شفافية الدولة الاستبدادية


حسن مدن
2021 / 3 / 29 - 11:40     

عنوان رواية جورج أورويل "1984" كان تنويعًا ذكيًا على السنة التي كتب فيها أورويل روايته ونشرها، وهي سنة 1948، حيث أراد تخيّل ماذا ستفعله الدولة في الفرد بعد نحو أربعين عاما.
حين انتهى أورويل من كتابة الرواية وأعاد قراءتها شعر بالحزن والإحباط، لا بل واليأس، وقال فيها قولته الشهيرة: "كانت فكرة جيدة، لكني أفسدتها". لكن هذه الرواية التي أحزنته ما انفكت تحملنا على العودة إليها مراراً، فتدوّخ رؤوسنا، فهي حققت نجاحًا منقطع النظير، وشهد الكاتب نفسه بعض هذا النجاح، وظلّ النقاد والدارسون يعودون إليها، فيرون فيها ما كان كاتبها قد أراد قوله من نقد للدولة الاستبدادية .
سيصّك هؤلاء الدارسون مصطلح "العالم الأورولي" نسبة إلى جورج أورويل نفسه، وهم يتحدثون عما تفعله الدولة الاستبدادية الحديثة من هيمنة على أذهان البشر وأرواحهم . والتفريق واجب بين صورة الدولة الاستبدادية التي نعرفها في الشرق، التي حملت كارل ماركس على التحدث في أحد نصوصه الشهيرة عن "الاستبداد الشرقي"، وبين الدولة الاستبدادية المعاصرة في الغرب التي ربما لا تحتاج، دائمًا، إلى أقبية التعذيب وقوانين الطوارئ .
فهذه الدولة الأخيرة تحكم الخناق على المجتمع كله من خلال أدوات "مخملية"، يلعب الإعلام وأجهزة الاتصال الحديثة دورًا مهولًا في تكييف الرأي العام كله وفق النموذج الذي تشتهيه الطبقة المسيطرة التي تمسك بمفاصل وأجهزة الدولة وتوظفها لخدمة مصالحها.
لن يهّم هذه الطبقة المسيطرة بعد ذاك أن يكون الحزب الحاكم جمهوريًا أو ديمقراطيًا، ديمقراطيًاً مسيحيًاً أو ديمقراطيًا اشتراكيًا. التسمية هنا غير ذات أهمية، ما دامت المفاصل الرئيسة للاقتصاد و"مواقع الهيمنة"، كما يدعوها غرامشي، تحت القبضة المحكمة .
في السنوات الأخيرة شاع مصطلح الشفافية في وسائل الإعلام المختلفة، وفي الخطاب السياسي للحكومات والأحزاب والقوى السياسية وحتى الأفراد. ولم تعد حتى أشد الأنظمة توتاليتارية وقمعية تتردد في استخدام هذا المصطلح للتعبير عن رغبتها في جعل الفرد على صلة بالبيانات والمعلومات والوقائع. وهذه المفردة القاموسية المجردة غدت مصطلحًا سياسيًا يقصد به وضع سلوك الحكومات والهيئات تحت الضوء، بحيث لا تعود هناك أسرار أو حواجز تعوق تدفق المعلومات.
لكن ميلان كونديرا يمسك بمفارقة مُرّة، حين يزيح الدثار الذي أحيطت به كلمة الشفافية، ملاحظًا التناقض الصارخ بين حقيقة أن شفافية الحياة الشخصية للفرد هي المنتهكة، فيما تبقى شؤون الدولة مكتومة وعصية على الكشف أو المعرفة. إن شؤون الدولة من حيث هي أمر أو شأن عام تظلّ مجهولة وسرية وغير مفصح عنها، أما الإنسان الفرد فإنه مطالب بكشف كل التفاصيل التي تخصّ حياته من وجوهها المختلفة.
ويرى كونديرا أن الرغبة في انتهاك حميمية الآخرين التي هي شكل دائم من أشكال العدوانية، صارت اليوم جزءً من المؤسسات عبر البطاقات والاستمارات التي علينا أن نملأها بالبيانات التفصيلية في البنك والمستشفى والمطار ومكان العمل أو عند انجاز أي معاملة ذات شأن أو غير ذات شأن، أما الدولة من حيث هي مؤسسات وهيئات وأساليب إدارة فإنها تظل مُحاطة بالحماية المكينة التي ليس بوسع أية آلية من آليات الشفافية اختراقها.