الموقف من الورقة البيضاء (2/5)


فلاح علوان
2021 / 4 / 6 - 16:12     

الخصخصة تحت عنوان الإصلاح
شكل التوجه نحو الخصخصة وتصفية القطاع العام في العراق، محورالسياسة الإقتصادية لدى النظام السياسي الذي تشكل بعد 2003. وقد ترددت في أدبيات الإقتصاديين الحكوميين بلا إستثناء، وكذلك الإقتصاديين الذين يدورون في فلك التوجهات العامة للرأسمالية العالمية، نفس الطروحات والمضامين المعبرة عن توجهات الحكومة، مع تنويع في التعابير وفي اسلوب الصياغة الذي لا يمس المضمون النهائي بأي شكل. وقد إقتضى تكريس هذه التوجهات، القيام بجملة سياسات تدخلية وقسرية، الغرض منها تبرير فشل القطاع العام وعدم كفاءته، ومن ثم تمرير حزمة السياسات المقررة.
وإذا تحرينا الدقة، فإن سياسات التكييف والتعديل الهيكلي في العراق تعود الى عام 1987①، فيما اطلق عليه يومها " ترشيق أجهزة الدولة". وقد تصاعد التوجه لدعم القطاع الخاص خلال سنوات التسعينيات أي فترة الحصار. وقد شهد عام 1987 بيع شركات كبيرة الى القطاع الخاص، وكانت الذريعة هي تأمين موارد مالية لتغطية نقص السيولة، الذي تسبب به التوسع في الإنفاق العسكري، خلال الحرب العراقية الإيرانية. وكانت الخصخصة يومها، تجري تحت إشراف وسيطرة نظام مركزي متشدد، يعتمد التخطيط وسيطرة الدولة على الإقتصاد.
إن كل التوجهات الإقتصادية التي تطرحها الورقة البيضاء اليوم، تقع تحت عنوان برامج التثبيت والتكييف الهيكلي، وهذه البرامج تعد وتصاغ من قبل صندوق النقد الدولي، وقد شرع الأخير باعتمادها بعد عام 1982 أو بعد ما عرف بأزمة المديونية التي وقعت نفس العام والتي ظهرت في المكسيك أولاً②.
ولكن هذا التاريخ لا يتعلق بحادث عرضي معزول، وقع في المكسيك ثم امتد الى دول أمريكا اللاتينية، إنه تاريخ صعود النيوليبرالية في أوج انطلاقها، والتي دشنها صعود ما عرف بالريكانية والثاتشرية③.
إن النيوليبرالية بحد ذاتها، ليست مجرد وصفة قدمها زعماء أكبر الدول الرأسمالية كمشروع أو خيار، إنها سياسة الأزمة العميقة الرأسمالية، التي وصلت حدوداً تهدد مجمل البناء الرأسمالي القائم. عملت النيوليبرالية على تكييف كل اقتصادات العالم، وفق متطلبات التراكم وتوسيع الإنتاج على الصعيد العالمي، وقد جرى رسم هذه السياسات وتمريرها، عبر برامج صندوق النقد التي يضعها للدول التي تعاني الأزمات. مع تقديم ديون مشروطة بإجراء التعديل الهيكلي.
إن هناك العديد من التعاريف لنفس المشروع ونفس التوجه الإقتصادي، ترد في أدبيات صندوق النقد والبنك الدولي منذ الثمانينيات، وهي مطابقة من حيث المضمون وإن تباينت التسميات أو تنوعت④.
تعريف صندوق النقد الدولي للإصلاح الاقتصادي، إنه يعني " الجهودالمدروسة التي تبذلها الدولة لمعالجة وضع ميزان المدفوعات على الوجه الذي يتماشى مع تعزيز فرص النمو وزيادة الكفاءة في استخدام الموارد"
وقد حدد البنك الدولي في تقرير له سنة 1988 مفهوم وحدود عملية إلاصلاح الاقتصادي، على أنها " تحتوي على المتغيرات الاقتصادية الكلية والجزئية، وتشمل عملية إلاصلاح على القطاع العام وكل المؤسسات التي تقدم منافع عامة ومملوكة للدولة، ويتضمن مختلف إلاجراءات المتعلقة بتحرير ألاسعار في قطاع معين ولسلعة معينة، وبيع وحدات القطاع العام الى القطاع الخاص"
إن فلسفة صندوق النقد ومضمون سياسته الاقتصادية يقع خارج نطاق ردنا على الورقة، إن هذا الموضوع بحاجة الى مبحث مستقل ومركّز، وسنعود اليه في مناسبات اخرى. سنركز هنا على طابع الورقة الإجرائي وآثارها الإجتماعية. وسيقتصر تصدينا للعلاقة بين الورقة البيضاء وسياسات صندوق النقد، على توجهاته العامة وأساس تدخله في رسم السياسة الإقتصادية في العراق، والتي يروج إقتصاديو السلطة، الى كونها إبتكار اقتصادي لحل الأزمات الإقتصادية في المجتمع.
تتلخص برامج صندوق النقد الدولي في⑤:

الأهداف الأدوات النقدية والمالية
- خفض العجز في الحساب الجاري لميزان المدفوعات على مستوى معين
- خفض قيمة العملة المحلية
- خفض العجز الجاري في موازنة الدولة - خفض حجم إلانفاق العام
- خفض معدلات التضخم، بحيث لا تتجاوز نسبة معينة في السنة. - تقييد التوسع في حجم الائتمان المحلي الصافي.

