العظماء (22) لينين المنظّر الماركسيّ والقائد الثّوريّ (5)

علي هيبي
2021 / 4 / 3 - 09:56     


المقولة الشّهيرة: "الدّين أفيون الشّعوب" الّتي نسبت للفيلسوف الألمانيّ "كارل ماركس" بقصد التّشويه المبرمج للنّظريّة الماركسيّة الثّوريّة العلميّة الّتي تنصف الطّبقات المستغَلّة من الفقراء والبسطاء وتشكّل سلاحًا بأيديهم ضدّ الطّبقات الظّالمة من المستغِلّين، نسبت لغيره أيضًا من الفلاسفة المادّيّين الّذين سبقوه، ولكنّ لصقها وإشهارها بكونها لِـ "ماركس" بالذّات كان له مقاصد غير شريفة ومخطّطة كي يفهمها العامّة من الشّعوب المقهورة بغير السّياق الّذي قيلت فيه وبقصد التّفسير الخاطئ لإثارة النّزعات الرّوحيّة المشروعة في وجدان النّاس بهدف إبعادهم عن الفكر الشّيوعيّ، وقد يكون هذا السّياق المختلف وهذا التّفسير السّلبيّ متساوقًا مع فكرة تخويف الأكثريّة من فقراء الشّعوب من "شبح الشيوعيّة" الّذي بثّته أوساط الأقلّيّة الأرستقراطيّة والبرجوازيّة الحاكمة والظّالمة خوفًا على مصالحها من الفكر المادّيّ والعلميّ وطليعة الطّبقة العاملة والأحزاب الثّوريّة الّتي تحمله وتؤمن به من أجل انتصار الثّورة الاشتراكيّة بمبادئها العادلة. وقد قال "ماركس" مقولة أخرى: "نقد الدّين مقدّمة لكلّ نقد"، بقصد الدّخول إلى تفسير علميّ تاريخيّ ومادّيّ لكلّ ما تستند عليه الطّبقة الأرستقراطيّة من مقولات تعتمدها لتكريس الظّلم الاجتماعيّ والاستغلال واستعباد البشر. وقال أيضًا: "إنّ الدّين هو الزّفرة الّتي يصعدها المخلوق الّذي هدّه الشّقاء، هو الرّوح في عالم بلا روح، هو الفكر في عصر لا فكر له، إنّه أفيون الشّعب". "الدّين أفيون الشّعوب" هي العبارة الّتي تمّ تشويهها من جانب خصوم الماركسيّة من المتديّنين وغير المتديّنين معًا. والنّتيجة تكون عادة تبسيط واختزال ذلك النّقد العميق للدّين الّذي طرحه "ماركس" وَ "إنجلز". ولعلّ المدخل المناسب لتجنّب هذا التبسيط هو أن نتذكّر أنّ سهام النّقد الماركسيّ للدّين كانت في الواقع موجّهة لا للدّين ذاته فحسب، وإنّما أيضًا لموقف فلاسفة التّنوير البرجوازيّين. إنّ قراءة متأنّية لفقرة "ماركس" الّتي يظهر فيها تعبير "الدّين أفيون الشّعب" تبيّن بالتّأكيد أنّ كاتبها أكثر إدراكًا ممّا هو شائع عنه. فهو يأخذ في اعتباره الطّابع المزدوج للدّين إذ يقول: "إنّ الهمّ الدّينيّ هو في الوقت نفسه تعبير عن همّ واقعيّ واحتجاج على همّ واقعيّ. إنّ الدّين هو آهة الخليقة المضطهدة، هو قلب في عالم لا قلب له، مثلما هو روح في عالم بلا روح".

