السودان: أجمل وأبشع ما قيل في مجرى انتفاضة ديسمبر


محمود محمد ياسين
2021 / 3 / 27 - 22:18     

في هذا المقال نتوقف قليلاً عند بعض الاقوال الرائعة والسيئة التي قيلت في مجرى انتفاضة ديسمبر 2018 والحراك الفكري والسياسي الذي اعقبها وهي اقوال تثير التفكر المتعمق حول الحدث الثوري والشخصيات التي تصدرت واجهته. ويشمل تناولنا لهذه الأقوال التعليق المقتضب على بعضها.

1. متى لم تكن الحصة وطن؟
وجه الجنرال عبد الفتاح البرهان في حديث له مذاع في 27 أبريل 2019، عندما كان رئيسا للمجلس العسكري، وجه كلمة للمعتصمين أمام القيادة العامة آنذاك ينصحهم بالتحلي بالوطنية واصفا الوقت الذي يمرون به ب ” الحصة وطن“. وأخذ يكرر هذا التعبير الى يومنا هذا بعد أن أصبح رئيسا لمجلس السيادة الانتقالي السوداني.

رد كثير من أبناء الشعب على قول الجنرال الذي كان من الدعامات العسكرية الأساسية لحكم الإنقاذ الذي استمر لثلاثة عقود قبل استبداله بالحكم الانتقالي الحالي؛ كما أوكلت له تحت ذلك الحكم مهمة الاشراف على مليشيات الجنجويد (بقيادة موسى هلال ومحمد حمدان حميدتى) واسنادها في ارتكاب المذابح الرهيبة، التي تجاوزت كل قوانين الحرب، للمواطنين بدارفور خلال العقد الأول من القرن الحالي. وكان أجمل الردود على نصيحة الجنرال الكاذبة ما كتبه الاستاذ عثمان جعفر النصيري في احدى مقالاته؛ وأدناه نورد الرد الواعي والراقي للكاتب.

” أحد قادة العسكر نبه خصومه المدنيين – في معرض الاجتماعات المشتركة- الى أن الحصة وطن. يريد التفكه المتعالي، ولكني احسب ان معشر المدنيين يودون أن يعرفوا منه متى لم يكن الوطن هو الحصة؟
والى ذلك؛ فماذا كانت الحصة طوال السنوات الثلاثين المنصرمة؟ ماذا كانت ياهذا؟
أكانت شوية إبادة جماعية في دارفور وجهاد في الجنوب يقوم به الدبابون (قد يكونون أسماً على مسمى او ترويجاً لفكرة الجهاد لا أكثر) - لتقتيل أهلنا طمعاً في نيل الشهادة التي تعني عشرا ت من الحور العين ينتظرن على اهبة العدة – فضلاً عن متع دنيوية بدرجة جودة فائقة؟ وماذا كانت الحصة في 28 رمضان عام 90 .؟ وفي الفسحة بعيد الحصة؛ هل تيسر لك أو لكم شيل الفاتحة على ارواح رجال ما ارادوا غير رد السلطة الى اهلها من مغتصبيها الذين ظللتم يا قادة العسكر وما تزالون تحرسون نظامهم الدموي الدنيْء في الحفظ والصون؟
لا اريد هنا تكرار مخازي نظام الترابي والبشير في السودان يكفي الإشارة الى أن الحصة بدأت عام 89 بتشريد أفضل أبناء وبنات هذا الوطن من الخدمة العامة. بالنسبة للقوات النظامية كان معني ذلك إفراغ القوات المسلحة وقوات الأمن من أفضل العناصر وأجدرها بشرف الجندية والإبقاء على الموالين والخانعين.
معنى ذلك أن القوات المسلحة السودانية لم تعد سودانية من جهة أنها فقدت قوميتها. لقد ظل دورها خلال الاعوام الثلاثين المنصرمة تقتيل أهلنا في الجنوب وفي دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق أو السماح لمليشيات النظام القيام بتلك المهمات........
أن الجنود وضباط الصف والعديد من الضباط صغار الرتبة لا شك في انتمائهم الى الشعب وكلما تكشفت مباذل نظام البشير والترابي وكلما ابتعدت عنه عناصر اعمتها العزة بالإثم عن رؤية الحقيقة. أن الجيش الراهن في السودان لا ينتمي قادته الى تقاليد المقاتل السوداني حتى عن بعد: لا اريد ان اتكلم عن جبة ود النجومي المطروزة وحربته المركوزة ولا ان اشير الى شهادات المراسلين الغربيين عن المقاتل السوداني في كرري ولا الى اعجاب الشاعر البريطاني كبلينغ باهلنا الهدندوة. “-انتهى-