إن كل ما ورد في الورقة البيضاء يدور في إطار ما مرسوم أعلاه، بل وبصورة أشد مما جاء في برامج التعديل الهيكلي،إذ سيجري رفع معدلات التضخم عن طريق تخفيض سعر الصرف، ثم يصار الى إجراءات تقييد التوسع في الائتمان المحلي.
أما وفق ما يرد في نص الورقة، فيضعنا أصحاب المشروع أمام إدعاء حل للأزمة الإقتصادية التي يعانيها المجتمع، ويعلنون إن حل الأزمة هو في الخصخصة والتوجه الى إقتصاد السوق.
إن الإصرار على إعتبار نمط إقتصادي دون سواه هو الحل للمشاكل الإقتصادية، بحاجة الى برهان وإثبات علمي، ولا تكفي الأوصاف والوعود، بل على العكس، فهذه لن تكون سوى إحدى المؤشرات على عدم دقة وحقانية الطرح. والمسألة الأهم هي مالمقصود بالمشاكل الإقتصادية؟ وماذا يستهدف مشروع التكييف أو الإصلاح؟ وبتعبير آخر، هل يستهدف أصحاب المشروع حل مشاكل القطاع الخاص وتأمين التراكم الرأسمالي له، ووضع كل الممتلكات العامة تحت تصرفه؟ أم يستهدفون الإجابة على معضلات المجتمع المعيشية والحياتية من تشغيل وخدمات وتأمين البنى الأساسية؟
وفق ما يرد في متن الورقة، الجواب هو لمواجهة الأزمة الإقتصادية بلا شك، ويعد أصحاب الورقة إن الخصخصة وتصفية القطاع العام ستوفر فرص العمل، وستطور الصناعة وتؤمن الإيرادات المالية. ولكن هذا لا يعدو كونه إدعاء، وقد تردد وتكرر في التجارب الدولية التي تجري منذ الثمانينات، وليس من اليسير الحديث عن فعاليته ونجاحه، دون تحريف وتزوير في سرد الوقائع والتجارب التاريخية. لقد دلت العديد من التجارب التاريخية القريبة على عدم صلاحية هذا الطرح.
هنالك مسألتان غاية في الأهمية، ولا يمكن تخطيهما عند تناول موضوعة الخصخصة وهيكلة الإقتصاد في العراق، هما: إن القطاع الخاص والسائد اليوم عالمياً، هو في حالة أزمة عميقة، ليس في العراق فقط، بل في دول رأسمالية ذات قاعدة تكنولوجية صناعية متقدمة وقدرات تسويقية هائلة، وتتدخل الدولة بإستمرار لإنقاذه وتأمين الحزم المالية لإنعاشه، عن طرق التقشف والاستقطاعات، أي إفقار الملايين لتأمين الأموال التي تتحول الى رساميل. وقد شهدت أزمة 2008-2009 تدخلاً واسعاً من قبل الحكومات لإنقاذ القطاع الخاص، بدل أن يكون القطاع الخاص هو المنقذ من الأزمات. وفي سنة 2009 بلغ حجم حزمة التحفيز الحكومية 787 مليار دولار، بهدف الحد من تأثير أزمة الركود العظيم في الولايات المتحدة والمساعدة على تحفيز الاقتصاد⑥.
وبالتالي فإن التعويل على التوجه لإقتصاد السوق كحل، سيكون لصالح فئة بعينها هي فئة من الصناعيين أو التجار من غير أصحاب رؤوس الأموال، أي سيكون عملية إعادة توزيع للرأسمال والثروة وخلق فئة جديدة من الرأسماليين. وهذا في الحقيقة مشروع رأسمالي يخص فئة المتحكمين بالثروة والسلطة، وهو ليس حلاً للآزمة الإقتصادية والآثار الإجتماعية الناجمة عنها.
الثاني هو: الوضع التاريخي والمعاصر للقطاع الخاص في العراق.
إن موضوع وجود القطاع العام في العراق والعالم، تاريخياً، لا يرتبط بنوع من السلطة أو الحكم الذي ساد خلال فترة من الفترات، ولا يشكل مشروعاً قدمه هذا الحاكم أو ذاك. إن وجود القطاع العام وبنيته التي تشكلت وتكاملت خلال عقود، يمثل كل محتوى التطور الرأسمالي وبناء الرأسمال الثابت في العراق، وعن طريقه جرت الإجابة على مسألة بناء الرأسمال الصناعي في العراق⑦. لقد بقيت مسألة تحديث القطاع الصناعي في العراق، وقيام صناعات توحد السوق الداخلية بلا جواب، في ظل وجود قطاع خاص متأخر تاريخياً الى حد بعيد مقارنة بالإحتكارات العالمية، التي تسيطر على السوق العالمية. فالطريق الذي إتخذته الأنظمة المتعاقبة، بتوسيع وتقوية القطاع العام هو بهذا المعنى، التعبير الموضوعي عن مستوى التطور الاقتصادي، وعن ضرورات بناء اسس التصنيع الحديثة في العراق. وبرغم تعطيل القطاع العام خلال ما يقرب من العقدين منذ 2003 ولحد اليوم، الّا أنه ما زال يشكل القاعدة المادية الأهم لرأس المال الثابت*.
وبمقدار وجود منشآت متكاملة تشكل رأس المال الثابت العام في العراق، فإن إرتباطها بالمؤسسات المالية العالمية صندوق النقد IMF والبنك الدولي WB، يبقى محدوداً ويجر معه بنية الاقتصاد عموماً خارج السيطرة النقدية والمالية للمؤسستين الماليتين المشار اليهما، وهذا يتعارض بالطبع مع سياسة النظام الحالية ومع السياسة الاقتصادية الرأسمالية عموماً تجاه العراق، لكونه عامل يساهم في ضعف سيطرة المؤسسات الرأسمالية العالمية عليه. ليس المقصود هنا بالطبع قوة أو ضعف الأداء الإقتصادي للمنشآت العامة والإقتصاد المخطط، ولكن المقصود هو تبيان أساس تدخل المؤسسات المالية، وأساس سيطرتها على الاقتصاد وتوجيهه.
_____


