في أسطورة الصين «الممانِعة»


جلبير الأشقر
2021 / 3 / 31 - 15:32     

منذ أشهر وأمين عام «حزب الله» اللبناني يردّ على الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف بلبنان منذ عامين ببرنامج اقتصادي أوحد، يتلخّص بشعار: إلى الشرق درْ! والحقيقة أن هذه الفكرة لا تعدو كونها ستاراً شفّافاً لغياب رؤية اقتصادية لدى الحزب تختلف عن السياسات النيوليبرالية والرأسمالية الفاحشة التي ساهم في إدارتها من موقعه كشريك في الحكومات المتتالية منذ سنوات، لاسيما أنه بات صاحب النفوذ الأكبر في الدولة اللبنانية بعد أن تعاظم نفوذ طهران الإقليمي إلى حدّ سيطرتها على دمشق بالتنافس مع موسكو. أما فحوى الحلّ السحري الذي تلخّصه الدعوة إلى الانعطاف نحو الشرق، فهو أن الصين هي باب الخلاص، وكأن بكين تنتظر بفارغ الصبر فرصة تقديم مليارات الدولارات التي يقتضيها تعويم الاقتصاد اللبناني لوجه الله وحسب، بدون مقابل يفضي إلى هيمنتها على اقتصاد البلاد كما حلّ بدولة سريلانكا على سبيل المثال، التي ترزح تحت وطأة ديونها إلى الصين بما اضطرّها إلى تمليك شركة صينية ثاني موانئ البلاد لمدة 99 عاماً.
وقد باتت الصين تصوَّر في أوساط «الممانعة» التي تشمل بعض المقتنعين بسذاجة بأن محرّك إيران هو عداؤها للصهيونية وليس مطامعها التوسّعية الإقليمية التي تغلّفها بالمزايدة في الشأن الإسرائيلي، باتت تصوَّر وكأنها هي بالذات دولة «ممانِعة». وقد تزايد هذا الوهم بعد توقيع اتفاقية التعاون الاقتصادي لمدة 25 عاماً بين إيران والصين يوم السبت الماضي. كل هذا يتم بالطبع مع إغفال مطبَق لكون الصين تمارس أبشع اضطهاد للمسلمين في زمننا الراهن وتدعم أنظمة اضطهادية أخرى كالدكتاتورية العسكرية في ميانمار التي شرّدت شعب الروهينجيا المسلم وباتت تفتك بانتفاضة سكّان البلاد على طريقة ما فعله نظام آل الأسد بالانتفاضة الشعبية السورية قبل عشر سنوات.
لكنّ الإنصاف يقتضي أن نذكّر هنا بأن سائر الدول ذات أغلبية مسلمة، والدول العربية على الأخص، لا تختلف عن إيران في تغافلها عن عداء الصين للمسلمين ضمن حدودها ولدى جيرانها. وقد احتفت الدول العربية بوزير الخارجية الصيني عندما زارها مؤخراً بدون أي إشارة إلى مصير المسلمين في الصين، اللهمّ سوى ما نقلته وكالة الأنباء الصينية (شينخوا) يوم الخميس الماضي من أن وليّ العهد السعودي، محمّد بن سلمان، «قال إن المملكة العربية السعودية تدعم بقوة الموقف المشروع للصين بشأن القضايا المتعلقة بشينجيانغ وهونغ كونغ، وتعارض التدخل في الشؤون الداخلية للصين تحت أي ذريعة، وترفض محاولة بعض الأطراف زرع بذور الفتنة بين الصين والعالم الإسلامي».


لكنّ التغافل الأكبر لدى «الممانعين» إنما يتعلّق بالعلاقات بين الصين وإسرائيل، وهي علاقات وثيقة جداً شأنها في ذلك شأن علاقات روسيا، حبيبة «الممانعين الأخرى» بالدولة الصهيونية. فإن الصين هي ثاني مستهلك للمنتوجات الإسرائيلية بعد الولايات المتحدة، تستورد منها بما تفوق كلفته 4 مليارات من الدولارات سنوياً، أي ما يناهز نصف قيمة الصادرات الإيرانية إلى الصين مع فارق نوعي هو أن النفط يشكّل الحصة الأكبر من هذه الأخيرة بينما تغلب المنتجات التكنولوجية على الصادرات الإسرائيلية. والأخطر من ذلك بكثير أن الصين وظّفت ما يفوق 15 مليار دولار في إسرائيل، معظمها في قطاع التكنولوجيات المتقدّمة.
فقد اشترت شركة «هواوي» (Huawei) الصينية شركة «شبكات توغا» الإسرائيلية التي تحوّلت إلى مركز أبحاث وتطوير للشركة العملاقة الصينية في قطاع معدّات الاتصالات. هذا وتتسابق أعظم الشركات الصينية وأكثرها تقدماً في المجال التكنولوجي (علي بابا، والصينية الكيميائية كيم تشاينا، وكوانغ تشي، وليجند، ولينوفو، وشياومي) على التوظيف في إسرائيل، خاصة في مجالات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السُحابية ونصف الناقلات (التي تسمّى أيضاً «شبه الموصلات») وكلّها قطاعات بالغة الأهمية ليس اقتصادياً وحسب، بل استراتيجياً وعسكرياً في المقام الأول.
والطريف في الأمر أن الضغوطات الأمريكية، التي تعاظمت في عهد دونالد ترامب بعدما شنّ حرباً تجارية وتكنولوجية على الصين، لم تستطع قطع التعاون بين هذه الأخيرة وإسرائيل، بالرغم من أن ترامب ذهب في التواطؤ مع الصهيونية أبعد من أي رئيس سبقه في البيت الأبيض. بل بالعكس، فقد ازداد تصدير إسرائيل لنصف الناقلات إلى الصين بنسبة 80 بالمئة في عام 2018. والنتيجة أن عهد ترامب انتهى وديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، يحذّر إسرائيل في نهاية العام الماضي من أن تعاونها مع الصين في حقل التكنولوجيات ذات الاستخدامين المدني والعسكري من شأنه أن يشكّل خطراً على أمن الولايات المتحدة.
هذا وقد قامت شركة صينية ببناء مرفأ جديد في ميناء حيفا بتجهيزات تكنولوجية حديثة، على مقربة من مرسى الغوّاصات الإسرائيلية المزوّدة بالقدرة النووية، وسوف تُشرف الشركة الصينية على ما بنته لمدة 25 عاماً. هذا الأمر على الأقل لا شك في أن أمين عام «حزب الله» يعرفه تماماً، وهو الذي صرّح بعد فاجعة مرفأ بيروت أنه أكثر درياناً بما يدور في ميناء حيفا مما في ميناء العاصمة اللبنانية.