عائد إلى القدس


حسن مدن
2021 / 4 / 5 - 11:06     

على خلاف سعيد وصفية في رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا»، اللذين دخلا بيتهما بعد عشرين عاماّ من اضطرارهما لتركه في عام 1948 عندما احتلت الميليشيات الصهيونية المدينة، وطردت منها سكانها العرب، الذين لجأوا إلى البلدان العربية المجاورة، فإن إدوارد سعيد حين قصد البيت الذي كان مسقط رأسه في القدس لم يقو على محاولة الدخول إليه، واكتفى بالنظر إليه على بعد مسافة.
أكان في ذهن إدوارد في تلك اللحظة حجم الصدمة التي انتابت سعيد وصفية في رواية كنفاني، حين ولجا بيتهما في حيفا ليجدا أنه قد أصبح «بيتاً» لعائلة يهودية، فيعيشان لحظة درامية، فتحاشى وضع نفسه في صدمة مشابهة لن تقل قسوة؟
إدوارد لم يأت على ذكر هذا. التفاصيل هنا مختلفة. من قرأوا «عائد إلى حيفا»، أو شاهدوا الفيلم المأخوذ عنها يعرفون أن صفية، زوجة سعيد، في ذروة احتدام المعارك في المدينة تركت طفلهما الوحيد عند إحدى جاراتها، وخرجت تبحث عن زوجها.
تطورت الأمور فيما بعد؛ بحيث أصبحت عودة الأم للبيت، على الأقل لأخذ طفلها، مستحيلة، فهُجّر الزوجان، مع كل من هجروا، إلى الشتات، وبقي الطفل في حيفا.
لم تكن غاية الزوجين من العودة بعد عشرين عاماً هي رؤية البيت وإنما معرفة مصير ابنهما، خلدون، الذي انقطعت عنهما أخباره، وحين بلغا مقصدهما وجدا أن الطفل الذي تركاه رضيعاً في شهره الخامس، بات شاباً في العشرين من عمره؛ حيث تربى في كنف العائلة التي استحوذت على بيتهما، وصار يهودي الديانة، عبري اللغة، وأكثر من ذلك مجنداً في الجيش «الإسرائيلي»، وأنكر أبويه الحقيقيين، منحازاً ل«الأم» اليهودية التي تبنته وربته.
أما إدوارد سعيد فيذكر أنه بعد فترة من وفاة والدته قرر أن يصطحب ابنه وابنته إلى البلدان التي تشكل ذاكرته: مصر، ولبنان وفلسطين بالطبع.وقال إنهما يعرفان لبنان لأنهما ذهبا إليها مراراً عندما كانا طفلين، لكنهما لم يريا لا مصر ولا فلسطين من قبل. حرص إدوارد على أن يرافق عائلته إلى كل الأماكن التي تعني له شيئاً، بما في ذلك المدارس التي تعلم فيها، مهتماً بأن يري ابنيه البيت المقدسي الذي ولد فيه.
ما إن اقتربوا من البيت، وهو عبارة عن فيلا أنيقة، عرف الطريق إليها على الرغم من كل ما شهدته المدينة من تغييرات، فوجدها كما هي في مكانها، حتى قهرته مشاعره، وأصبح في حالٍ من الذهول والتردد. سألته ابنته: ألا تريد أن تدخل البيت، فأجاب بلا، واكتفى بالإشارة بأصبعه للغرفة التي ولد فيها.
في وصف تلك اللحظة قال إدوارد: إنها أكبر حسرة في حياتي.