الهوامش:
①: وقد شهد الاقتصاد العراقي بعد عام 1987 تغيرات وإصلاحات اقتصادية وادارية تم بموجبها تشخيص مواطن الضعف والقصور في أنشطة القطاع العام وفتح المنافذ والقنوات امام النشاط الخاص ليأخذ دورا فاعلا ومتزايدا في أنشطة وميادين الإنتاج الاقتصادية بانواعها المختلفة . وتجلت نتائج الإصلاحات بوضوح خلال سنوات الحصار الاقتصادي اذ برز للقطاع الخاص دورا مؤثرا في إدارة النشاط التجاري والإنتاجي. د. حسين عجلان حسن. القطاع العام في العراق بين ضرورات التطوير وتحديات الخصخصة. مجلة كلية بغداد للعلوم الإقتصادية العدد 11.
②وهكذا لم يكن هناك خيار آخر أمام الدول اللاتينية المثقلة بالديون والتي لم يعد بوسعها الاقتراض من البنوك الدولية بسبب تدهور وضعها الائتماني سوى خيارين أحلاهما مر. إما أن تعلن إفلاسها وإما أن تطرق أبواب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وفي ظل عدم وجود أي مكان آخر يمكنها اللجوء إليه سلمت هذه الدول نفسها للمؤسستين الدوليتين. https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/590822
③: وتزامن ذلك مع قيام إدارة "ريجان" بخفض معدلات ضريبة الدخل، لتتسبب هذه الإجراءات وأخرى غيرها في ارتفاع تكلفة الديون وانخفاض أسعار المواد الخام بشكل حاد، وهو ما يعني أن الدول النامية المعتمدة على تصدير هذه المواد مثل المكسيك وفنزويلا أصبح لديها الآن أموال أقل لتسديد ديونها التي أصبحت أكثر تكلفة. https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/590822
④: صندوق النقد الدولي طريقه معروف للجميع، فهو لا يطلب سوى تنفيذ الإجراءات التي تندرج تحت ما تسمى بـ"برامج التكيف الهيكلي". وبسبب عدم وجود أي خيار آخر، وافقت الدول اللاتينية بزعامة المكسيك والأرجنتين والبرازيل على فرض إجراءات اقتصادية صارمة للغاية لكي تتمكن من إعادة جدولة ديونها أو اقتراض المزيد من الديون. https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/590822
⑤: دراسة تحليلية لتجربة الإصلاح الإقتصادي في تركيا : د. بوخرص عبد الحفيظ و د. زواق الحواس مجلة الدراسات الاقتصادية المعاصرة. العدد 05/ 2018 ص 79
⑥: Barry Bosworth and Aaron Flaaen. America’s Financial Crisis: the End of An Era p.15
The Brookings Institution
https://www.brookings.edu/ar/research/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D9%8A%D8%A9-%D9%86%D9%87%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%B5%D8%B1
⑦: للتوسع في الموضوع يراجع: د. عصام الخفاجي. الدولة والتطور الرأسمالي في العراق 1968-1978. دار المستقبل العربي – القاهرة.
*- يجري إستخدام تعبير رأس المال الثابت هنا بمعنى رأس المال الأساسي مقابل رأس المال الدائر، وليس بمعنى رأس المال الثابت constant مقابل رأس المال المتغير variable.