2. التاريخ يكتبه المؤرخون
جاء في اتفاقية جوبا لسلام السودان (3 أكتوبر 2020) الموقع بين حكومة السودان الانتقالية والحركات المسلحة في الباب الثاني المتعلق بالمنطقتين (النيل الأزرق وجنوب كردفان) الآتي:
” يحق لسكان المنطقتين المشاركة في إعادة كتابة تاريخ السودان بالاعتراف بمختلف المساهمات التي قدمتها شعوب السودان ..... “- الفقرة 9-9؛ ثم يرد في الفقرة 9-10:
” للمنطقتين الحق في تسمية المنشآت والمؤسسات للاحتفاء وترويج الإرث الثقافي والتاريخي لشعوب المنطقتين..... والدراسة الموضوعية لتاريخنا المشترك بما في ذلك فترة تجارة الرقيق لإزالة آثارها الثقافية والمعنوية... “

حول هذه الفقرة كتب د. حسن عابدين كلمة يقول فيها انه متوجس من ان تكون إعادة كتابة التاريخ الواردة في الفقرة 9-9 أعلاه مدعاة لتضخيم الذات الوطنية واصطناع الابطال والبطولات بتحوير ولي عنق حقائق الماضي وطمس معالمه؛ وفى رأيه” أن اريد بالدعوة والنداء اعادة القراءة وتفسير الحوادث والاحداث-- لا اعادة الكتابة فإنها دعوة حق يراد بها المزيد من استجلاء الماضي وهو ما فعله عشرات المؤرخين السودانيين خلال نصف القرن الماضي وما برحوا يكتبون “. ويختتم المؤرخ كلمته قائلا” التاريخ يكتبه المؤرخون متي رغبوا بوحي من ذواتهم واستظهارا لدربتهم الاكاديمية والتزامهم بمناهج البحث العلمي، لا طاعة لسلطان او حاكم يوجههم ماذا يقولون وكيف يكتبون. “

ان ما كتبه د. عابدين صحيح، فالتاريخ يكتبه المؤرخون؛ فالمؤرخ يمكن أن يكتب تاريخ منطقته أو أي منطقة أخرى. ويمكنه أن يكتب تاريخ أزمنة مختلفة. وفى القرن الواحد وعشرين، يستطيع مؤرخ ما من السودان أو خارجه ان يكتب في تاريخ مملكة الفونج التي قامت على الأرض السودانية خلال الفترة (1504-1820).

يقول د. عابدين، كما مر ذكره أعلاه،” ان اريد بالدعوة والنداء اعادة القراءة وتفسير الحوادث والاحداث-- لا اعادة الكتابة فإنها دعوة حق... “. لكن بعيدا عن الدلالات اللفظية (semantics) فان كتابة تاريخ السودان مفتوحا حاليا على تفسير جديد لم يحظ الا بقدر ضئيل للغاية من الاستعانة به في هذا المجال؛ وهو التفسير الذي يضع” الموضوعية" (المنشودة في كتابة التاريخ) في وقائع الحياة المادية - أي أن الوعي هو عبارة عن وجود مُدْرٙك خلافا للنظرة الذاتية في التحليل المنطلق مما يسمى” الوعي الموضوعي “الذي لا يمثل انعكاسا للواقع الحياتي. ومع ذلك، لا بد من التأكيد أن العاملين المادي والثقافي لا يستبعد أحدهما الآخر (mutually exclusive) في تحليل الظاهرات الاجتماعية، بل يُكَوِّنان علاقة جدلية اليد الطولي فيها للعامل المادي.

