لتتحرر الأخلاق كما تحرر العلم


عبدالله محمد ابو شحاتة
2021 / 3 / 24 - 14:50     

التحرر من الميتافيزيقيا حاجة ملحة للأخلاق. لقد انتهى عصر الأخلاقيات العمياء، وكما كان تحرر العلم من الميتافيزيقا علامة رقي كبيرة في التاريخ ، فسيكون انفصال الأخلاق عنها علامة رقي أكبر ، إعلاناً لعصر جديد، وانتهاء لهذيان القطيع الذي يزال ينادي بأعلى صوته قائلاً (( الأخلاق تنتفي بانتفاء الميتافيزيقا، الأخلاق لا تجد لها مبرر سوى في الميتافيزيقيا)) يرددون تلك الأقاويل بثبات زاعمين أنهم يهدفون بها إلى حماية الأخلاق من الاضمحلال الذي سيصيبها إذا ما انفصلت عن الميتافيزيقا، ولكنهم في الحقيقة يهدفون للعكس ، (( أي حماية الميتافيزيقا من خطر فصلها عن الاخلاق )) ، الخطر الذي من شأنه أن يقضي عليها بلا هوادة .
إن فصل الأخلاق عن الميتافيزيقا لا يعني سوى تحررها من طغيان التعسف واللامعقولية ، نبذ الأخلاق المستندة على الغيبيات هو نبذ لكل سلطوية وتطبيق أعمى وإعلاناً بقدوم أخلاق المستقبل ، الأخلاق التي لا تعرف التحريم اللامنطقي بل تعرف فقط المنع المبني على العقلانية، الأخلاق المتغيرة القابلة للتطور لا الأخلاق الجامدة الثابتة ، أخلاقيات نطبقها لأننا نعلم فائدتها ومقتنعين بها تمام الاقتناع ، لا اخلاق نطبقها خوفاً من العذاب الغيبي أو من غضب كيانات ما ورائية دون أن نعلم لها فائدة، أخلاقيات نستمدها من العلوم الانسانية والطبيعية، ولا اخلاق نستمدها من قال فلان عن علان. إنه لفرق جوهري بين أخلاق التحريم و الاخلاق العلمية المنطقية و التي نتقصى نشأتها وتطورها بغاية السيطرة عليها وتوجيهها فيما ينفعنا ، فهذا هو غرض الأخلاق، المنفعة ، ومنفعة الإنسان في الاتحاد ، والاتحاد يتطلب الالتزام الأخلاقي اتجاه الآخرين. تحديد الحقوق والواجبات والتوفيق بين الرغبات المتعارضة ، في النهاية (( المنفعة هنا على هذه الأرض لا في أي مكان آخر)) تلك هي غاية أخلاق المستقبل ، أخلاقيات العلم التي تحمل تبريراتها ، لا أخلاق الماوراء والتي هي القاعدة والمبرر في ذات الوقت ،اخلاق لأجل السعادة كما تقول الحكمة الرواقية لا أخلاق لذاتها كما يهذي الانحطاط الأفلاطوني. فإذا كانت الأخلاق العلمية تقييم يراقب النتائج ، فالأخلاق الخرافية لا تهتم أصلاً للنتائج بقدر ما تهتم بتطبيق القاعدة التعسفية، ((مثال)) : محاربة تحديد النسل هكذا تأمرهم القاعدة الأخلاقية الميتافيزيقية وهذا ما ينبغي أن يفعلوه ، أما النتائج الكارثية لهذا الفعل من فقر وبؤس فلا تعنيهم. وتحريم التبرع بأعضاء الميت هذا ما تأمرهم به القاعدة الأخلاقية الخرافية، أما ما يتبع ذلك من معاناة المرضى الاحياء فلا يعنيهم، فهكذا هم يفكرون؛ "علينا أن نفعل هذا لأن الدين يأمرنا بهذا ، و حتى لو كان لهذا الفعل نتائج كارثية ، فعلى كل حال تلك الحياة ملعونة و لا وزن لها ، فنحن نعيش من أجل الموت لا من أجل الحياة، فالأخرة خيراً وأبقى.
((2))