لقد آمن "لينين" بتلك المقولات الماركسيّة حو ل الدّين كوسيلة للظّلم وأداة لاستغلال الفقراء والبسطاء والسّيطرة على ثروات بلادهم وبلاد شعوب أخرى بالحرب وقوّة السّلاح. وقد عبّر عن ذلك بقوله: "أولئك الّذين يكدّون ويعيشون معوزين كلّ حياتهم، يعلّمهم الدّين الخضوع والصّبر أثناء وجودهم هنا على الأرض، ويعزّيهم بالأمل بمكافأة سماويّة. بينما الّذين يعيشون من عمل الآخرين يعلّمهم الدّين ممارسة الصّدقة أثناء وجودهم على الأرض، وبالتّالي يقدّم لهم وسيلة رخيصة جدًّا لتبرير كامل وجودهم كمستغِلّين ويبيعونهم بأسعار معتدلة التّذاكر للرّفاهية في السّماء. ولذلك يغدو الدّين أفيونًا يخدّر الشّعوب كأيّ مشروب روحيّ. ولكن من النّاحية العمليّة ولحساسيّة إيمان النّاس بالدّين، ومنذ سنة (1905) أكّد "لينين": "أنّه لا ينبغي للدّولة أن تتدخّل في الدّين، ويجب ألّا تكون الجمعيّات الدّينيّة مرتبطة بسلطة الدّولة. يجب أن يكون لكلّ فرد مطلق الحرّيّة في اعتناق أيّ دين يشاء أو إنكار جميع الأديان". وبعد انتصار الثّورة الاشتراكيّة، أكّد "لينين" أنّ على الدّولة أن تتيح حرّيّة دينيّة مطلقة (وكان هذا بالفعل هو موقف الدّولة العمّاليّة في السّنوات القليلة التي تلت انتصار ثورة أكتوبر) فقد رأى أنّ حزب البروليتاريا يطالب بأن تعلن الدّولة أنّ الدّين مسألة شخصيّة، لكنّه لا يعتبر للحظة أن مسألة النّضال ضدّ الخرافات الدّينية مسألة شخصيّة.

والحقيقة أنّ "لينين" لم يكن يهتمّ كثيرًا بالشّؤون الدّينيّة ونادرًا ما كان يتحدّث عن الأديان، لكنّه أعطى حرّيّة العبادة للمتديّنين، وقد تبيّن ذلك في نصّ رسالة وجّهها إلى المسلمين في 24 نوفمبر سنة (1917) جاء فيها: "يا أيّها المسلمون في روسيا وسيبيريا وتركستان والقوقاز … يا أيّها الّذين هدم القياصرة مساجدهم وعبث الطّغاة بمعتقداتهم وعاداتهم، إنّ معتقداتكم وعاداتكم ومؤسّساتكم القوميّة والثّقافيّة أصبحت اليوم حرّة مقدّسة، نظّموا حياتكم القوميّة بكامل الحرّيّة وبدون قيد فهي حقّ لكم. وأعلموا أنّ الثّورة العظيمة وسوفييتات النّواب والعمّال والجنود والفلّاحين تحمي حقوقكم وحقوق جميع شعوب روسيا. وقد تمّ وضع برنامج ضخم لما يمكن أن يطلق عليه اليوم "التّمييز المضـــاد"، سُمي بِ "الكورنيزاتسيا"، أي إحلال السّكان المحليّين محلّ المستوطنين الرّوس. وقد بدأ بطرد المستعمرين الرّوس والقوزاق والمتحدّثين باسمهم من الكنيسة الأرثوذكسيّة الرّوسيّة في تلك المناطق. وتوقّفت اللّغة الرّوسيّة عن الهيمنة، وعادت اللّغات المحلّيّة إلى المدارس وإلى الحكومة وإلى المطبوعات. وقد تمّت ترقية السّكان المحليّين ليشغلوا مناصب في الدّولة وفي الأحزاب الشّيوعية المحلّيّة وأعطوا أولويّة حتّى عن الرّوس في التّعيينات. وقد أُنشئت جامعات لتدريب جيل جديد من القادة غير الرّوس. أيضًا أُعيدت الآثار والكتب الإسلاميّة المقدّسة الّتي نهبتها القيصريّة إلى المساجد. وقد تمّ تسليم "القرآن الكريم" المعروف بِ "مصحف عثمان" في احتفال مهيب إلى المجلس الإسلاميّ في "بتروجراد" في 25 ديسمبر سنة (1917) وقد أُعلن يوم الجمعة، يوم الاحتفال الدّينيّ بالنّسبة للمسلمين، ويوم الإجازة الرّسميّة في كلّ آسيا الوسطى".

فالماركسيّة واللّينينيّة تريان بالدّين مرحلة من مراحل تطوّر الفكر الإنسانيّ المنشغل بموجودات الطّبيعة، فليس ثمّة قوّة من خارجها تسيطر عليها، وهو شكل من أشكال التّفاعل الاجتماعيّ البرجوازيّ يُستخدم لحماية استغلال الفقراء واضطهاد الطّبقة العاملة من العمّال والفلّاحين. من كلّ ذلك نستنتج أنّ الدّين عند "لينين" وعند من سبقوه "ماركس" وَ "إنجلز" هو "أفيون الشّعوب" عندما يتحوّل إلى أداة قمع وسلطة استغلال وآمال كاذبة يُخدّر به الفقراء لصرف أنظارهم عن الهموم والآلام الاجتماعيّة والظّروف الاجتماعيّة الّتي يضطربون فيها ولصرفهم عن القضيّة المركزيّة، وهي الكفاح والثّورة لبناء الاشتراكيّة.



