحظ في مرآة تشارلز داروين


عبدالرزاق دحنون
2021 / 4 / 6 - 20:22     

أعتقد -من وجهة نظر شخصية- بأن كتاب "الحيوان" تحفة من تحف الزمان، حيث تجد فيه هذا البحث الواسع في طبائع الحيوان وغرائزه وأحواله وعاداته، ومن ثمّ تأثير البيئة في الحيوان والإنسان والشجر. ويعدُّ من أضخم كتب الجاحظ، وهو بمثابة دائرة معارف واسعة الأفق. وسماه "الحيوان" لأنه يتتبع ما في حياة الحيوان من الحجج على الحكمة العجيبة والقدرة النادرة التي وهبتها الطبيعة للمخلوقات. قال: وكانت العادة في كتب الحيوان أن أجعل في كل مصحف من مصاحفها عشر ورقات من مقطعات الأعراب ونوادر الأشعار، لِما ذكرت من عجبك بذلك، فأحببت أن يكون حظ هذا الكتاب في ذلك أوفر. وإذا كانت الأوائل قد سارت في صغار الكتب هذه السيرة كان هذا التدبير لما طال وكثر أصلح، وما غايتنا إلا أن تستفيدوا خيراً.

فكرة التطور التي استنبطها تشارلز داروين من مشاهداته لعلم الحيوان واحدة من أهم الأفكار العلمية في العصر الحديث. وخاصة ملاحظاته التي سجلها في رحلته المشهورة على ظهر سفينة البيجل الإنكليزية حيث أبحرت بيجل من بليموث ساوند في 27 ديسمبر 1831 تحت قيادة الكابتن روبرت فيتزتروي. في حين كان من المقرر في الأصل أن تستمر الرحلة الاستكشافية لمدة عامين، فقد استمرت ما يقرب من خمسة أعوام لم تعود البيجل حتى 2 أكتوبر 1836. أحدث مفهوم تغير الأنواع تدريجياً عبر ما يسمى بالانتقاء الطبيعي-الاصطفاء- والتكيف ثورة في فهمنا للعالم الحي. وفي كتابه "أصل الأنواع" الذي صدر عام 1859 أوضح داروين أن التطور أدى إلى ظهور أنواع مختلفة من أصل واحد.

ولكن قبل تشارلز داروين بنحو ألف عام، ألف الجاحظ، واسمه عمرو بن بحر الكناني البصري، كتابه "الحيوان" عن كيفية تغير الحيوان عبر ما سماه أيضا بالانتقاء الطبيعي. ترك الجاحظ أكثر من مئة وسبعين كتاباً. وساعده على كثرة التأليف امتداد عمره، وانصراف الحكام وأهل الدولة عن استخدامه في قصورهم ودواوينهم للدمامة وجهه، ومرضه الطويل الذي اضطره إلى ملازمة بيته وقطع فراغه بالكتابة والتأليف. ومازال في علته إلى أن وقعت عليه مجلدات العلم فقضت عليه في البصرة نهاية سنة 255 من الهجرة. يقول الأستاذ أحمد أمين: نجا الجاحظ لأنه مرن. وقد دفع عنه الشر بمرونته.

ولد الجاحظ عام 159 من الهجرة في البصرة، جنوب العراق، في الوقت الذي زاد فيه نفوذ المعتزلة، الذين كانوا ينادون بإعمال العقل وتشجيع الفكر الإنساني. وكان ذلك في أوج العصر العباسي، وشهدت حركة الترجمة لكبار الأعمال في الفكر والفلسفة والعلوم وقد تُرجمت من اليونانية إلى العربية، وكانت البصرة تشهد نقاشات وسجالات فكرية قوية عن العلوم والفلسفة، مما ساهم في تشكيل فكر الجاحظ وساعده على صياغة أفكاره. وعرفت البصرة الورق عن طريق التجار القادمين من الصين، وساعد وجود الورق على نشر الأفكار ونقلها، وبدأ الجاحظ في سن مبكرة في الكتابة عن العديد من القضايا والمواضيع. وتعددت اهتمامات الجاحظ وكان من بينها العلوم والجغرافيا والفلسفة والنحو والأدب. ويعتقد أن الجاحظ ألف نحو مائتي كتاب، لم يبق منها لعصرنا الحالي إلا نحو ثلثها.

يعد كتاب "الحيوان" كتاباً موسوعياً يقدم معلومات موسعة عن 350 حيواناً، ويقدم فيه الجاحظ أفكاراً تحمل تشابهاً كبيراً بينها وبين نظرية داروين للتطور. ويقول في كتابه: إن الحيوانات تشتبك في صراع على البقاء والموارد حتى تتكاثر وحتى لا تفترسها حيوانات أخرى. ويرى أن عوامل بيئية تساعد الكائنات على تطوير سمات جديدة لضمان البقاء، وبهذا تتحول إلى أنواع أخرى. ويرى أيضا أن الحيوانات التي تبقى وتنقل صفاتها وسماتها الناجحة إلى ذريتها.

ويتضح من الكتاب إدراك الجاحظ بأن الكائنات والعالم الطبيعي في صراع دائم للبقاء وأن هناك أنواع أقوى من أنواع أخرى. وحتى تضمن البقاء، يتوجب على الحيوانات أن يكون لديها سمات تساعدها على التنافس على العثور على الطعام وعلى ألا تكون فريسة لحيوان آخر وعلى أن تتكاثر. وهذا يؤدي إلى تغيرها من جيل إلى آخر.

تأثير الكثير من علماء المسلمين الذين جاءوا بعده بما كتبه، حيث قرأ علماء ومفكرون مثل الفارابي والبيروني وابن خلدون أعماله. كما يعرب الباكستاني محمد إقبال عن أهمية الجاحظ وتأثيره عليه في سلسلة من المحاضرات التي نشرت عام 1930، وكتب قائلاً: الجاحظ هو من أوضح التغيير الذي يحدث لحياة الحيوان بسبب الهجرة وتغيير البيئة. فهل اطلع تشارلز داروين على كتاب الحيوان أو على ترجمات جزئية منه؟ لا وثائق تؤكد ذلك أو تنفيه، ولكنّ الجاحظ يظهر واضحاً، جليّاً، في مرآة تشارلز داروين.