وهْم قبطان يُنقذ سفينة لبنان من الغرق


جلبير الأشقر
2021 / 3 / 24 - 11:37     


قبل تسعة أشهر، جاء مقالي الأسبوعي بعنوان «سفينة لبنان تغرق ولا من يعوّمها» (16/6/2020) وقد استهلته بقولي «لم أشعر في أي وقت مضى، بما في ذلك كافة سنوات حرب الخمسة عشر عاماً، أن سفينة الوطن على وشك استكمال الغرق مثلما هي اليوم». أما سبب هذا التقدير، فكان أن الطرفين الراهنين في المعادلة الدولية التي يقوم عليها لبنان كعادته، لم يعُدا يباليان لغرقه: «لم تعد المملكة السعودية، وخلفها حلفاؤها الدوليون، راغبة في تعويم الاقتصاد اللبناني ثمناً لصيانة دور عملائها المحلّيين في اللعبة السياسية، وقد أدركت أن إيران هي المستفيدة من ذلك الدور. ولم يعد النظام الإيراني مبالياً لانهيار التركيبة اللبنانية ما دام عملاؤه المحلّيون قادرين على تمتين دولتهم القائمة في إطار الدولة اللبنانية المنهارة، وهذه الأخيرة تعاني من حالة قصوى من ازدواجية السلطة منذ سنين عديدة. ولا يبالي عملاء الطرفين لانهيار العملة اللبنانية والحال أن القاسم المشترك الوحيد بينهما هو اتكالهما على الدولارات النفطية».
ويبدو من التطورات الأخيرة على هذا المسرح القراقوشي الذي اسمه «السياسة اللبنانية» أن فرقاءه يتلذّذون في التعجيل بإغراق السفينة، ما دام كل طرف منهم حائزاً على عوّامة خاصة به، غير مبالين بمصير غالبية الشعب اللبناني الساحقة التي لا وطن لها تعيش على متنه سوى لبنان، والتي تخشى أن تضطر إلى السير على خطى الشعبين الشقيقين الجارّين، الفلسطيني والسوري، لحاقاً بقافلة التشريد واللجوء العالمية. أما أصحاب العوّامات فمستمرّون باللهو على المسرح القراقوشي الذي تتوزّع أدوار الخصومة عليه مداولة بين الطوائف وداخل كل منها.
وإذا صحّ أن شرّ البليّة ما يُضحك، فإن التوزيع الطائفي للمناصب الذي يتصارع عليه ميشال عون، مسنوداً من حسن نصرالله، وسعد الحريري، مسنوداً من نبيه برّي، إنما هو تحفة في فن الفكاهة. يكفي النظر إلى الصراع على توزيع الحقائب في وزارة «الأخصائيين» الذين يحبّذ فريق أن تكون هوياتهم السياسية معلنة، بينما يحبّذ الفريق الآخر أن تكون مستورة (ملاحظة: تشير الثنائية الطائفية في القائمة إلى مواطن الخلاف): «مالية: شيعي؛ داخلية: ماروني/روم؛ خارجية: سنّي/درزي؛ دفاع: روم/ماروني؛ طاقة: روم؛ تربية: درزي/ماروني؛ اتصالات: ماروني/كاثوليك؛ عدل: كاثوليك/سنّي؛ أشغال: شيعي؛ صحة: سنّي؛ اقتصاد: روم؛ شؤون اجتماعية: ماروني/سنّي؛ عمل: شيعي؛ زراعة: سنّي/درزي؛ إعلام: ماروني؛ صناعة: أرمني؛ شباب: شيعي/ماروني؛ صناعة: كاثوليك/أرمني؛ مهجّرين: درزي/أرمني».
بات الوضع اللبناني يذكّرنا بفيلم فيديريكو فلّيني الرائع «بروفة الأوركسترا» الذي يروي حكاية أوركسترا سمفونية تدبّ الفوضى بين عازفيها بينما تتهدّم القاعة التي يعزفون فيها، حتى ينتهي الأمر بصورة مأساوية بموت عازفة تحت حطام أحد الجدران، فيستتبّ الهدوء والصمت وتعود الأوركسترا إلى العزف، بينما يتصاعد صوت قائد الأوركسترا بنبرة دكتاتورية، متحولاً من اللغة الإيطالية إلى الألمانية في رمز جليّ إلى هتلر. والحال أن سيناريو الفوضى التي تليها الدكتاتورية إنما هو قديمٌ مألوف، وقد شهد لبنان بالذات نموذجاً عنه عندما أفضت بروفة الحرب الأهلية في عام 1958 (كانت مجرّد بروفة مقارنة بما أتى في عام 1975) إلى استلام قائد الجيش للسلطة وإقامة عهد أشرف فيه «المكتب الثاني» (شعبة المخابرات في الجيش اللبناني) على نسخة ملطّفة عن أنظمة المخابرات الإقليمية.

