لوي ألتوسير (1918 - 1990)


غازي الصوراني
2021 / 4 / 5 - 16:28     


فيلسوف فرنسي ماركسي، ولد في بلدة "بير مندريس" في الجزائر. تابع دراسته في فرنسا حتى نال شهادة في الفلسفة سنة 1948.
"وضع ألتوسير خطة لعمله الفكري الذي استغرق كل حياته، كما وضع أسساً فلسفية لتحديد النظرية الماركسية مكنته من فهم ماركس فهماً خاصاً، فقد رأى أن مؤلفات ماركس الشاب وليدة تأثير هيغل، وأن حياة ماركس الفكرية كانت محاولة مستمرة للخروج من هذا التأثير، وأنها لم تصل إلى تحققها واستقلالها إلا بكتابه "رأس المال"، لهذا رأى ألتوسير أنه لابد من فصل مؤلفات ماركس الشاب عن "رأس المال"، والنظر إلى هذا الكتاب على أنه عمدة الماركسية، وأن ما عداه من مؤلفات ماركس ليس ماركسياً إلا بقدر ما يوافق مضمونه مضمون "رأس المال""([1]).
يعتبر ألتوسير"من أكبر نقاد الفكر الستاليني، ومن المناضايين ضد النازيه، قضى خمسة أعوام في معسكرات الاعتقال النازية أثناء الحرب، وفي عام 1948 أنضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، واستقال منه عام 1968 عقب الغزو السوفيتي لتشيكوسلوفاكيا، "نشر أول كتاباته الهامة عام 1961 وجمعها في كتابه: "من أجل ماركس" في باريس 1965، وكان هدفه الأول –كما يقول- هو: تحرير الماركسية (وبشكل خاص: المادية التاريخية) من التشويهات التي أدخلها ستالين ومن قبله فريدريك انجلز الذي فرض تصورات الفيلسوفين: هيجل وفيورباخ على أفكار ماركس؛ وكان هدفه الثاني هو اثبات ان الماركسية ليست فلسفة، ولا وجهة نظر شاملة للكون وللمجتمع، ولا حتى أيديولوجية، وإنما مجرد علم للتاريخ وعلم لإنتاج المفاهيم النظرية نفسها"([2]).
وقد برز هذا الاتجاه في فهم ماركس في كتابات ألتوسير التي ظهرت في الستينات، مثل مقالاته: "حول العمل النظري، صعوباته ومصادره" (1967) و"الفلسفة سلاحاً ثورياً" (1968) وكتاب "قراءة في رأس المال" (1968) الذي صدر في جزأين (وهو عمل فريق من المفكرين الماركسيين تزعمه ألتوسر). إضافة إلى كتابين آخرين هما: "الفلسفة وفلسفة العلماء التلقائية" (1967)، و"لينين والفلسفة" (1969)([3])، " وكان الهدف الذي رمى إليه هذان الكتابان -كما يقول المفكر الراحل جورج طرابيشي- تجديد تأويل الماركسية، وقد أثارا مناقشات حامية الوطيس داخل الحزب الشيوعي الفرنسي وخارجه على حد سواء، ذلك أن ألتوسير انتمى إلى هذا الحزب منذ عهد المقاومة ضد الاحتلال النازي، كما أن التلاميذ الذين التفوا حوله أعضاء في الحزب نفسه، لكن العمل النظري الذي قاموا به أرادوه خارج الرقابة الإيديولوجية لقيادة الحزب. وقد أفلح ألتوسير، إذ استغل مرحلة " ليبرالية" في الحزب ووجود تيارات متباينة في قيادته، في نشر مؤلفاته بصورة مستقلة وفي فرض نفسه كمحاور ممكن داخل حزبه بالذات .
