الذكرى 150 لكمونة باريس : أفق كمونة باريس - الثورتان البلشفيّة و الصينيّة كإمتداد و تعميق لها مقتطف من كتاب بوب أفاكيان - ماتت الشيوعية الزائفة ... عاشت الشيوعية الحقيقية ! -


شادي الشماوي
2021 / 3 / 28 - 00:22     

الذكرى 150 لكمونة باريس : أفق كمونة باريس - الثورتان البلشفيّة و الصينيّة كإمتداد و تعميق لها
مقتطف من كتاب بوب أفاكيان " ماتت الشيوعية الزائفة ... عاشت الشيوعية الحقيقية ! "

( مكتبة الحوار المتمدّن – ترجمة شادي الشماوي )


بعد هذا ، لنعد إلى نظرة وثيقة اللجنة لما لخّصه ماركس بخصوص كمونة باريس فى مؤلّفه العظيم " الحرب الأهلية فى فرنسا " و خاصة فى ما يتعلّق بإلغاء الجيش القائم و تعويضه بالشعب المسلّح و أنّ كلّ موظّفى الكمونة قد وقع إنتخابهم و كان يمكن إقالتهم بأصوات الشعب ، عبر الإقتراع السريّ العام . و هذه الأجزاء من وثيقة اللجنة تذكّر كذلك بكيف أنّ لينين دافع عن تلك الدروس الأساسيّة فى " الدولة و الثورة " ( و بعض الكتابات الأخرى فى الفترة السابقة بالضبط لثورة أكتوبر و فى الفترة اللاحقة لها ) ، لكن بعد ذلك ، حتّى فى ظلّ لينين ، تحاجج وثيقة اللجنة بدأ الإبتعاد الأساسيّ عن هذا الطريق ( الفقرات 2-1و 6-6 ) .
أوّلا ، لا بدّ من " نظرة تاريخيّة عامة " . و هنا علينا أن ننبّه مرّة أخرى إلى أنّ فى تجربة الإتّحاد السوفياتيّ ( و تجربة الإشتراكيّة عموما إلى الآن ) ، لم تستطع فعليّا أن تطبّق تماما السياسات التى إنتهجتها كمونة باريس ( و لدرجة كبيرة ، فى البدايات الأولى من الجمهوريّة السوفياتيّة ) وهي سياسات أولاها ماركس الأهمّية الحاسمة . بالتركيز على مظهر مفتاح من هذا ، نرى أنّه لم يكن من الممكن إلغاء الجيش القائم كمؤسّسة و تعويضه بالجماهير المسلّحة . و هذا يرتبط إلى درجة كبيرة بما قد تحدّثنا عنه آنفا : إنّ الثروات التى أدّت إلى الإشتراكيّة لم تحدث فى البلدان الرأسماليّة المتطوّرة صناعيّا حيث البروليتاريا تمثّل غالبيّة السكّان ( أو على الأقلّ أوسع طبقة ) كما توقّع ماركس و إنجلز ، بل حدثت فى البلدان المتخلّفة تكنولوجيّا و ذات سكّان فلاّحين كثيفي العدد و حيث تمثّل البروليتاريا أقلّية صغيرة ، و لم تحصل تلك الثورات فى عدد من البلدان فى آن ، و إنّما تقريبا فى بلد واحد كلّ مرّة ( بغضّ النظر عن تجربة بلدان أوروبا الشرقيّة نتيجة الحرب العالميّة الثانية ، حيث وجدت بعض التحويلات فى مظاهر العلاقات الإجتماعيّة لكن لم يُوجد قط تحويل إشتراكيّ حقيقيّ للمجتمع ) : و عاشت البلدان الإشتراكيّة فى عالم لا تزال تهيمن عليه الإمبريالية .

أمّا بالنسبة لسبب عدم قدرة البلدان الإشتراكيّة إلى حدّ الآن ( وهو من المحتمل من غير الممكن لبعض الوقت فى المستقبل) على أن تلغي الجيش القائم و أن تعوّضه بالجماهير المسلّحة ككلّ ، فإنّنا نستطيع تلخيصه فى الآتي : سيتطلّب القيام بذلك تقدّما فى تحويل علاقات الإنتاج (و العلاقات الإجتماعيّة عموما ) و كذلك تقدّما فى تطوّر قوى الإنتاج إلى درجة يصير معها بإمكان الجماهير جميعها ، و ليس فقط جزء صغير منها ، أن تتنظّم و تتمرّس على الشؤون العسكريّة على مستوى يكون كافيا حقّا للتعاطى ليس مع المعادين للثورة " المحليّين " فحسب و إنّما ، أبعد من ذلك ، للتعاطى مع القوى العسكريّة للقوى الإمبرياليّة المتبقّية و الدول الرجعيّة الأخرى . عندما يتمّ بلوغ هذه الدرجة ، لن توجد بعد فعليّا حاجة إلى قطاع من الجماهير ( جسم خاص من الشعب المسلّح ) يتخصّص فى و يسخّر نشاطه الأساسيّ للشؤون العسكريّة و حينذاك يمكن للجيش القائم أن يُلغي و يُعوّض بالجماهير المسلّحة ، غير أنّه مرّة أخرى ، ما من دولة إشتراكيّة من الدول التى قد وُجدت إلى الآن قد توصّلت أو حتّى إقتربت ، فى أيّ مكان ، من هذه النقطة .