ان نقطة الضعف في النهج السياسي للحركات المسلحة يكمن في عدم ارجاعها للعوامل الثقافية (حقوقها السياسية والثقافية والاجتماعية المسلوبة) للوقع الاجتماعي -الاقتصادي. وهذا الضعف على صعيد النشاط السياسي تغذيه سياسات الهوية (identity politics) التي تسير عليها تلك الحركات. فسياسات الهوية تجعل الفئة التي تتبناها تفشل في إدراك ان هضم حقوقها المادية والثقافية الذي تتعرض له يتكامل مع الأرزاء التي تتعرض لها سائر الفئات الأخرى. لكن، كما ذكرنا سابقا، لا يمكن اهمال دور العوامل الثقافية، فسياسات الهوية تفشل في مجال النقد الثقافي بسيرها على نهج أحادي النظرة تقوم فيه بتعبئة افرادها حول محور واحد يتعلق بمميزاتها الخاصة فقط. فبينما انه لا يمكن اطلاقا اهمال الخصوصية في مجال النقد الثقافي، فانه من الضروري البحث في آفاق ازدهارها في تكاملها مع الهويات الأخرى. ان البحث في هذا التكامل يؤدى الى الفهم الصحيح للخصوصية نفسها.

لهذا ونتيجة لاتباع الحركات المسلحة منطق سياسات الهوية (النزوع في اتجاه تجزئة المجتمعات إلى وحدات صغيرة تركّز على ذاتها)، جاءت دعوتها” المتأخرة “لدراسة التاريخ بذلك الفهم البدائي؛ وكذلك الدعوة” المتأخرة" لدراسة مسألة الرق الواردة في الفقرة 9-10 من اتفاق السلام وهى دعوة إذا لم ترتبط بالواقع الاجتماعي-الاقتصادي المعين، الذي أفضى إلى هذه الممارسة، تكون دراسة بلا جدوى أو معنى.

3. الشعب السوداني ليست لديه ثوابت وطنبة!!
في تصريح له قال وزير العدل نصر الدين عبد الباري بجرأة حمقاء” ليست لدينا في السُّودان ثوابت متَّفق عليها لأنه لم يحدث إجماع رسمي في تاريخ السودان على مبادئ تأسيسية محددة وملزمة. النخب السياسية المهيمنة تاريخياً في هذا البلد تفترض أن ما تؤمن به من مبادئ ينبغي أن يكون ملزماً لكل الشعب السوداني المتباين، وأن من يخالفها في ذلك خائنٌ “

أن هذا القول البغيض الفارغ (hogwash) لا يصدر الا عن شخص وقح يفتقد لأدنى حدود اللياقة. هذا من ناحية الشكل الا أن القول يحمل دلالات عميقة تتعلق بالمسار الذي يرسم للسودان؛ فالقول بعيدا عن تواقحه وركاكته يخفى تحته التوجه للحكم الانتقالي الذي يستهدف احداث تحول جذري في اتجاه رهن البلاد لدول طامعة في الهيمنة الكاملة عليها.

فنصر الدين عبد الباري عندما يحدثنا عن توجهات النخب ينسى تزلفه وانصياعه للنخبة الإسلامية التي كان ينتمي لها قبل أن يدير لها ظهر المجن عقب ازالتها من السلطة. عبد الباري كان خادما أمينا لثوابت تنظيمه السابق، وهي الثوابت التي مارس أصحابها العسف ضد الشعب وثوابته الوطنية الراسخة طوال تاريخ السودان الحديث. وثوابت الشعب تتمثل في معاداة الاستعمار والنضال من أجل تحرير السيادة السودانية من السيطرة الاستعمارية المتخفية في العلاقات الاقتصادية والثقافية، والتنديد بالصهيونية والعنصرية، والنضال من اجل ديمقراطية حرية التنظيم الحزبي والنقابي، واسقاط واشعال الانتفاضات من اجل اسقاط الحكومات المستبدة. ومن هذه الانتفاضات السامقة انتفاضة ديسمبر 2018 التي سرقها أعداء الشعب من العملاء والقتلة الذين تحركهم المصالح الخارجية، وهي الانتفاضة التي تبوأ في اعقابها عبد الباري كرسي الوزارة!

لكن عبد الباري مازال يسير على نهج نفس الثوابت الغير الوطنية لتنظيمه السابق، ولكن تحت شعارات أخرى ابتدعتها انتفاضة ديسمبر المسروقة. فالقوانين التي يجرى الآن تصميمها ومباركتها من جهات أجنبية ويبصم عليها عبد الباري تهدف الى ضرب الثوابت التي يتمسك بها الشعب حتى يتمكن الحكام الجدد من إهدار سيادة السودان (التي بدأت بالفعل بالتطبيع مع اسرائيل والخنوع للغرب) وتقييد الحركة السياسية والنقابية لسكانه بمختلف التشريعات.