يشكو ألتوسر، في المقدمة التي وضعها للدراسات التي يتألف منها كتابه "مع ماركس"، من عدم كفاية نظرية ماركس داخل الحزب، ويأخذ على عاتقه تكوين فلسفة ماركسية بحق معنى الكلمة. ذلك أنه يفترض أن مؤسسي الماركسية ما زادا على أن قدما أحجار زاوية ؛ ولئن وضعا نظرية علمية في التاريخ، فإنهما لم يرسما بالمقابل إلا المعالم الأولية للمادية الجدلية، لذلك سعى ألتوسير إلى البرهان على أن مؤلفات ماركس الشاب لم تكن ماركسية بعد، وأن أثر هيجل ثم فيورباخ غالب عليها. أما المفاهيم الماركسية النوعية فينبغي طلبها في كتابه "رأس المال"، وبالتالي فإن قراءة ألتوسير الجديدة هذه لماركس –كما يضيف جورج طرابيشي- "لا تتردد في ان تغرف على سعة من مَعِين مؤلفين غير ماركسيين (باشلار، فرويد، لاكان، ليفي، ستراوس) لتؤكد على الجانب العلمي للمذهب نافية عنه كل مظهر إنسانوي، وقد أدت هذه النظرة إلى الماركسية بألتوسر إلى مخالفة خط الحزب الشيوعي الفرنسي، وما لبثت أن أدخلته في نزاع سياسي، وترك الحزب الشيوعي سنة 1978"([4]).
وفي هذا السياق، يعلق المفكر الراحل صادق العظم قائلا: " إن الخلفية المثالية التي انطلق منها ألتوسير واستخدمها في إعادة قراءة الماركسية، ومن أجل بناء ماركسيته البنيوية، هي السليلة الشرعية الأكثر تطوراً وعصرية للخلفية الفلسفية المثالية التي كان قد انطلق منها لوكاش واستخدمها في صياغة ماركسيته الأولى"([5])، ثم يطرح د. العظم استنتاجاته النهائية حول دعاوى آلتوسير في هذا الميدان على شكل خمس اطروحات موجزة تتناول البنيوية عموماً والماركسية الآلتوسيرية تحديداً ([6]):
1.    تعني علمية الماركسية عند آلتوسير: موت مركزية الموضوع في المعرفة لصالح أولوية الجهاز المعرفي ذاته.
2.    تعني لا إنسانوية الماركسية عنده: موت مركزية الإنسان الفاعل الصانع لصالح أولوية البنيات المفعولة والمصنوعة.
3.    تعني لا تاريخانية الماركسية عنده: موت مركزية التعاقب التطوري لصالح أولوية التزامن الوظيفي.
4.    تعني لا تجريبية الماركسية عنده: موت مركزية الواقع المادي لصالح أولوية النموذج النظري.
5.    تعني لا اقتصادوية الماركسية عنده: موت مركزية القاعدة الاقتصادية لصالح أولوية الكل الاجتماعي.
يضيف صادق العظم قائلاً: "في قراءة آلتوسير "لرأس المال" لا يرى الجماهير عند ماركس بشراً وناساً وذوات فاعلة، إنما مجرد "حوامل" نظرية لمفهوم علاقات الانتاج في منظومة التصورات التي تشكل بارادايم أو إشكال المادية التاريخية، وهنا أعتقد – يقول د. العظم – " أن موقف آلتوسير يخلط ببساطة بين الأيديولوجيات التاريخانية – المثالية (الذات المطلقة عند هيجل، مشاريع الوجود لذاته عند سارتر، مفهوم كارل بوبر للتاريخانية) وبين تاريخانية ماركس المادية والجدلية العاملة على تجاوز سكونية العلوم الاجتماعية والإنسانية نقدياً بدمجها في التاريخ وصيرورته وتحولاته"([7]).