مؤلّفاته:

لا النّشاط النّظريّ والفكريّ ولا الفعل الميدانيّ السّياسيّ تنظيمًا وتثقيفًا وكفاحًا استطاعت صرف "لينين" عن الكتابة الّتي مارسها طيلة حياته منذ أن بدأ يستشعر الظّلم الاجتماعيّ وحياة البؤس الّتي تحياها الجماهير العريضة نتيجة للحروب والاضطهاد والاستغلال، ومنذ أن آمن بضرورة عدم دوام هذا الواقع المرير وضرورة تغييره إلى واقع أنبل وأسعد للفقراء بواسطة الثّورة. كان "لينين" فيلسوفًا ومؤلّفًا سياسيًّا غزير الإنتاج، فقد ألّف العديد من الكتب عن الثّورة البروليتاريّة، وكتب العديد من النّشرات والمقالات في الجرائد والصّحف. وعندما عانى من المرض لم يمنعه ذلك أيضًا عن التّأليف إلّا بعد اشتداد سوء حالته الصّحّيّة. وقد بلغ مجموع ما ألّفه خمسة وأربعين مؤلّفًا، تُرجمت إلى العديد من اللّغات، ومنها لغتنا العربيّة الجميلة. ومن مؤلّفاته:

"ما العمل" عنوانه بالكامل "ما العمل؟ المسائل الملحّة لحركتنا" صدر سنة (1902) تحدّث فيه عن الثّورة ومدى احتياجها إلى حزب قويّ تتولّى طليعته قيادة الثّورة الاشتراكيّة

"الإمبرياليّة أعلى مراحل الرّأسماليّة" صدر سنة (1916) تحدّث فيه عن كيفيّة استمرار الرّأسماليّة وعن الحرب العالميّة الأولى بكونها مجرّد حرب رأسماليّة للسّيطرة على البلاد والثّروات والأيدي العاملة.

"الدّولة والثّورة" صدر سنة (1917) تناول فيه أفكار" كارل ماركس" وَ "إنجلز" عن الثّورة والحزب الشّيوعيّ الدّيمقراطيّ غير القادر على اتّخاذ موقف فعّال في الثّورة.

"أطروحات أبريل" صدر سنة (1917) أوضح فيه الضّرورة الاجتماعيّة والاقتصاديّة إلى الثّورة الشّيوعيّة. "أمراض الطّفولة لدى اليسار المتشدّد" صدر سنة (1920) وفيه ينتقد اليسار المتشدّد.

"المادّيّة والمذهب النّقديّ التّجريبيّ" كتب لينين هذا الكتاب في مرحلة من تاريخ روسيا كانت فيها الأوتوقراطيّة القيصريّة قد فرضت على البلاد الإرهاب البوليسيّ القاسي بعد أن قُمعت الثّورة الرّوسيّة الأولى، سنة (1905)

لم يتوقّف "لينين" عن الكتابة رغم أمراضه وآلامه، فقد تعافى قليلًا سنة (1922) وكتب سلسلة من المقالات تنطوي على تنبّؤات عن فساد السّلطة في الحزب الشّيوعيّ، وقد اقترح للخلاص من ذلك الفساد إجراء عدّة تغييرات على النّظام السّياسيّ، وكانت بعنوان "شهادة لينين" سنعود على ذكرها لاحقًا.

لقد ترجمت أعمال "لينين" ومؤلّفاته السّياسيّة والنّظريّة إلى اللّغة العربيّة وجمعت في كتاب واحد بعنوان "المختارات"، من عشرة مجلّدات ضخمة وحوالي 5000 صفحة، طبعت في الاتّحاد السّوفييتيّ عن دار "التّقدّم" سنة (1978) وقد جاء في مقدّمة المجلّد الأوّل: "تبدأ دار التّقدّم بإصدار مؤلّفات "لينين" باللّغة العربيّة في 10 مجلّدات، وبمثل هذا الحجم تنشر مؤلّفات "لينين" باللّغة العربيّة للمرّة الأولى، وهي تضمّ مجموعة مؤلّفاته الأساسيّة الّتي تعطي القارئ فكرة كاملة عن جميع جوانب النّظريّة الماركسيّة اللّينينيّة وأقسامها المكوِّنة: الفلسفة، الاقتصاد السّياسيّ والاشتراكيّة العلميّة".