فى كتاباته بصدد كمونة باريس ، لم تكن لماركس ( و لينين عندما كتب " الدولة و الثورة " قبل ثورة أكتوبر ) تلك التجربة ليلخّصاها . و إلى درجة هامة ، بينما من الواجب الدفاع عن التوجّه الجوهريّ فى تلك المؤلّفات فى ما يتّصل بدكتاتوريّة البروليتاريا ، فإنّ عديد المظاهر الخصوصيّة لتحاليلها تعكس فهما غير كافى للنضال الشرس و المعقّد و المديد من أجل تحقيق التحويل الشيوعيّ للمجتمع ( و العالم ) بعد تركيز دكتاتوريّة البروليتاريا فى بلد واحد أو فى عدّة بلدان . و مع ذلك ، فإنّ كمونة باريس دامت شهرين لا غير و فقط فى أجزاء من فرنسا ( و لو أنّها أجزاء هامّة جدّا ) و ليس فى البلاد بأسرها .
و لصب ّ الإنتباه بصفة إستفزازية نوعا ما ، على الحدود التاريخية لكمونة باريس ، من المفيد إعادة ما صغته فى كتاب
" الديمقراطية : أليس بوسعنا أن ننجز أفضل من ذلك؟ " :

" بهذا المضمار، جديرة بالذكر هي الحجّة التى يقدّمها جيمس ميلار فى ما يتعلّق بنظرة ماركس لكمونة باريس فى1871: متمرّدو 1871 كانوا يشبهون بصفة لافتة للنظر المتمرّدين الباريسيّين فى 1792 و 1830 و1848 : حرفيّين و عمّال مياومين و صنّاع و منتجين خواص و محترفين و فقط بعض العاملين بالصناعة المعمليّة الجديدة . و مع أنّه يمكن النظر إلى كمونة باريس كتطوّر أخير للثقافة الشعبيّة الفرنسيّة المبنيّة على سياسات ساعد روسو فى تحديدها ، قبل ثلاثة أجيال ، فإنّه من العسير جدّا ، و خاصة على ضوء التاريخ المعاصر ، أن نجد فيها رائدا لثورة بروليتاريّة عالميّة . "

( ميلار ، " روسو " ، صفحة 260-261) .

" بينما تعدّ ملاحظات ميلار وحيدة الجانب و جملته الأخيرة بالخصوص خاطئة ( إنحياز ميلار البرجوازيّ هو الذى جعل من الصعب عليه أن يجد فى كمونة باريس 1871 " رائدا لثورة بروليتاريّة عالميّة " ) لكن تعليقاته ليست دون أيّة صلوحيّة إذ هي تعكس أنّ حتّى كمونة باريس هذه تجسّد كلاّ من العناصر القديمة ، الثورة البرجوازيّة و كذلك العناصر الجديدة ، الثورة البروليتاريّة و أنّه لم يكن بإمكانها ، فى حدّ ذاتها ، أن تستخدم كنموذج تام التطوّر لدولة بروليتاريّة ( خاصة نموذجا للمراحل الأولى من الثورة البروليتاريّة العالميّة و تحاصره دول برجوازيّة قويّة ". ( أفاكيان ، " الديمقراطية ..."، صفحات 38-39 ، الهامش 63 ) .

لا يمكننا أن نعقد مقارنة مثاليّة و ميتافيزيقيّة و نؤكد على أنّ على الواقع أن ينحني ليتطابق مع ما تصوّره ماركس ( ولينين، قبل ثورة أكتوبر بوجه خاص ) على ضوء تجربة كمونة باريس الهامة جدّا و لكن أيضا المحدودة جدّا . إذا فعلنا ذلك ، يمكن أيضا أن نشدّد على أن تقفز البروليتاريا فى الحال من الرأسماليّة إلى الشيوعيّة التامة و بالتالى تجنّب كلّ التناقضات المتضمّنة فى المرحلة الإنتقاليّة الإشتراكيّة و دكتاتوريّة البروليتاريا ! ما علينا أن نشدّد عليه هو تقييم الخطّ و الممارسة الرائدين للدول التى حصلت فيها مثل تلك الثورات لنرى ما إذا كانت فعلا متناغمة مع التوجّه الجوهريّ الذى سطّره ماركس من خلال تلخيصه لكمونة باريس و ما إذا كانت الخطوط و السياسات و المؤسّسات و الأفكار التى ميّزت تلك المجتمعات قد قادت بصفة شاملة إلى إتّجاه تحويل المجتمع نحو إلغاء الطبقات و معها الدولة ( و الحزب ) . و إنطلاقا من هذه المقاييس ، ينبغى لنا من جديد أن نعيد تأكيد " الفهم الماركسيّ- اللينينيّ التقليديّ "بأنّ الإتحّاد السوفياتي ، فى ظلّ قيادة لينين و ستالين ، و الصين ، فى ظلّ قيادة ماو ، قد مثّلا مواصلة لكمونة باريس.

نقطة أخرى يتعيّن تفحّصها هنا وهي طريقة أخرى فيها توقّعات لينين فى ما يخّص طابع الثورة البروليتاريّة لم يتمّ تأكيدها كلّيا . ففى السنة الأولى بعد ثورة أكتوبر ، كتب لينين :

" مصيبة الثورات الماضية أنّ الحماسة الثوريّة عند الجماهير ، هذه الحماسة التى كانت تدعم توتّرها و تبعث فيها القوّة لقمع عناصر التفسخ بلا رحمة ، إنّما كانت لا تدوم طويلا . و السبب الإجتماعيّ ، أي السبب الطبقيّ لهذه الرخاوة فى الحماسة الثوريّة عند الجماهير ، إنّما كان ضعف البروليتاريا ، القادرة وحدها ( إذا كانت بما يكفى من العدد و الوعي و الطاعة [ الأفضل فى الترجمة يكون الإنضباط ، حسب رأينا - المرتجم ] ) على حشد أغلبيّة الشغيلة و المستثمَرين ( أغلبيّة الفقراء ، إذا تكلّمنا بلغة أبسط و أكثر شعبيّة ) و الإحتفاظ بالسلطة زمنا طويلا كافيا لكي تقمع نهائيا جميع المستثمِرِين و جميع عناصر التفسّخ على حدّ سواء .