أما السؤال عن إمكانية استيعاب بنيوية آلتوسير حقيقة التطور التاريخي والتعاقب الزمني إلخ بحيث تسمح لنا تعاليمه ومصطلحاته بالكلام عن نشوء العناصر الأولية لبنية المجتمع البورجوازي، مثلاً، في داخل بنية المجتمع الاقطاعي؟ فإن جوابي على ذلك -يقول د. العظم- "في المادية التاريخية لا يوجد بنية بلا تاريخ أنتجها، كما أن التاريخ يكون تاريخ لا شيء إن لم يكن تاريخ بنيات حقيقية محددة، لهذا لابد للبنيوية السكونية التي يحاول آلتوسير إقحامها في المادية التاريخية من الاصطدام الحتمي بتاريخية المادية التاريخية، من هنا هذا الشعور بالدوار واللاجدوى الذي يصيب القارئ وهو يعمل على متابعة تعرجات نصوص آلتوسير (وباليبار بصورة خاصة) والتواءاتها ولفها ودورانها في محاولاتها الشاقة للتعامل بصورة مقبولة مع مسائل حركة التاريخ ومشكلات تحول المجتمعات وقضايا الانتقال من أنماط إنتاج معينة إلى أخرى، في مقابل إعلان ماركس وإنجلز في "الايديولوجيا الألمانية" بأنهما لا يعرفان إلا عِلْماً واحداً هو عِلم التاريخ، وفي مقابل إسهامهما الأصيل في الكتابة العلمية للتاريخ وفي مقابل إهتمامهما الواسع والعميق بالانتاج الفكري التاريخي والتأريخي للعصور الحديثة كلها، يوجد شيء ما مأساوي وبائس في قراءة ألتوسير للماركسية عموماً ولـ"رأس المال" خصوصاً، تجعل من التاريخ خصماً للمادية التاريخية ومعضلة غير قابلة للاستيعاب والتفسير ضمن إطار منهجها وأطروحاتها، تتجلى هذه الخصومة في إعلان آلتوسير المبدأين التاليين في "قراءة رأس المال":
(أ‌)      في مواجهة الهيجليين والتطوريين والنشوئيين والتجريبيين نحن نهتم بالنتيجة دون صيرورتها.
(ب‌)  كل تعاقب هو تعاقب تابع لنسق تزامني معين ومحدد لأن التزامن هو المبدأ الذي يحكم كل شيء، فإذا كان لوكاش قد حول الزمن التاريخي من معناه التراكمي التطوري، كما عند هيجل وماركس، إلى تجربة انحطاط وتدهور، فإن ألتوسير يلغيه من حسابه وحساب الماركسية نهائياً"([8]).
من المفيد هنا ، أن نشير إلى إلحاح ألتوسير على نقطتين في فهم ماركس وشرحه، أولاهما أن الجدل الماركسي ليس استمراراً للجدل الهيغلي، وأن هناك قطيعة معرفية بينهما؛ وثانيهما أن ماركس يعطي مقولة المادة أولوية فلسفية، فما يجب تحليله هو الوقائع المادية من حيث هي مادية، ويجب دراستها دراسة علمية، وهذا ما فعله في "رأس المال"، فقد قَسَم ألتوسير فكر ماركس إلى مرحلة أيديولوجية تنتهي سنة 1845 ومرحلة علمية تبدأ بانتهاء المرحلة الأيديولوجية، كما يضع ألتوسير القارىء هنا أمام طورين ماركسيين مختلفين: أحدهما أيديولوجي يعنى بما هو إنساني وفلسفي وأنتروبولوجي، وثانيهما علمي يعنى بالدراسة النظرية البنيوية التي تقوم على مفهومات علمية دقيقة. وهو يعتقد أن هذه المرحلة الأخيرة هي التي تمثل الماركسية.
في هذا الجانب، يستشهد ألتوسير بما كتبه ماركس في أطروحته عن فويرباخ، إذ قال: "إن الفلاسفة صرفوا كل اهتمامهم حتى الآن إلى تفسير العالم تفسيرات متعددة، في حين إن الأمر يتعلق بتغييره". وهو يرى أن هذا الكلام بمنزلة إعلان القطيعة بين الفلسفة والإيديولوجية، لإحلال علم جديد محلهما، ويقوم هذا العلم على مفهوم "البنية" المتحققة الذي هو محاولة للحلول محل الذات، وإقامة قطيعة إبستيمولوجية مع كل فلسفة تنطلق من الذات.
وهكذا كان على ماركس، بحسب رأي ألتوسير، أن يستبعد كل تاريخ الفلسفة، من حيث هو سرد للأوهام التي يجب تبديدها، ومواجهة الواقع وحده لأنه هو الذي يفرض نفسه على كل بحث نقدي، ولكن ألتوسير لا يقصر القطيعة على الفلاسفة، بل يريدها أن تتعداهم إلى علماء الاقتصاد والمؤرخين والمناطقة، في سبيل الاهتمام بالسؤال الإبستيمولوجي الذي يذهب إلى صميم الممارسة النظرية الجديدة التي دعا إليها ماركس.
 انتهى ألتوسير من دراسة ماركس إلى الأفكار التالية([9]):
·        إن ماركسية ماركس لم تنضج إلا في "رأس المال" ونضجها لم يكن دفعة واحدة، وإنما مر بمراحل نمو متقطعة.