هل اغتيل لينين:

في 30 آب سنة (1918) كانت الذّريعة سؤالًا عن كيفيّة إدارة البلاد، نادته باسْمه الاشتراكيّة المتزمّتة "فانيا كابلان" (1890 – 1918) وهو يركب سيّارته بعد زيارة للعمّال وخطاب أمامهم في مصنع "المطرقة والمنجل"، وعندما التفت إليها بقصد إجابتها أطلقت عليه ثلاث رصاصات، أصابته في رئتيْه وكتفه وعنقه، لم يمت ولكنّ أثر تلك الرّصاصات اللّئيمة رافقه حتّى الموت كما يبدو، فقد استطاع الأطبّاء أن يخرجوا تلك الرّصاصات سنة (1922) ولكنّهم لم يستطيعوا إزالة أثرها القاتل. قالت: "اليوم أطلقت النّار على لينين لأنّه خان الثّورة" لقد أعدمت بعد ثلاثة أيّام على جريمتها النّكراء. ولا أعتقد بأنّ ادّعاءها كان صحيحًا وهو المحرّك لقتله، ورغم أنّها أنكرت أمام المحكمة أن لا جهة تقف وراء هذه الجريمة، بل فعلت ذلك من منطلق فرديّ، إلّا أنّني أشكّ بصدق كلامها، بل كان هناك من يقف وراء ذلك من أعداء داخليّين وهم كثر وأعداء خارجيّين وهم أكثر.

كان "لينين" يعاني من السّكتة الدّماغيّة، كانت تفقده القدرة على الكلام والحركة والكتابة، ولكنّه تعافى منها مرّتيْن، وعاد ليزاول نشاطه بشكل جزئيّ، ففي سنة (1922) عاد للكتابة كما ذكرنا سابقًا، ولكن في النّوبة الثّالثة أصابته سنة (1923) فقد قدراته جميعًا، وجاءت السّكتة الدّماغيّة الرّابعة فكانت القاضية، وزيادة على معاناة من المرض غير القابل للشّفاء في الأوعية الدّمويّة، وتوفّي في 21 كانون الثّاني سنة (1924) وأعلنت الحكومة السّوفييتيّة وفاته في اليوم التّالي، وحنّط جسده في السّاحة الحمراء في قلب العاصمة "موسكو".

في كتابه "مذكّرات ثوريّ" عن حياة "لينين" ومسيرته الكفاحيّة حتّى لحظة اغتياله يذكر الكاتب الّشهير "فيكتور سيرج" (1880 – 1947) والقريب من "لينين" أنّ الزّعيم كان يسافر بلا مرافقين، وفي اللّقاءات لم يكن يريد استقبالًا رسميًّا، يصف "سيرج" لحظات الاغتيال ومحاكمة المجرمة "فانيا كابلان" بلهجة يشكّك فيها بصدق مقولتها بأنّ عملها كان فرديًّا، ولا جهة وراءه، ممّا يعزّز المقولة أنّ هناك أياديَ خفيّة تقف وراء اغتيال الزّعيم السّوفييتيّ وموته متأثّرًا من تلك الرّصاصات الّتي اخترقت جسده سنة (1918) ولذلك أعتقد أنّ "لينين" اغتيل ومات بيد أعداء الثّورة الّتي قادها وانتصرت وغيّرت مسار التّاريخ الحديث. بدليل أنّ الثّورة انتصرت في أكتوبر سنة (1917) والاغتيال تمّ في أغسطس سنة (1918) فهل في مدّة حكم لزعيم ثوريّ لم تزد عن عشرة أشهر بعد مسيرة كفاحيّة ضدّ القيصريّة بكافّة موبقاتها وبكلّ ما فيها من تنظيم وتوعية وبناء حزب وطبقة عاملة مكافحة، مسيرة ثوريّة امتدّت لأكثر من أربعة عقود حتّى انتصرت، أهكذا بعد عشرة أشهر فقط من بداية حكم الدّولة الاشتراكيّة وبنائها نكتشف أنّ زعيمها وقائدها العظيم "لينين" قد خانها بهذه السّرعة ووجب اغتياله! شكّي يطول من أوائل القسم الآسيويّ للاتّحاد السّوفييتيّ حتّى أواخر القسم الأوروبيّ منه.