إنّ هذه التجربة التاريخيّة التى كدّستها جميع الثورات ، إنّ هذه العبرة – الإقتصاديّة و السياسيّة – التى يعطيها التاريخ العالميّ هي التى لخّصها ماركس فى صيغة وجيزة ، قاطعة ، دقيقة ، ناصعة : دكتاتورية البروليتاريا ."

( لينين ، " المهام الحالية أمام الحكومة السوفياتية "،" المختارات " في ثلاثة مجلّدات ، مجلد2 ، جزء 2 ، صفحة 277 ، التشديد فى النص الأصليّ ، دار التقدّم ، موسكو ، الطبعة العربية ) .

هنا كان لينين يقارن ثورة تقودها البروليتاريا و ثورات سابقة فيها لم تكن البروليتاريا قادرة على كسب قيادة النضال إلى حدود الإطاحة بالرأسماليّة و خوضه . لكن فى بعض المظاهر الهامة ، ما يقوله لينين هنا ، بشأن صعوبة الحفاظ على الحماس الثوريّ للجماهير ، قد بيّن أنّه ينطبق على الثورة البروليتاريّة عينها .

وهذا مرتبط بما مثّل السيرورة الفعليّة للثورة البروليتاريّة فى العالم حتّى الآن ( كما نوقشت أعلاه ) و ما يتّصل بها من أنّه تبيّن أنّ الإنتقال من الرأسماليّة إلى الشيوعيّة سيرورة طويلة الأمد و معقّدة و متعرّجة أكثر بكثير ممّا كان قد توقّعه سابقا ليس ماركس و إنجلز فحسب ، بل كذلك لينين ذاته قبل ثورة أكتوبر و فى الفترة الموالية لها بالضبط ( فى بداية العشرينات و فى السنوات الأخيرة من حياته ، واجه لينين بصورة شاملة أكثر مسألة أنّ من المحتمل جدّا أنّه سيكون على الثورة السوفياتيّة أن " تمضى لوحدها " لفترة من الزمن ) .

و بدوره ، كلّ هذا وثيق الإرتباط بكون هنالك طابع يشبه الموجة للصراع الطبقيّ فى ظلّ الإشتراكيّة و بوجه خاص طابع يشبه الموجة للإنتفاضات الجماهيريّة دفاعا عن دكتاتوريّة البروليتاريا و دفعا للثورة إلى الأمام فى ظلّ هذه الدكتاتوريّة . و بالعودة إلى موقف لينين حول الحفاظ على الطاقة و الحماس الجماهيريّين ، يمكن وضع المسألة على هذا النحو : كما إنتهى إليه الأمر ، مع المرحلة الإنتقاليّة الإشتراكيّة و دكتاتورية البروليتاريا الدائمة أكثر ممّا تمّ التوقّع و مع الثورات الإشتراكيّة الأولى التى لم تتّبع بثورات أخرى فى المجتمعات الأكثر تقدّما تقنيّا و مع تواصل وجود الدول الإشتراكيّة فى وضع محاصرة إمبرياليّة ، مع كلّ هذه العوامل التى ناقشنا ، من غير الواقعيّ توقّع ، و لم يكن الحال أنّ إستطاعت الجماهير أن تحافظ على درجة عالية و حادة من الحماس و الطاقة الثوريّين على قاعدة مستمرّة . فى الواقع ، توقّع أنّ تستطيع ذلك متناقض ليس مع التجربة فحسب بل أيضا متناقض مع مبادئ الجدليّة .
نظرا لكافة طبيعة سيرورة الإنتقال المتناقضة من الرأسماليّة إلى الشيوعيّة عالميّا و كجزء من هذه الطبيعة المتناقضة ، فإنّ دور الجماهير كحاكمة للمجتمع و كمالكة لوسائل الإنتاج فى ظلّ الإشتراكيّة أمر واقعيّ لكنّه غير مطلق ( إنّه نسبيّ و متناقض بحدّة ) و فى آن تُعبّر عنه مباشرة مساهمتها الخاصة فى كلّ مجالات المجتمع و بصفة غير مباشرة تُعبّر عنه وسائل عدّة ، و فى المصاف الأوّل الدولة و الحزب الطليعيّ .

مرّة أخرى ، ليس بوسع أيّة مقاربة شكلانيّة ( أيّ تأكيد على الديمقراطيّة الشكليّة كجوهر المسألة ) حتّى أن تعالج بجديّة هذا التناقض ، ناهيك عن حلّه . و التشديد على مثل هذه المقاربة هو فعلا عمل يتّفق مع مبادئ الديمقراطيّة البرجوازية و مع مصالح البرجوازية فى مهاجمة دكتاتورية البروليتاريا و تقويضها تحديدا على ذلك الأساس ذلك أنّه لا يتماشى ، فى جميع النواحي الهامة ، و مبادئ الديمقراطيّة الشكليّة و أنّه بالتالى ، يمثّل نقضا للديمقراطيّة ، حتّى بالنسبة للذين تمارس بإسمهم .

و لنسلّط الضوء على مزيد النقاط الخاصة بهذا الموضوع .

تقول الوثيقة : " هذا البرنامج العام لإفتكاك السلطة أنجزه مندوبو المؤتمر الثاني لسوفياتات عمّال و جنود عموم روسيا المنعقد فى 25-26 أكتوبر 1917 " ( فقرة 5-2) .