·        إن الماركسية ليست منظومة مغلقة، بل مفتوحة على تجربة الواقع والتاريخ.
·        إن الماركسية تلح على الرؤية الكلية من دون تفسير الأمور بسبب وحيد؛ فالعلاقات الاجتماعية مثلاً ترتد إلى أسباب ثقافية وأيديولوجية وسياسية يحددها العامل الاقتصادي الذي يكملها ويدفعها في اتجاه التحقق التاريخي.
·        إن الماركسية لا تؤمن بحياد سياسي فكري، لأن كل نظرية تحمل اتجاهاً سياسياً معيناً.
لكن ألتوسير لم يقف عند فهم ماركس وشرحه، بل ذهب أبعد من ذلك لاستخلاص أفكار خاصة به، فهو يرى أن للمثقفين الثوريين دوراً إيجابياً في توجيه الطبقة الكادحة (البروليتارية) في نضالها مع الرأسمالية، وفي إقامتها المجتمع الشيوعي، وأنها كانت تشعر في الماضي بأنها مُستَغَلَّة، من دون أن تفهم طبيعة استغلالها، إلى أن أتت الماركسية، فبينت لها ذلك، وأتاحت لها القيام بأفعالها الثورية طبقاً للواقع الموضوعي لصراع الطبقات.
بيد أن الطبقة الكادحة قد تخطئ، وقد تنحرف عن خطها النضالي الصحيح، ومن هنا كان دور المثقفين الثوريين الذين ينظِّرون للبروليتاريا ويوجهونها: إنهم وإن كانوا لا يصنعون التاريخ، إلا أنهم يوجهون البروليتاريا التي تصنعه.
 لكن يبدو أن ألتوسير قد تراجع عن موقفه بالنسبة لدور المثقفين، حين قال عام 1968 في مقابلة أُجريت معه "إن المثقف في جوهره برجوازي صغير، فمجرد ما يفتح فمه لكي يتكلم، تنطق أيديولوجيا البرجوازية الصغيرة، لذلك من الصعب جداً أن يتحول المثقف إلى ثوري، إلى ماركسي لينيني، فعليه أن يعاني ثورة فكرية جوانية لكي يصبح كذلك، لأن غرائزه برجوازية صغيرة بعكس العامل، الذي يتمتع بغرائز ثورية تمكنه إذا فكر واجتهد أن يُعَبِّر بِيُسْر نسبي عن المواقف الثورية، إلى الماركسية اللينينية، وعاد ألتوسير ليؤكد هذه الرؤية في كتابه "لينين والفلسفة ومقالات أخرى". ما زال لوي ألتوسير راهناً ومهماً"([10]).
يرى التوسير كذلك، أن الفلسفة الماركسية هي السلاح الثوري الذي لا بد للمثقفين الثوريين من أن يستخدموه في إفهام الطبقة الكادحة مقولات هذه الفلسفة، وإطلاعها على طريقة استخدام ماركس وأنغلز لها، ثم على الطريقة التي تستخدم هي ذاتها أدواتها في الظروف الطارئة في الحاضر والمستقبل من أجل نجاح ثورتها.
فالفلسفة في رأيه هي في النهاية الصورة النظرية لصراع الطبقات، والماركسي الصحيح هو الذي يضع نفسه في إطار الماركسية التاريخي الدقيق انطلاقاً من موقف معين في مكان وزمان معينين، كأن ينظر إلى أزمة الرأسمالية من حيث ارتباطها بأزمة الماركسية([11]).
لقد تركت آراء ألتوسير في الشبيبة الطالبية، أثراً لا ينكر، تَمَثَّل في الموقف النقدي الذي وقفته حركة أيار 1968 من قيادة الحزب الشيوعي المتهمة بـ "التحريفية" لتخليها عن مبدأ دكتاتورية البروليتاريا، وهو موقف جديد يعتقد ألتوسير أنه من الصعب إيجاد تبرير نظري له في الماركسية.
وبالمقابل، فإن نقاد ألتوسير رموه بتهمة الستالينية، والواقع –كما يقول جورج طرابيشي- أنه بقدر ما يبدو ألتوسير مجدداً في المنهج يبدو " قويم العقيدة" في الآراء.