وها نحن أمام بوادر تمهيد لتكرار السيناريو المألوف على خلفية الفوضى الراهنة والانهيار المتسارع للاقتصاد. فالموقف الراهن لقائد الجيش اللبناني جوزيف عون (لا قرابة بينه وميشال عون) أشبه ما يكون بموقف سلفه فؤاد شهاب في عام 1958. وقد التفت الجميع إلى الكلمة التي ألقاها العماد عون يوم 8 آذار/ مارس الماضي، والتي أكّد فيها على وقوفه والمؤسسة العسكرية فوق الصراع الدائر على مسرح السياسة اللبنانية البائسة وندّد بأهل السياسة. فالعماد عون يستعدّ بكل وضوح للعب دور «المنقذ» عندما تحين الفرصة إذا عجز فرقاء المسرحية عن الاتفاق، وهو ما يبدو أنهم غير راغبين فيه. وكلّما تفاقمت الفوضى اللبنانية، كلّما نظرت العواصم الغربية بعين الرضى إلى هذا السيناريو، كما تجلّى من افتتاحية صحيفة «فايننشال تايمس» البريطانية قبل أسبوع، وقد تزامن صدورها مع زيارة الجنرال كينيث مكينزي إلى لبنان واجتماعه بالعماد عون. ومكينزي هو قائد «القيادة المركزية للولايات المتحدة» التي تُشرف على «الشرق الأوسط الكبير» في التوزيع البنتاغوني لمناطق العالم.
يبقى أن تنفيذ مثل السيناريو المذكور أصعب بكثير اليوم مما كان في عام 1958 نظراً لحيازة «حزب الله» على قوة عسكرية موازية للجيش. فحتى لو تسنّى اتفاق بين واشنطن وطهران شبيه بالذي جرى بين واشنطن والقاهرة في عام 1958، ستبقى الدولة اللبنانيـة تعاني من الازدواجيـة القائمة. وإذا تصـوّر بعـض الناس أنه يمـكن حلّـها على طـريقة حل الازدواجية المماثلة التي عـرفها الأردن بعد حـرب عام 1967 وحتى «أيـلول الأســود» عـام 1970، فإنه تصـوّر مـوهوم للغاية، حيث إن التجربة السابقة في دفع الأمور في هذا الاتجاه في لبنان، إنما هي تلك التي أدّت في عام 1975 إلى تفجير البلاد ودخولها فـي نفق حرب دامت خمسة عشر عاماً.
أنهيت مقالي قبل تسعة أشهر بالتأكيد على أنه «لن تعوّم سفينة لبنان مجدّداً سوى إذا استطاع الشعب اللبناني توحيد صفوفه الطائفية وتكنيس النظام القديم بكل أطرافه لإحلال نظام جديد محله، نظام لا يقوم على معادلات بين قوى خارجية وعملائها المحلّيين، بل على صيغة وطنية واجتماعية جديدة تكرّس سيادة البلد ضد كافة الطاعنين بها سواء أتوا من جنوبه أو من شرقه، وتكرّس المصلحة الشعبية ضد مصالح قروش المال والسياسة التي تفترسه. وعدا لو حصل مثل هذه المعجزة، فإن الدولة اللبنانية مهدّدة بأن تصبح في خبر كان أكثر مما في أي وقت مضى». أما بصيص الأمل الوحيد اليوم فهو في تجدّد الانتفاضة الشعبية اللبنانية وعودتها إلى شمل كافة مناطق لبنان من جنوبه إلى شماله، مثلما رأينا في الأيام الأخيرة.