بيد أنّه من المهمّ ملاحظة أنّ البلاشفة لم يترقّبوا هذا المؤتمر ليفتكّوا السلطة فقد شرعوا فى الإنتفاضة المسلّحة قبل هذا المؤتمر . و مثلما يُسرد فى " تاريخ الحزب الشيوعي للإتحاد السوفياتي ( البلشفي) "، فإنّ مؤتمر سوفيتات عموم روسيا إفتُتح " حين كانت بعدُ إنتفاضة بتروغراد فى تدفّق تام للإنتصار و قد صارت السلطة فى العاصمة فعليّا بأيدى سوفيات بتروغراد " ( " تاريخ الحزب الشيوعي للإتحاد السوفياتي ( البلشفي ) " ، الباب السابع ، الجزء 6 ، باريس 1971 ، نشر نورمان بيتون ) . و قد عارض تروتسكى و آخرون ذلك واقفين على المسألة الشكليّة أنّه ينبغى على الإنتفاضة المسلّحة أن يعلنها مؤتمر سوفياتات عموم روسيا . و يرتبط كلّ هذا بالنقطة التى عرضنا آنفا ( فى ملخّص الإستنتاجات العامة ) حول كيف أن التشديد على الديمقراطيّة الشكليّة الذى يُميّز وثيقة اللجنة سيؤدى منطقيّا إلى إعلان أنّ الإنتفاضة المسلّحة التى قادها البلاشفة خرق للديمقراطيّة و إخفاق فى التعويل على الجماهير ، من خلال مؤسّساتها الممثّلة ، فى القيام بإفتكاك السلطة . و يلتقى هذا بصورة كبيرة مع الحجج التى قدّمها تروتسكي آنذاك ، و لئن تمّ الإستماع إلى تلك الحجج ، كان من المحتمل جدّا أن تجهض الإنتفاضة المسلّحة و عندئذ لم تكن لتوجد قط ثورة أكتوبر نتجادل بشأنها .

تعتقد وثيقة اللجنة أنّ القرار البلشفيّ الخاص بالإنسحاب من المجلس التأسيسيّ " كان ذلك مبرّرا بمعنى أنّ سلطة السوفيات التى إنبثقت عن الثورة كانت تمثّل حقيقة الإرادة السياسيّة للغالبيّة العظمى من الشعب ". و تقول كان من المبرّر حينذاك حلّ المجلس التأسيسيّ بقرار من اللجنة المركزيّة لسوفياتات عموم روسيا وهو قرار إتّخذ بمبادرة من البلاشفة "( فقرة 5-4 ) .
لا حظوا جيّدا : " كانت تمثّل حقيقة الإرادة السياسيّة للغالبيّة العظمى من الشعب " ( هذا صحيح و كما جرى التشديد عليه سابقا ، فإنّ هذا ينطبق كذلك على تنفيذ الإنتفاضة المسلّحة ، حتّى و إن لم يكن ذلك قد أُنجز بصرامة بقرار مؤتمر سوفياتات عموم روسيا أو بالموافقة الشكليّة لغالبيّة الجماهير ، من خلال أجهزتها المنتخبة . و بالفعل هذا هو المقياس :أن يكون الأمر أو لا يكون متطابقا مع المصالح الجوهريّة و أيضا مع " الإدارة السياسيّة " لجماهير الشعب هو لبّ المسألة وهو إلى حدّ بعيد حاسم أكثر من مسائل الديمقراطيّة الشكليّة . لكن هذا المقياس تحديدا الذى " تنساه " الوثيقة ( وتتخلّى عنه و تعوّضه بمقياس الديمقراطيّة الشكليّة ) فى " إعادة فحصها " للتجربة التاريخيّة لدكتاتوريّة البروليتاريا ( و الشيء ذاته ، فى ما يخصّ " تاريخ الحركة الشيوعيّة بأسره و المفاهيم الأساسيّة التى رفعنا عاليا إلى الآن ".

ثم تقول الوثيقة: " إلاّ أن ما كان يتطوّر كنظام سياسيّ جديد كان ينزلق تدريجيّا تحت تحكم الحزب الشيوعيّ "( فقرة 5-7).

هنا تبدأ الحجّة حول " دكتاتوريّة الحزب " فى التحوّل أكثر إلى أوج التفتّح . و تستمّر الوثيقة لتؤكد " أعلن لينين بصراحة أنّ دور الحزب بإختصار " إثر سنتين و نصف السنة من السلطة السوفياتيّة ، برزنا بالأمميّة الشيوعيّة و قلنا للعالم إنّ دكتاتوريّة البروليتاريا لن تعمل سوى من خلال الحزب الشيوعيّ ." ( الأعمال الكاملة ، مجلد 32 ، صفحة 208، الطبعة الفرنسية ) . الآن إكتملت الدائرة . إنتهى البرنامج العمليّ لتركيز دكتاتورية البروليتاريا الذى إبتدأ بشعار جذاب " كلّ السلطة للسوفيات " ، إنتهى إلى واقع أنّ دكتاتوريّة البروليتاريا تمارس من خلال الحزب الشيوعيّ حيث صارت السوفياتات مجرّد دواليب فى الآلة . و حتّى إن كان نقد كاوتسكى نابع من زاوية نظر البرلمانيّة البرجوازيّة ، فى الواقع ، تبقى المسألة أنّ في الوضع العالميّ وقتذاك لم يظهر نظام سياسيّ جديد نوعيّا تُصوّر فى دكتاتوريّة بروليتاريا حقيقيّة ، لم يظهر كواقع تاريخيّ إذ ليست الطبقة و إنّما حزبها هو الذى يحكم فعلا ." ( فقرة 5-8) .