لينين الإنسان:

يصعب في أحايين كثيرة فصل بُعد ما لشخصيّة عن أبعادها الأخرى، خاصّة إذا كانت هذه الشّخصيّة بحجم شخصيّة "لينين" وامتداداتها وعظمتها، فالإنسان ابنًا وأخًا وزوجًا وصديقًا فيه لا ينفصل عن السّياسيّ الفذّ ذي الرؤى النّافذة أو المفكّر المطوّر لأفكار الماركسيّة ومقولاتها أو الثّوريّ المقاوم في ميادين الكفاح المسلّح والمعرفة الثّقافيّة، لأنّ كلّ ذلك يستقى من ينبوع أخلاق واحد. الشّخصيّة واحدة والأبعاد كثيرة والجوانب تراكميّة وشخصيّة "لينين" بهذه الأبعاد والتّراكم جبل شاهق أشمّ وهرم سامق عظيم في دنيا الثّورة والكفاح.

"لينين" هذا العملاق الشّامخ هو الّذي كان يتنازل عن حرسه الشّخصيّ ويذهب للاجتماعات واللّقاءات الرّسميّة والحزبيّة وحده، لقد سرق اللّصوص سيّارته مرّة ولم يُعرف عن أمره إلّا بعد ساعات، لأنّه لم يكن يهتمّ بأموره الشّخصيّة، ولم يكن يسعى لاكتساب امتيازات بالرّغم من مكانته السياسيّة العليا، فهو الرّئيس الأوّل للاتّحاد السّوفييتيّ، وقد أصدر توبيخًا سنة (1918) لمجلس مفوّضي الشّعب لأنّهم قرّروا زيادة راتبه، وقد طلب امتيازًا واحدًا من أمين المكتبة أن يسمح له باستعارة الكتب في ساعات اللّيل ليتمكّن من القراءة، ولم يوافق الأمين على خرق القانون فاحترم "لينين" ذلك. أيّ زعيم عربيّ يفعل ذلك في هذه الفترة الكالحة، أيّ قوانين لا يستطيع دوسها الزّعيم العربيّ وأيّ دساتير لا يستطيع تمزيقها وإلغاءها وتغييرها لمصلحة كرسيّه ونظامه القمعيّ، أيّ زعيم عربيّ في هذا الزّمان الثّقافيّ البائس يقرأ ليلًا أو نهارًا أو يقرأ أصلًا! فهم أمّيّون لم يقرأوا الماضي ولا يقرأون الحاضر ولن يقرأوا في المستقبل! ولكنّ الشّعوب العربيّة ستقرأ عمّا قريب الفاتحة على قبورهم ولكن ليس للتّرحّم عليهم، بل سيفعلون أشياء أخرى فوق ذلك النّتن الّذي في القبور، ذكره مرّة في أحدى قصائده الشّاعر العراقيّ "مظفّر النّوّاب" (1934).

وكان "لينين" شجاعًا صلب الإرادة قويّ العزيمة شديد الصّبر وعظيم التّفاؤل وكان رفاقه يصفونه بأنّه "نسر من نسور الجبال"، لقد تعرّف "لينين" على الأحزان منذ طفولته يوم مات أبوه ويوم أعدمت السّلطات القيصريّة أخاه الأكبر "ألكسندر" لاشتراكه في محاولة اغتيال القيصر، وعانى كثيرًا من صروف الدّهر سجنًا وتشرّدًا ونفيًا وحرمانًا، وهذا ما عمّق إنسانيّته وأثراها بعاطفة رحيمة وإنسانيّة وإرادة صلبة ثوريّة بدون خوف أو تردّد، وكان "لينين" رفيقًا وحنينًا بأمّه الّتي تحمّلت النّكبات والمآسي وورث عنها كما تقول زوجته الفاضلة ورفيقة دربه "ناديجدا كروبسكايا" (1869 – 1939) الصّلابة والإرادة والعطف والرّعاية بالنّاس الفقراء والضّعفاء، وعندما كان يتعرّض إلى الاعتقال يرجو معارفه وأصدقاءه بعدم إخبار أمّه لأنّ ذلك سيذكّرها بفلذة كبدها ابنها الأكبر. وعندما بلغ "لينين" نبأ وفاتها امتقع وجهه حتّى أصبح مثل صفحة من الورق، وكما يقول صديقه الحميم الأديب "مكسيم غوركي": "كان "لينين" يكتم مشاعره ولم يكن له مثيل في كبت عواطفه القلبيّة ويروي سائقه الّذي حمله بسيّارته إلى المستشفى بعد إطلاق الرّصاص عليه وأصيب بطلقتين في رقبته وذراعه يقول: "لم يتفوّه بأيّ صوت وكان وجهه يزداد امتقاعًا وكان يتعذّب من شدّة الألم، وقد أغمض عينيْه ثمّ بدا منه أنين مكبوت جدًّا حتّى لا يثير الخوف والرّعب والقلق لدى الآخرين". كان "لينين" في الوقت الّذي ينصرف عن همومه ونفسه كان يواسي المحرومين والمظلومين من النّاس والشّعوب. كان يعيش في منفاه مع زوجته المخلصة "كروبسكايا" في مدينة "زيورخ" في ألمانيا في غرفة خربة في الأحياء الفقيرة، حيث كان يسكنها أناس من الطّبقات الفقيرة جدًّا وكان يتحدّث معهم ويرتاح إليهم وكان دائمًا يردّد ويقول: "على المرء أن لا يهتمّ بمأواه ومسكنه وشؤونه الخاصّة ويهمل الآخرين وعليه أن يشاطر النّاس أفراحهم وأحزانهم وهمومهم وعذاباتهم ويبدي لهم الرّعاية والاحترام، وكان يتمثّل بمقولة ماركس: "إنّ أتعس مصير لأمّة من الأمم هو أن تكون ظالمة لأمّة أخرى"، وكان يبدي الحنق الشّديد على الاستغلال والظّلم وعلى ما يشاهده من تفاوت طبقيّ بين المحرومين والمرفّهين.، وكأني به يطبّق مقولة "ماركس" الأخرى: "لست ثورًا لأدير ظهري لهموم البشر".