فعلينا أخيراً أن نتجاوز انحطاط العقل الخرافي الذي يقف إجلالاً للضمير الأخلاقي كشيء متعالي على المادة. ولا شك أن الضمير يستحق منا الوقوف والإجلال، ولكن لا بصفته هبة فوقية بل بصفته منتج اجتماعي تطوري قد تشكل عبر آلاف السنين من الطريق الطويل لنمو الحضارة، وليس هذا تقليلاً من أهمية الضمير الأخلاقي أو إهداراً لقيمته كما يظن الخرافيين، فالخرافي يعتقد أن رد الشيء لأصله المادي وإبعاده عن أصله الخرافي يعد تضييعاً لهيبته وجلاله، أما أنا فلا أرى الأمر إلا على العكس من هذا، أرى تقصي الأصل المادي والتطوري يضفي على الشيء هيبة وجلالاً إضافياً.
إن الضمير هو ممثل العقل الجمعي في الإنسان الفرد، إنه ممثلاً للعقلانية التي تخبر الإنسان أنه يحتاج للآخرين لكي يبقى، وأن قوة أفراد جماعته من قوته ومساعدتهم هي مساعدة لنفسه أولاً. نعم إن الضمير لا يقوم سوى على المنفعة وإرادة البقاء، ولهذا لا تتوقع منه سوى التناقض إذا حملته ما لا يحتمل من الميتافيزيقيات. إذا حاولت أن تصنع منه قاعدة روحانية لا مادية، لا تتوقع منه حينها سوى التناقض واللبس. هذا التناقض الذي يبدوا حين ترى الضمير يختص بأفراد الجماعة أكثر من الغرباء، أو حين ينتفض لقتل حيواناً منزلياً ولا يتزحزح لصيد حيواناً برياً، إنه تعبيراً عن المصلحة بامتياز. راقب نزعات ضميرك ثم تعالى وأخبرني أيها كانت لا توافق المنفعة والمصلحة التي تمكن المجتمع من الاستمرار و بالتالي الفرد الذي هو جزء منه !
ولذلك فالضمير دائماً أقوى عند الإنسان المتفرد المتحرر من الغرائز الدنيا والمتوافق اكثر مع غرائز الاجتماع بدلاً من غرائز الجموح، ذاك الإنسان ذو ملكة المعرفة العقلية الفعالة. كما أن الضمير عند هذا الإنسان لا يكون عرضه كثيراً للذلل فلا يفشل كثيراً في تحديد مصالحه وأولوياته. وعلى العكس يقف الأنسان الغريزي البدائي، حيث يكون الضمير في أدنى مستوياته، وعلى العكس أيضاً يقف الأنسان الخرافي حيث يعاني ضميره من فشل في اختيار الأولويات وتحديد المنافع.

((3))

و حين نتحدث عن عقلنة الأخلاق والضمير تجد العقل الخرافي يتشنج عليك قائلاً إن الإنسان يعجز عن أن يكون أخلاقياً بدون دعم من التقديس والمطلق ، بدون عون من الميتافيزيقا ، فحتى لو كان الإله غير موجود فسيكون علينا اختراعه كما قال فولتير ، والمراقبة السماوية ضرورية للمجتمع الانساني كما قال كانت. و تلك التساؤلات مشروعة حتماً، و لكن من المشروع أيضاً أن نسأل عن أي مجتمع نتحدث ! فهل المجتمع الإنساني منذ نشأته إلى الآن هو نفس الشيء ؟ هل مجتمع الإنسان الحجري هو ذاته مجتمع فولتير ومجتمع فولتير هو ذاته مجتمعنا الآن و مجتمعنا الان هو مجتمع المستقبل ! ، لقد كان فولتير سليل الأرستقراطية الذي لا يثق في العامة ، ويرى للحقيقة طابعاً خاصاً لحفنة قليلة من الرجال ، فلعله لو أخبر خادمه أنه لا يوجد من يراقبه في السماء فيسرقه الخادم ، أو لعله يقتله ويسلبه أمواله وهو نائم ، ولو افترضنا تجاوزاً صدق سوء ظن فولتير ، فخادمه على كل حال لا يمكن أن يكون أزلي ، وليس هناك ما يمنعنا من تخيل مجتمعاً لا يحتوي على خادم فولتير ، وفي الواقع يؤكد لنا أكثر فأكثر القوة التي يمكن أن تصل إليها التعاليم الوضعية، وإن كان الإنسان بحاجة إلى التبجيل فيمكنه تبجيل المجتمع والدولة والدستور ، فهذه المبجلات الجديدة على الأقل يمكنها أن تتفاعل معنا وتجدد لنا نفسها أولاً بأول ، على عكس ثبات وجمود الميتافيزيقيا القديمة الذي يفصمنا عن والواقع.