و بالفعل ، بعض المزاعم و التشويهات المقدّمة هنا متعلّقة بالمسائل الأساسيّة لذا من الضروريّ بحثها بشيء من العمق .

أوّلا ، لا يمكننا أن ندع يمرّ التعبير الذى يبدو بريئا ألا وهو "حتّى و إن كان نقد كاوتسكى نابعا من زاوية نظر البرلمانيّة البرجوازيّة ". فى الحقيقة "حتّى و إن " هذه هي بالضبط النقطة هنا فمعارضة كاوتسكى لدكتاتوريّة البروليتاريا كما مورست فى ظلّ قيادة البلاشفة ، منذ زمن لينين فصاعدا ، كانت متّصلة كلّيا ب " البرلمانيّة البرجوازيّة " فقد كان بالذات موقف مثل هذه " البرلمانيّة " هو الذى أدّى بكاوتسكى إلى تحريف ما كانت عليه دكتاتوريّة البروليتاريا هذه و إلى معارضتها . و فى الجوهر ، هو نفس الموقف الذى يشى ( أو يشوّه ) بتحريف كافة التجربة التاريخيّة لدكتاتوريّة البروليتاريا فى هذه الوثيقة . و حقّا تتميّز هذه الوثيقة بمنطق كاوتسكى من ألفها إلى يائها " حتّى و إن " كانت لا تعانق كاوتسكى بشكل مفتوح و تام .

و ينعكس هذا فى الإستعمال المحرّف و المشوّه لإستشهادات بلينين و ستالين فى هذا القسم من وثيقة اللجنة . فى الأوّل ، لننظر فى معالجة هذه الوثيقة لمواقف لينين حول المسألة الأساسيّة أنّ دكتاتوريّة البروليتاريا مثلما صرّح لينين بجلاء ، لن تنجح دون الدور القيادي للحزب الشيوعي .

فى نفس عمل لينين بالذات ( و على نفس الصفحة عينها ) الذى منه إقتطفت وثيقة اللجنة ، يوضّح لينين أنّ هذا لا يعنى أنّ الحزب يمارس الدكتاتوريّة عوضا عن البروليتريا أو أنّ الحزب منفصل بطريقة ما عن البروليتاريا فى ممارسته لهذه الدكتاتوريّة . و يوضح أنّ البروليتاريا هي التى تمارس الدكتاتوريّة غير أنّها لا تستطيع القيام بذلك دون قيادة الحزب . مرّة أخرى ، على نفس الصفحة المستشهد بها و عبر هذا العمل ( خطابات لينين فى المؤتمر العاشر للحزب ، فى مارس 1921) ، يشدّد لينين على انّها لنزعة فوضويّة و نقابوّية تلك التى لا تقدر على رؤية وحدة قيادة الحزب و ممارسة الجماهير البروليتاريّة للدكتاتوريّة و أنّ تُهما حول دكتاتوريّة الحزب تظهر فى إطار و إلى درجة معتبرة بسبب تأثير جوّ الإنحلال البرجوازيّ الصغير و من هنا وُجدت فى الجمهوريّة السوفياتيّة كنتيجة للحرب الأهليّة الطويلة و الإنخلاعات الضخمة و الإفلاس الإقتصادي الذى أفرزته تلك الحرب و فى إثرها ( لقد كان موقف عديد العمال و نظرتهم يضعفان تدريجيا فى تلك الظروف و كانت جماهير الفلاحين تفلس و لم تتم بعدُ إعادة تركيز العلاقات الإقتصادية بين العمّال و الفلاّحين و المدينة و الريف و لم تُعد صياغتها على قاعدة خطوط جديدة ) . ردّ لينين هذا على نقّاده حينذاك ينسحب بصفة جيّدة جدّا كردّ على مؤلّفى وثيقة اللجنة ، بعد سبعين سنة تقريبا .

أمّا فى ما يتّصل بموقف " صارت السوفياتات مجرّد أجهزة لنقل الحركة " فإنّه يبدو أنّ مؤلّفى الوثيقة يعتقدون أنّهم سجّلوا نقطة عميقة بإضافة " مجرّد " هنا . لكن كما شرح ذلك لينين ، لا وجود لأيّ شيء " مجرّد " حول ذلك . فقد اوضح، من جهة ، أنّ " الحزب يستوعب ، إذا جاز القول ، طليعة البروليتاريا ، و هذه الطليعة تطبّق دكتاتوريّة البروليتاريا " ( لينين : " عن النقابات " (مجموعة من المقالات و الخطب ) دار التقدم ، موسكو ، صفحة 405 ، ضمن خطاب "عن النقابات ، و عن الوضع الراهن ، و عن أخطاء الرفيق تروتسكي " ).