كان "لينين" يتحلّى بطباع إنسانيّة رفيعة وسجايا حميدة محبّبة وكان ودودًا وأليفًا ومثيرًا للتّفاؤل، وقد شبّهت إحدى رفيقاته القدامى وجوده بينهم: "بزخّة من المطر المانح للحياة" وكان مرحًا، خفيف الحركة، بشوشًا، حلو المعشر وغير متصنّع. وقد وصفته أيضًا إحدى رفيقاته القدامى: "لم ألتقِ قط بإنسان قادر على أن يضحك بشكل مغرٍ بالضّحك كما كان يضحك "لينين" من أعماق قلبه، وكان غريبًا أن يستطيع مثل هذا الإنسان الواقعيّ والحازم والصّارم، رجل مهمّات وأعمال ومسؤوليّات تاريخيّة عظيمة أن يضحك كما يضحك الأطفال حتّى تدمع عيناه من الضّحك". وتقول زوجته "كروبسكايا": "كان يضحك ذلك الضّحك المغري ويمزح ذلك المزاح المرح ويحبّ سدرة الحياة الخضراء بقدر ما أعطته الحياة الفرصة". كما كان "لينين" بارعًا في الإصغاء والتّعليق والنّكتة المرحة. ويذكر المقربون منه وفي الحديث المباشر "من القلب إلى القلب"، وقد اعتاد حتّى وهو على رأس الدّولة أن ينتقل من مكانه والجلوس إلى جانب زائريه والتّحدّث معهم باهتمام وودّ. لم يكن يدخّن أو يشرب الخمر، وكان عصاميًّا كما كانت أكبر هواياته زيارة المكتبات والمطالعة والعمل. كان مثابرًا في عمله ومنظّمًا دؤوبًا، شديد التّركيز، دقيقًا، لا يعتمد على ذاكرته بالرّغم من أنّها حيّة ومتوقّدة، وكان لا يكلّ ولا يعجز من متابعة أكداس من الإحصائيّات والكتب والمراجع، كما اعتاد أن يكتب ملاحظاته على هوامش الكتب أو على أوراق منفصلة، وكان يراجع مقالاته مرّات عديدة، وكان "لينين" يمثّل الجهد الخارق للإنسان وقدراته مما أدّى إلى إرهاق صحّته، لقد احترق مبكرًا كما تقول زوجته "كروبسكايا": "وكيف لا يحترق وقد كان فكره يعمل طول الوقت عملًا مجهدًا". تلك هي صفات "لينين" العظيم، القدوة الفريدة لكلّ القادة الثّوريّين. ذلك هو "لينين" النّموذج الرّائع للإنسان الذي أحبّته الملايين من البشر، وسيظلّ هكذا إلى الأبد لأنّه كان قبل كلّ شيء إنسانًا عبقريًّا.



