آفة المجتمعات المنحطة


عبدالله محمد ابو شحاتة
2021 / 4 / 3 - 17:57     

لو طلب مني شخصاً ما اختصار انحطاط المجتمعات الإنسانية في جملة واحدة، لقلت أن هذا غير ممكن بالطبع. ولكن لو كان السؤال على سبيل التقريب أو قياس الغالب، لقلت دون تردد أنها عقيدة خيرية الأنا وشر الغير. عقيدة نحن شعب الله المختار أو نحن خير أمة أخرجت للناس. الانعزالية عن الصفة الإنسانية الجامعة، وعدم القدرة على التماهي مع المختلف وفهمه. العجز عن فهم ظروف الغريب وتقدير مشاعره ورغباته. العجز عن تجاوز النظرة المحدودة للواقع، العجز عن خلع نظارة الأسرة والدين والقومية التي لا يرى إنسان القطيع الغير إلا من وراء عدساتها التي تشوه الواقع. تلك المحدودية والسجن خلف قضبان الانتماء واعتبار كافة صدف الميلاد صدفاً سعيدة فقط لأنها حدثت لك أنت، أسرتك أفضل أسرة ودينك افضل دين وبلدك أفضل بلد، ثم تنقم على الغير حين يفترض ذات الافتراض فيما يخص أسرته ودينه وبلده. تحاول أن تحتكر حق تقديس صدف الميلاد لك وحدك، ثم تتعجب حين تجد الغير أيضاً يقدس صدف ميلاده مثلك، وتقول محدثاً نفسك ( كيف يكون غبياً هكذا ويصدق أشياء فقط لأنه ورثها بالميلاد !) وتفترض بشكل يشبه أن يكون نوعاً من الذهان العقلي انك لست مثله.
إن الإنسانية سيقدر لها أن تتجاوز جزء كبير من انحطاطها إذا ما استطاعت فهم الغير بنفس الشكل الذي تفهم به ذاتها، حين تكف عن تحريم ما تسوغه للأنا على الأنت. حين يرى الفرد الإنسانية في ذاته ويفهمها من خلال فهمه لذاته كما قال "فروم"
هذا هو انحطاط الإنسانية الأكبر الذي لا تريد الشعوب المنحطة إدراكه، تلك الشعوب التي تجد في نفسها المتعة حين تقول نحن وهم. حين تقسم العالم إلى خير وشر ( خير هم ممثلوه وشر يمثله الغير ). تلك الشعوب التي لا تتوانى في معاملة معتقداتها وأخلاقها وتقاليدها كما لو كانت مبرهنات فيثاغورث، والتي ينكرها الغير لا لكونه لا يقتنع بها، بل ينكرها تكبراً ونفاقاً. ثم يقرون لأنفسهم ما يحرمونه على الغير مستندين في ذلك لكونهم هم حصراً أرباب الحقيقة ، وهو الأمر الذي لا يعترف به احداً سواهم، ثم هم يريدون أن يلزموا به الجميع. وإذا ميز الغير ضدهم استناداً لذات المبدأ اشتكوا الاستبداد وادعوا المظلومية.
إن الشعوب كلما انغلقت انحطت، وكلما عجزت عن خلع نظارات معتقداتها وأخلاقها وفشلت في أن ترى الواقع بعين عارية، كلما سقطت في براثن التخلف والرجعية وانفصلت على ركاب الحضارة. فأصبح كل غريب عنها عدو، وكل جديد على ثقافتها بدعة. ولم تبصر في كل ما هو "انت" سوى متأمر يدبر لها المكائد و يسعى إلى دمارها .
إن اللحظة التي تعي فيها تلك المجتمعات حقيقة أن ( الأنت) ليس إلا (أنا) نشأ وعاش في مكان مختلف وظروف مختلفة. تستطيع عندها تجاوز انحطاطها. في اللحظة التي تعي فيها نداءات راسل للإنسانية جمعاء دون تمييز، وصرخة ماركس " يا عمال العالم اتحدوا" سيكتب لهم حينها تاريخاً جديداً.
وخير وسيلة لتحقيق هذا كما قال "فروم" وكما اعتقدت أنا دائماً ليست إلا خلق الإنسان المتفرد، الإنسان المتحرر من قيود الميلاد وانتماءاته. فذاك الإنسان هو القادر على فهم الغير والتفاهم مع المختلف، هو الإنسان الذي يُقدر الحوار ويحكم بالعقل والواقع. الإنسان الذي يقدر الحرية أكثر من الطاعة، والمبادئ الإنسانية والعقلية أكثر من العادات والتقاليد. فبهذا الإنسان وحدة تُقدر المجتمعات الاختلاف، وبه وحده تتجاوز طفولتها الحضارية وتستغني عن ثدي تراثها الجاف فتخرج من كهفها إلى العالم الفسيح.