و يستشهد مؤلّفو هذه الوثيقة فعلا بهذا الموقف لدي لينين بيد أنّهم لا يدركون مغزاه إذ يبدو أنّهم جانبوا الأمر كثيرا بسبب إستعمال تشبيه " دواليب " بحيث أنّ بالنسبة لهم قليل الأهمّية أن يقول لينين أنّ السوفياتات تضطلع بوظائف الحكومة و أنّ هذه السوفياتات " مؤسّسات خاصة " وهي من " نوع جديد " ( لاحظوا ليست نفس المؤسّسات القديمة للمجتمع البرجوازيّ و إنّما تمثّل شكلا جديدا راديكاليّا من سلطة الدولة وهي تضطلع بوظائف الحكومة ) كيف و بأيّة نظرة يمكن حذف المغزى التاريخيّ لهذا؟

نعم ، يناقش لينين بصراحة مسألة أنّ : " البروليتاريا ، لا عندنا فقط ، فى بلد من أشدّ البلدان الرأسماليّة تخلّفا ، بل أيضا فى جميع البلدان الرأسماليّة الأخرى ، لا تزال متفرّقة ، و مهانة و مرشوّة هنا و هناك ( من قبل الإمبرياليّة على وجه الضبط فى مختلف البلدان ) إلى حدّ أنّه يستحيل على التنظيم الشامل الكليّ للبروليتاريا أن يحقّق الدكتاتوريّة مباشرة . فلا يمكن أن يحقّق الدكتاتوريّة غير الطليعة التى إستوعبت الطاقة الثوريّة للطبقة ( نفس المصدر السابق ، صفحة 406) .

ثم يستطرد لينين ليصوغ الموقف الجالب لسوء السمعة بأنّ " الحاصل أشبه بعدد من العجلات المسنّنة " و " يستحيل تحقيق الدكتاتوريّة بدون بضعة " أجهزة لنقل الحركة " من الطليعة إلى جمهور الطبقة الطليعيّة ومنها إلى جمهور الشغّيلة."
( نفس المصدر السابق ، صفحة 407).

هنا ليس بإستطاعة المرء سوى أن يتساءل : ما الخطأ فى هذا ؟ أين ، فى أيّ جزء من هذا ، يوجد فهم أنّ الحزب يمارس دكتاتوريّة البروليتاريا و وظائف الحكومة عوضا عن الجماهير ؟ الإعتراض الوحيد الذى يمكن إثارته و الذى أثارته فعلا وثيقة اللجنة هو أنّ لينين يشدّد على الدور القياديّ للحزب . بوسعكم أن تعارضوا هذا إذا أردتم ذلك ( و من المؤكّد أنّ البرجوازيّة و عديد المناشفة و الإشتراكيّين الديمقراطيّين و هلمجرا ، منذ زمن لينين فصاعدا ، قد عارضوا ذلك بعنف ) لكن أيّ إنسان يدّعى أنّه شيوعيّ و أنّه يدافع عن دكتاتوريّة البروليتاريا ينبغى عليه مبدئيّا أن يبيّن كيف يمكن بالفعل للجماهير أن تمارس دكتاتوريّة البروليتاريا و تحول دون إعادة تركيز الرأسمالية دون الدور القياديّ للحزب ، أي ، دون الدور القياديّ المؤسّساتي للحزب . الواحد هو نفسه الآخر : الإعتراف بالدور القياديّ قولا بينما يقع التأكيد على ألاّ يكون دورا قياديّا مؤسّساتيّا مفاده فى الواقع ، نفس الشيء شأنه شأن إنكار الدور القياديّ ككلّ . و سوف نرى كيف أنّ وثيقة اللجنة تهدف بالذات إلى أنّ من الأفضل بكثير أن تبقى الجماهير دون الدور القياديّ ( المؤسّساتي ) للحزب فى ظلّ الإشتراكيّة و كيف تخفق الوثيقة ببؤس – كما عليها أن تخفق – فى تبيان ذلك .

كي توضع هذه المسألة برمّتها الخاصة بدور السوفياتات ( و تنظيمات جماهيريّة أخرى ) فى علاقة بالحزب الشيوعي فى أفق أرحب و تاريخيّ أشمل ، من الضروريّ أن " نميط اللثام " عن كلّ هذا الشيء قليلا . و فى المصاف الأوّل ، و لو انّ السوفياتات ، بمعنى حقيقيّ و عميق ، كانت من إبداع الجماهير ، فإنّها لم تكن بحال مسألة إبداع جماهيريّ " نقيّ " أو " عفويّ " بنقاوة . كانت السوفياتات إفرازا للصراع الطبقيّ فيه كانت الجماهير متأثّرة بعدد من القوى السياسيّة المختلفة و منها البلاشفة و كذلك المناشفة و عدد من الآخرين . و فى صفوف السوفياتات ، منذ بدايتها ، وُجد صراع مستمرّ و عادة ضار بين ممثّلي مختلف التيّارات ممثّلة ، فى النهاية ، مصالحا طبقيّة مختلفة .

تعبير له دلالة بالغة عن هذا الصراع كان مسألة ما هو ، برغم كلّ شيء ، الدور السياسيّ للسوفياتات و أيّة سيرورة ستكون هذه السوفيتات رافدا من روافدها . لنطرح ذلك على نحو بسيط ، رأى البلاشفة فى السوفياتات وسيلة تنظيم الجماهير للإطاحة بالنظام القديم و تحطيم آلة الدولة القديمة و ممارسة دكتاتوريّة البروليتاريا بينما رفض المناشفة و الآخرون هذا و قاوموه ( رؤيتهم للسوفياتات ناجمة عن نظرتهم البرجوازيّة الصغيرة ) و حين قادوا أو أثّروا فى السوفياتات و إلى درجة قيامهم بذلك ، تمّ ذلك فى إتّجاه تحويلها إلى تنظيمات جماهيريّة موجّهة نحو الإشتراكيّة الديمقراطيّة و/ أو نحو برامج فوضويّة ، فى تعارض مع إفتكاك البروليتاريا سلطة الدولة و ممارستها لها . و قد إستمرّ الصراع حول هذه الإختلافات الجوهريّة داخل السوفياتات قبل و غلى حدّ بعيد إلى إنتفاضة أكتوبر و قد تواصل باشكال متنوّعة بعد إفتكاك السلطة .