ماذا بقي من لينين:

بقيت أقواله الّتي تعكس أصالة قناعاته الحياتيّة وعلاقاته الاجتماعيّة ورسوخ مبادئه الأخلاقيّة والكفاحيّة الثّوريّة وعظمة ثقافته ومعارفه الواسعة. وبقي تاريخ مسيرته النّضاليّة منارة للعبيد الّذين لا يزيّنون عبوديّتهم ولمن يرفض الظّلم والاستعباد والاضطهاد ويسعى بروح وثّابة وإيمان راسخ بالمبادئ الثّوريّة يريد التّحرّر والعدالة والحياة الكريمة بعرق جبين وشموخ رأس وقوّة سلاح حقيقيّ عمليّ ومجازيّ نظريّ. بقي بعد "لينين" شخصيّات قياديّة لامعة وكبيرة، ثوريّة وسياسيّة وفلسفيّة وأدبيّة تأثّرت به: "جوزيف ستالين" وَ "مكسيم غوركي" وَ "تشي جيفارا" (1927 - 1967) وَ "أنطونيو غرامشي" (1891 – 1937) وَ "ليون تروتسكي" وغيرهم في أصقاع الأرض وبين كافّة الشّعوب. تأمّل هذه الأقوال الّتي لم يصنها الخلف لضمان استمرار مسيرة السّلف القائد والصّالح العظيم "لينين" وميراثه الثّوريّ والفكريّ وأدبيّاته ومؤلّفاته النّظريّة العريقة:

- الثّورة تعني تحطيم أصنام الجهل بداخلنا عوضًا عن إسقاط تماثيل شاهدة على تاريخنا.

- المثقّفون هم أقدر النّاس على الخيانة لأنّهم أقدر النّاس على تبريرها.

- من خان رفيقه فقد خان القضيّة.

- الثّائر المزيّف هو الّذي يهتمّ في شأن ظالمه حتّى يزول ظلمه ثمّ لا يفكّر فيمن يخلفه ولا يراقبه فيقع في الظّلم ثانية وهكذا يستمرّ الظّلم في العالم.

- في السّياسة لا يوجد فرق بين خيانة بسبب الغباء أو خيانة بشكل متعمّد ومحسوب.

- الثّائرون هم أقدر النّاس على معرفة الظّلم.

- صوت رجل بمفرده لا يبلغ مسامع الشّعب كلّه بل يضيع ويختنق في أقبية البوليس.

- الثّقة جيّدة، لكنّ المراقبة أحسن.

ولكن ماذا بقي وراءه:

حين نستعرض بعض صفات "لينين" وسجايا هذه الشّخصيّة الفذّة الّتي ذابت وانتهت نتيجة الإرهاق والمعاناة والّتعب والكفاح والقيادة، حيث كان يقضي عشرين ساعة في اليوم من العمل والمتابعة والدّراسة والخطابات والنّدوات الجماهيريّة فعجّل فيه الموت بعد إصابته بثلاث مرّات بالجلطة الدّماغيّة وكان يواصل عمله المضني وجهده المتفاني بالرّغم من نصائح الأطبّاء إليه، ولولا الموت قد عجّل به بعد سبع سنوات من انتصار الثّورة العظمى الّتي كان مهندسها ومنفّذها وقائدها ما أصاب ذلك الطّود الشّامخ والعظيم الّذي شيّده "لينين"، الاتّحاد السّوفييتيّ والمعسكر الاشتراكيّ ما أصابه من انهيار ماحق وأليم.

لقد أمضى "لينين" حياته مركّزًا على مهمّة بناء الحزب، وقد رأى أنّ الحزب نفسه عليه أن يدعو إلى الانتفاضة، أمّا "تروتسكي" الّذي راكم خبرة أكبر في السّوفييتات منه، كان عليه أن يقنعه أنّ دعم الحزب وحده لا يكفي إطلاقًا، وأنّ الدّعوة يجب أن تأتي من السّوفييتات، و"لينين" لم يكن طاغية ولا مستبدًّا برأيه ويرغب دائمًا في التّعلم وكسب الخبرة من الآخرين وهذا ما جعله قائدًا عظيمًا. وقد كان قائدًا من النّوع الّذي يعرف كيف يستمع إلى الآخرين في الوقت المناسب لتغيير وجهات نظره، فقد اقتنع بأنّ الاعتراف بالخطأ لا يعني اعترافًا بالفشل!