أما أرنست ماندل، فيقول " إن ضعف ألتوسير الأساسي يكمن في رفضه التمييز بين المنهجين الجدليين، المثالي والمادي، وفي شكوكه حيال الجدل المادي باعتباره جدلاً "هيغلياً"، وفي رفضه الفعلي لكل الجدل لهذه الأسباب"([12]).
أما المفكر د. صادق جلال العظم، فقد انتقد ألتوسير بحدة، بل شن عليه هجوماً شرساً في كتابه "دفاعاً عن المادية والتاريخ" كما يقول المفكر د. هشام غصيب الذي رأى إن هجوم صادق العظم افتقر كلياً إلى روح الانصاف الموضوعي، خاصة وأن صادق العظم يقول في نقده لألتوسير: "في مؤلفاته كلها، حين يهاجم ألتوسير الماركسية الهيغلية وينتقدها، فإنه لا يؤكد أبداً مادية الماركسية في مواجهتها، بل يؤكد دوماً علميتها فقط بعد أن يكون قد فسر ضمناً معنى العلمية تفسيراً شكلانياً مثالياً معادياً للمادية، وبالتالي فإن الهدف الحقيقي من هجوم ألتوسير المستمر والمتكرر على مثالية هيجل الموضوعية، هو النيل من مادية ماركس الموضوعية، لأن الهدم المباشر للأخيرة صعب دون الظهور بمظهر الخارج كلياً عن إطار الماركسية عموماً والمادية التاريخية تحديداً، لهذا يركز ألتوسير نقده الهدام على:
‌أ-           الإرث الذي تركته المثالية الموضوعية للماركسية.
‌ب-       استعارة ماركس الشهيرة والقائلة، بأنه وَجَدَ مثالية هيجل الموضوعية واقفة على رأسها فأوقفها على قدميها.
‌ج-        دعوى ماركس بأنه استخلص من القشرة الصوفية للمثالية الهيغلية قلبها الديالكيكي".
وتعليقاً على نقد د. العظم، يدافع د. هشام غصيب عن ألتوسير بقوله "برغم ما يشوب الألتوسيرية من ثغرات في هذه المسألة، وفي مقدمتها مفهوم القطع الإبستمولوجي، إلا اني أرى في هجوم العظم في الفقرة المقتبسة أعلاه تجنياً واضحاً على ألتوسير، لا بل تزويراً جلياً لموقف ألتوسير يثير حيرتنا بالنظر إلى ما نعرفه عن صادق جلال العظم من صدق وعمق ودقة في قراءة غيره"([13]).
لذلك –كما يستطرد د. هشام– "نجد مستغرباً زعم العظم بان ألتوسير، حين يهاجم الماركسية الهيغلية وينتقدها، لا يؤكد أبداً مادية الماركسية في مواجهتها، إننا نجد ذلك مستغرباً بالفعل، لأن مفهوم التحديد الفائق ابتكره ألتوسير خصيصاً لكي يؤكد مادية الماركسية في مواجهة الهيغلية في صورها كافة، بل، إن مأخذنا على ألتوسير أنه يغالي في توكيده هذا، بحيث إنه يريد تطهير الماركسية من كل أثر للمثالية الهيغلية، إنه يغالي في توكيد اختلاف الجدل المادي عن الجدل الهيغلي بحيث إنه يريد توكيد انعدام الصلة كلياً بين الجدلين، فهو إذاً لا يجابه الجدل الهيغلي بعلمية الماركسية، كما يزعم العظم، وإنما يجابهه بمادية الماركسية إلى حد المغالاة"([14]).
لقد أدرك ألتوسير جيداً –كما يضيف د. هشام- "أن المفهومات القائمة في المادية التاريخية والمادية الجدلية في صورتها التقليدية لا تكفي لتحقيق ذلك، لاختلاف موضوعها، ومن ثم، أدرك الحاجة إلى ابتكار مفهومات جديدة لإنتاج معرفة فلسفية بصدد الجدل المادي بوصفه موضوعاً. فقد أدرك أن كون الجدل المادي موضوعاً جديداً، يقضي بابتكار مفهومات جديدة لاستيعابه، وأن استعماله بوصفه أداة معرفية لاستنطاق غيره لا يكفي، هذا هو أحد الدروس المهمة التي نستخلصها من ألتوسير، إذا نظرنا إلى فكره نظرة نقدية، لكن موضوعية، وإذا لم نجعل من بعض هفواته حاجزاً يمنعنا من التواصل مع دوره"([15]).