صحيح أنّ لينين أقرّ ، إثر إفتكاك السلطة ، بالحاجة إلى تعديل فى دور السوفياتات و علاقة الحزب بها الشيء الذى إنعكس فى مواقف لينين التى تستشهد بها الوثيقة . بيد أنّ هذا ينبغى أن يُفهم فى إطار الأحداث الملموسة وقتذاك و كذلك أن يفهم بأفق تاريخيّ أشمل . مثلما سبق و أن لاحظنا ، كانت تلك وضعيّة حرب أهليّة غير باعثة على كثير من الأمل و بالتالى حتّى بالإنتصار فى تلك الحرب ، فهو وضع تمزّقات و إنخلاعات و تفكّكات ضخمة إقتصاديّا و سياسيّا . و فى هذه الظروف ، تطوّعت جملة من العناصر الأكثر تقدّما فى صفوف السوفياتات لتصير قادة و مفوّضين فى الجيش الأحمر الذى كان يتعيّن خلقه كلّيا تقريبا ، بين عشيّة و ضحاها و إندفعت فى معركة حاسمة ، فى مهام حلّ العقد حيث برزت أزمات متنوّعة و للمساهمة فى سحق المعادين للثورة و لمساعدة هيئات توزيع الغذاء و إدارة المصانع إلخ و للإلتحاق بالحزب و بنائه.

المسألة هي أنّ ، مع نهاية الحرب الأهليّة ، كانت لعشرات الآلاف من العمّال و الجنود و البحارة مواقع مسؤوليّة إداريّة ( و سياسة إستيعاب الجماهير المتقدّمة هذه إلى الجهاز الحاكم ستتواصل مع طرق التنظيم وفقا لمبادئ " الجماعيّة " و التصنيع فى ظلّ قيادة ستالين . لكن كان ذلك كذلك الواقع و كنتيجة لكلّ ذلك ، أنّ عديد أفضل القادة و أبعدهم نظرا ضمن البروليتاريا كانوا مجنّدين ليس بالسوفياتات بل فى مؤسّسات أخرى . و إلى جانب هذا ، وُجد تحوّل فى الوزن النسبيّ للسوفياتات بالمقارنة مع المؤسّسات الأخرى و منها بالخصوص الحزب ، فى الإدارة الفعليّة للمجتمع و الممارسة الشاملة لدكتاتوريّة البروليتاريا .

هذا ما يتحدّث عنه لينين فى مقارنته المعابة جدّا حول " الدواليب " و الأحزمة الناقلة للحركة و ما إلى ذلك و موقفه العام أكثر بصدد الدور القياديّ للحزب فى ممارسة دكتاتوريّة البروليتاريا .

إعتمادا على التجربة الواقعيّة لتلك الفترة ، يلخّص لينين أنّه من غير الممكن ممارسة هذه الدكتاتوريّة ببساطة من خلال السوفياتات دون قيادة حزبيّة ( مؤسّساتيّة ) متماسكة . غير أنّه لا يقول إنّ السوفياتات لن تلعب دورا حيويّا إذ هو يوضّح أنّه سيتواصل التعويل عليها لتضطلع بوظائف الحكومة . إنّه لا يقول إنّ بإمكان الحزب أن يعوّض السوفياتات ( أو تلك المؤسّسات الأخرى و التنظيمات الجماهيريّة ) فى ممارسة دكتاتوريّة البروليتاريا .(4)

هنا يبدو من الهام الحديث عن ممارسة أخرى من كمونة باريس شخّصها ماركس كمسألة ذات أهمّية حاسمة : " إستبدال " أو " إمكانية سحب الثقة " من القادة . مرّة أخرى ، أثبتت التجربة التاريخيّة لدكتاتوريّة البروليتاريا أنّه لم يكن من الممكن تطبيق هذا المبدأ بمعناه الصارم الذى تحدّث عنه ماركس كإستنتاج من كمونة باريس حيث كان الموظّفون تنتخبهم الجماهير و كانوا يخضعون إلى الإقالة من طرفها فى أيّ وقت .

ينبغى أن نقول توّا إنّ الأمر لا يذهب إلى لبّ الأشياء إذ كان للجماهير الحقّ الشكليّ فى تعويض القادة عندما تكون الظروف ( التناقضات ) الإجتماعيّة على نحو فيه بعض الناس أقلّ " تعويضيّة " من آخرين . و لنضرب مثالا على ذلك . إذا كان للجماهير فى الصين الإشتراكية حقّ التصويت لإقالة ماو تسى تونغ و إذا مارست ذلك الحقّ على نحو أحمق و صوّتت بإبعاده ، لواجهت المسألة الصارخة وهي أنّه لن يوجد ماو تسى تونغ آخر ليشغل مكانه . فى الواقع ، سيجدون أنفسهم فى وضع حيث على إنسان ما أن ينهض بدور ، من الناحية الشكليّة ، سيكون نفس دور ماو ، أي ، سيحتلّ إنسان ما المواقع القياديّة مثل تلك و التقسيم الإجتماعيّ للعمل ( و بالخصوص العمل الفكريّ و العمل اليدويّ ) سيعنى أنّ قطاعا صغيرا فقط من الشعب سيكون إذا ، قادرا على لعب مثل هذا الدور . و التصويت بإبعاد ماو كان سيعنى حصرا أنّ إمرء أقلّ مؤهلات ( أو حتّى أسوء من ذلك ، إمرء يمثّل البرجوازيّة عوضا عن البروليتاريا ) سينهض بالدور القياديّ . لا يمكنهم تجنّب هذا و الإنخراط فى هياكل الديمقراطيّة الشكليّة لن يعين فى شيء البتّة . (5)