المحور المركزيّ لحياة "لينين" كان ضرورة بناء التّنظيم الثّوريّ. وبالنّسبة للشّكل الّذي يجب أن يكون عليه هذا التّنظيم، فهذا يختلف من وقت إلى آخر، ولا وجود لمثل هذا الشّيء الأسطوريّ الّذي يُسمّى بـالحزب اللّينينيّ، فهو تنظيم متغيّر وليس جامدًا أو متحجّرًا، وهو قابل للنّقاش والتّغيير والتّعديل وفقًا لحاجة الثّورة، فأعمال "لينين" لم تكن كتبًا وصفيّة، واللّينينيّ الجيّد ليس من يقتبس دائمًا من "لينين"، أنّما يجب عليه تحليل تجاربه وخبراته، وفهم أساليبه لتسهيل مهمّة تطوير الأشكال التّنظيميّة الّتي نحتاج كي يستمرّ النّضال والكفاح والثّورة ضدّ كلّ أنواع الظّلم.

لقد تأسّس تحت قيادته الحكيمة هيكل جديد للدّولة مرتكز على السّوفييتات، وكان "لينين" على رأس الحكومة الاشتراكيّة الأولى الجديدة بعيد سقوط القيصريّة. وعلى الرّغم من اتّهامه بالسّعي إلى السّلطة فهو لم يوافق على هذه الوظيفة في البداية، وحاول أن يقنع "تروتسكي" على تولّيها، ليهب هو طاقاته لتنظيم الحزب، ولكنّ "تروتسكي" رفض المنصب أيضًا. وكان "لينين" آخر من يمكن أن يؤمن بتصدير الثّورة رغم كونه على يقين بأنّه لا أمل في الثّورة الاشتراكيّة في روسيا إلّا إذا انتشرت بسرعة فائقة إلى بقيّة دول العالم. وقد كتب في كانون الأوّل سنة (1917) "إنّ الثّورة الاشتراكيّة الّتي بدأت في روسيا، هي فقط البداية للثّورة الاشتراكيّة العالميّة". ولكنّه في آخر حديث له أمام الأمميّة الشّيوعيّة في سنة (1922) حذّر "من خطورة فرض التّجربة الرّوسيّة على البلدان الأخرى، فعلى الثّوريّين في كلّ مكان أن يطبّقوا أسس مبادئهم حسب الظّروف المحدّدة لتجاربهم الفعليّة".

بحلول سنة (1922) كان "لينين" مريضًا جدًّا، حيث كان يعاني من الإرهاق الشّديد بسبب إصابته إثر محاولة اغتياله الّتي تركته في حالة صحيّة صعبة للغاية. وقد أيقن أنه لن يعيش ليرشد الثّورة خلال مراحلها الصّعبة. ومع ذلك كان كقائد أمين لمبادئ حزبه وأهداف ثورته السّامية والعظمى، كان دائم القلق حول كيفيّة تطوير الثّورة. هذا في ظلّ انكماش الطّبقة العاملة، وتمدّد البيروقراطيّة داخل الحزب وخارجه، وقد تبيّن بعض الطّرق الغريبة عن ديمقراطيّة الطّبقة العاملة، وكان إلى جانب ذلك أيضًا تطوّر خطير طرأ على التّوجهات القوميّة.

قد يكون "لينين" ارتكب بعض الأخطاء، وكان قاسيًا في بعض الأحيان، ولكنّه كان كذلك من أجل مصلحة القضيّة وليس من أجل أن يملأ جيوبه أو لمصلحته الشّخصيّة، وقد ناضل بدون كلل أو ملل من أجل القضيّة الّتي آمن بها. وفوق كلّ ذلك لعب دورًا محوريًّا وقياديًّا في ثورة أكتوبر العظمى. وقد فتحت الثّورة الرّوسيّة، قبل أن يخمدها "ستالين" الباب أمام عالم جديد، عالم يكون فيه الإنتاج من أجل احتياجات البشر وليس من أجل الرّبح، عالم تُتّخذ فيه القرارات عن طريق أولئك الّذين يعملون وليس الّذين يملكون، عالم يتعاون فيه جميع البشر من جميع الأجناس والجنسيّات بدلاً من محاربة بعضهم البعض، عالم لا تعرف فيه الأجيال الجديدة شيئًا عن الفقر والحروب إلّا عن طريق دروس التّاريخ. إنّ روح "لينين" الأمينة والجداليّة كانت على النقيض تمامًا من الرّضا الذّاتي والغطرسة اللذيْن ميّزا الدّولة الرّوسيّة تحت حكم ستالين ومن خلفه في الحكم.