" لقد سعى ألتوسير منذ الخمسينيات إلى إحياء الماركسية اللينينية، في حقيقتها المادية الجدلية في الأوساط اليسارية، لإنقاذ الأخيرة من جهة، ولشحن الحركة العمالية، والحركة التحررية العالمية بروح تغييرية جديدة تواصل المسيرة الكبرى التي بدأها ماركس ولينين من جهة أخرى، إذ شعر أن لا خلاص للحركة الشيوعية العالمية إلا بمثل هذا التجديد، فهذه الحركة إما أن تكون ثورية، إما أن تكون مادية جدلية، وإما ألا تكون"([16]).
من المؤلفات التي أصدرها ألتوسير لاحقاً، قبل أن يصاب في مطلع الثمانينات بنوبة جنون، كتاب "لينين والفلسفة" (1969) و"رد على جون لويس" (1973)، و"عناصر لنقد ذاتي" (1974).
وأخيراً، ومهما قيل في ألتوسير، "فإنه يبقى في تاريخ الفكر الفرنسي والأوروبي ذاك الذي أثار من حول كتاباته عاصفة من الردود والردود المضادة لا تجد نظيراً لها إلا في العاصفة النظرية التي أثارتها الوجودية غداة الحرب العالمية الثانية"([17]).
وفاته:
في سنة 1980 دخل ألتوسير داراً لرعاية المسنين بعد أن إتُّهِمَ بقتل زوجته، وأُسْقِطَت التهمة عنه لعدم ثبوت التقصد سنة 1981، ثم توفي منتحراً في إيفلين فرنسا عام 1990.
قالوا عنه([18]):
-     " إن ضعف ألتوسير الأساسي يكمن في رفضه التمييز بين المنهجين الجدليين، المثالي والمادي، وفي شكوكه حيال الجدل المادي باعتباره جدلاً "هيغلياً"، وفي رفضه الفعلي لكل الجدل لهذه الأسباب". (إرنست ماندل).
-     هل قرأ ألتوسير الرأسمال حقاً ؟ إنه يُعْمِلْ التأمل في مفهوم القراءة بصدد الرأسمال. ولو قرأ الرأسمال حقاً لاكتشف أن نص ماركس لا يعرض نفسه على أنه رسالة تتطلب من يفك لغزها، بل على أنه فك للغز نص هيروغليفي: عالم البضاعة". (هنري لوفيفر).
-     " إذا كان في مستطاع البنيويين أن يستخدموا ألتوسير، فلأن لديه تصميماً على إعطاء الامتياز للبنى على حساب التاريخ "(جان بول سارتر ). 
 


([1]) موقع: المعرفة -  https://www.marefa.org .
([2]) سامى خشبة – مفكرون من عصرنا – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة - 2008 – ص 85 - 86
([3]) موقع: المعرفة -  https://www.marefa.org .
([4]) جورج طرابيشي  - معجم الفلاسفة –  دار الطليعة – بيروت – ط2 - ديسمبر 1997–– ص88
([5])د. صادق جلال العظم – دفاعاً عن المادية والتاريخ – دار الفكر الجديد – بيروت – الطبعة الأولى 1990 –ص 363
([6]) المرجع نفسه –ص 385
([7]) المرجع نفسه –ص 389
([8]) المرجع نفسه – ص 454
([9]) موقع: المعرفة -  https://www.marefa.org .
([10]) د. هشام غصيب – الفيس بوك – 29/5/2019.
([11]) موقع: المعرفة -  https://www.marefa.org .
([12]) جورج طرابيشي – معجم الفلاسفة – دار الطليعة – بيروت – ط1 – أيار (مايو) 1987 – ص88
([13]) د.هشام غصيب – نقد العقل الجدلي – دار التنوير – بيروت – 2011 – ص50
([14]) المرجع نفسه -  ص51
([15]) المرجع نفسه– ص52
([16]) المرجع نفسه – ص57
([17]) جورج طرابيشي  - مرجع سبق ذكره - معجم الفلاسفة  – ص88
([18])  المرجع نفسه – ص 88