طبعا ، لا يفيد هذا أنّه يتعيّن جعل تقسيم العمل بين الجماهير و القادة شيئا مطلقا ، عوضا عن تقليصه و فى النهاية تجاوزه و لا يفيد حتّى أقلّ أنّ القادة و ليست الجماهير هم الذين ينبغى أن يعتبروا السادة الحقيقيّين للمجتمع الإشتراكي . فى الصين الثوريّة ، تمّ التأكيد بقوّة على دور الجماهير فى نقد و بمعنى شامل فى نقد القادة . و قد وجد هذا تعبيره على مستوى جديد كلّيا أثناء الثورة الثقافيّة التى كانت ، كما شدّد على ذلك ماو ، تمثّل شيئا جديدا راديكاليا : " شكلا ، طريقة يسمح بإستنهاض الجماهير الواسعة فى جميع الميادين و إنطلاقا من القاعدة الحزبيّة بهدف أن تفضح جانبنا المظلم ".( ماو ذكره " تقرير المؤتمر الوطني التاسع للحزب الشيوعي الصيني " ملحق بكتاب ليوتشاوتشى : " كيف تكون شيوعيا جيدا " ، الصفحة 201 ، نشر 10/18 باريس ، 1970 ).

لكن بالرغم من الأهمّية و الرياديّة الذين مثّلهما ذلك ، فالأمر يبقى أنّ طوال المرحلة الإنتقاليّة الإشتراكيّة ، لن توجد حاجة إلى قادة ( و تناقض موضوعيّ بين القادة و المقودين ) فحسب و إنّما ستوجد أيضا إمكانيّة أن يقع تحويل تلك العلاقات إلى علاقات إستغلال نظرا للتناقضات التى تميّز الإنتقال من الرأسماليّة إلى الشيوعيّة ،عالميّا ، إذا لم يضطلع الحزب بالدور القياديّ الملقى على عاتقه داخل الدولة البروليتاريّة ـ لأنّ مجموعات منظّمة أخرى ( زمر برجوازيّة ) ستقوم بذلك و سرعان ما تكفّ الدولة عن أن تكون بروليتاريّة لتصبح دولة برجوازيّة . لا بدّ من قول ذلك صراحة . من وجهة نظر البروليتاريا ، المشكل مع الأحزاب الحاكمة فى البلدان التحريفيّة ليس مشكل أنّها كانت "تحتكر" السلطة السياسيّة و إنّما المشكل أنّها مارست تلك السلطة السياسيّة لإعادة تركيز الرأسماليّة و الحفاظ عليها . المشكل هو أنّها ليست ثورية ، ليست شيوعيّة فعليّا و لذا لا تعوّل على الجماهير و لا تعبئها لممارسة دكتاتوريّة البروليتاريا و لمواصلة الثورة فى ظلّ هذه الدكتاتوريّة .
و مثلما تحدّثنا عن ذلك آنفا ، أثناء الثورة الثقافيّة فى الصين ، تمّ تطوير وسائل و طرق جديدة للهجوم على الإختلافات و عدم المساواة الموروثة من المجتمع القديم وهي وسائل و طرق تحديد الحقّ البرجوازيّ إلى أكبر درجة ممكنة فى أيّ زمن معيّن فى تناسب مع الظروف الماديّة و الإيديولوجيّة . غير أنّ تناقضا جوهريّا سيظلّ قائما خلال المرحلة الإنتقاليّة الإشتراكيّة و وجود هذه الإختلافات و اللامساواة الأساسيّة و تعبيرها فى الحقّ البرجوازي تمثّل القاعدة الماديّة للطبقات و الصراع الطبقيّ و لخطر إعادة تركيز الرأسماليّة . و هذا مشكل لا يمكن حتّى معالجته جوهرياّ فما بالك بحلّه عن طريق مقاربة شكلانيّة . لذا يتوجّب أن يعالج من خلال خوض الصراع الطبقيّ فى ظلّ قيادة الشيوعيّين الثوريّين ( جاعلين ذلك العلاقة المفتاح ) و لن يتمّ ذلك بأيّة وسيلة أخرى . و بالضبط على هذا النحو جرى تناول المشكل بقيادة ماو .

وخاصة فى ما يتعلّق بتوزيع المداخيل ، إتّبع أثناء الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى توجّه أساسيّ و إنطلاقا منه ، طبّقت سياسات ملموسة للتقليص التدريجيّ من الإختلافات فى الأجور فى تناسب مع تطوّر الوفرة العموميّة و بالأساس بترفيع المستويات الدنيا نحو المستويات العليا . كجزء هام من هذا ، وُجد توجّه للإبقاء على الإختلاف فى الأجر بين موظّفى الحكومة و العمّال العاديّين على أقلّ درجة ممكنة ( تمّ بهذا الصدد إعلان الروح الجوهريّة لكمونة باريس و تمّ الدفاع عنها فى الممارسة ) رغم انّ مثل هذه الإختلافات فى الأجور ما زالت قائمة و كان يُنظر إليها كشيء من اللازم تحديده أكثر . لكن ، مرّة أخرى ، مهما كانت أهمّية تطبيق مثل هذه المبادئ ، فى تناسب مع الظروف الواقعيّة فى كلّ زمن معيّن ، فإنّ هذا لم يستطع أن يغيّر المسألة الجوهريّة ألا وهي أنّه ، لفترة تاريخيّة طويلة ، ستستمرّ الإختلافات و اللامساواة فى المجتمع الإشتراكي وهي تنطوى على إحتمال تطوّرها إلى تناحرات طبقيّة إذا لم يكن خطّ التعاطي معها خطّا بروليتاريّا .