المنظمات غير الحكومية أداة اليمين البرجوازي! الجزء الاول


توما حميد
2021 / 3 / 22 - 16:31     

ليست هناك إحصاءات دقيقة حول عدد المنظمات غير الحكومية على مستوى العالم، ولكن الإحصائيات المتوفرة بما فيها احصائيات الأمم المتحدة تشير الى وجود 40000 منظمة غير حكومية دولية والملايين من المنظمات غير الحكومية المحلية. يشير أكثر من مصدر الى وجود حوالي 2 مليون منظمة غير حكومية في الهند لوحدها في 2009 (منظمة لكل 600 شخص) و 277 الف منظمة في روسيا في 2008. وتقدر عدد المنظمات غير الحكومية في كردستان العراق ب 2800 منظمة وبحلول 2010 كان هناك بين 8000 و12000 منظمة في العراق. يعد قطاع المنظمات غير الحكومية ثامن أكبر اقتصاد في العالم حيث تزيد قيمته عن ترليون دولار سنويا ويوظف حوالي 19 مليون عامل اجير بالإضافة الى اعداد هائلة من المتطوعين.
يعتبر الكثيرون جمعية مناهضة العبودية التي تشكلت عام 1839 اول منظمة غير حكومية دولية. ومن الأمثلة المشهورة التي تلت، هي منظمة الصليب الأحمر الذي شكلت في خمسينيات القرن التاسع عشر بعد الحرب الفرنسية- الإيطالية، ومنظمة أنقذوا الأطفال التي تشكلت بعد الحرب العالمية الأولى واوكسفام وكير بعد الحرب العالمية الثانية.
ولكن نمت حركة المنظمات غير الحكومية بسرعة هائلة منذ الثمانينيات من القرن الماضي، وقد رافق هذا النمو صعود التيار اليميني النيوليبرالي الذي عمل على تقليص دور القطاع العام في الاقتصاد والخصخصة وتقليل الخدمات التي تقدمها الدولة. ورافق هذا النمو أيضا افول القطب الشرقي والشيوعيات البرجوازية بشكل عام وضعف مكانة الماركسية واليسار عالميا. وقد ساعد هذا النمو القمع الممنهج الذي مارسته الدولة ضد اليسار في بلدان مثل اندونيسيا وتايلند. لقد مكن الإحباط والتخبط الفكري في صفوف اليسار وخيبة الامل من شيوعية الاتحاد السوفيتي والصين، المنظمات غير الحكومية من إزاحة الحركات والمنظمات اليسارية الراديكالية وأحيانا النقابات العمالية واستقطاب مفكريها وقادتها وفعّاليها.
في الوقت الذي شن اليمين البرجوازي هجوم على دولة الرفاه في الغرب وقام ممثلا بالحكومات الغربية وخاصة النيوليبرالية ومؤسساتها مثل الصندوق النقد الدولي على اجبار الحكومات في البلدان الخاضعة على تقليص دور القطاع العام في الاقتصاد وتقليص الخدمات الحكومية، قام بالدفع بالمنظمات غير الحكومية ضمن خطة مقصودة ومدروسة لأسباب سناتي على ذكرها.
تعتبر حركة المنظمات غير الحكومية بالشكل الحالي ظاهرة حديثة وجدية، على الشيوعيين مواجهتها.
لا يمكن اصدار تعميمات مطلقة حول حركة المنظمات غير الحكومية، اذ ليس هناك شك بان بعض المنظمات تقوم بتغير ايجابي على الأرض ولبعضها اهداف تقدمية وهناك الكثير من الافراد الذي يشاركون في هذه الحركة بنية صادقة، ولكن يمكن القول بثقة بان المنظمات غير الحكومية تلعب دور سياسي رجعي للغاية في المجتمع. انها تمثل جزء من استراتيجية الطبقة الحاكمة واداة التيار النيو ليبرالي في ادارة المجتمع. على الرغم من ادعاء المنظمات غير الحكومية حول تجنب السياسية، الا انها منخرطة بشكل فعال فيها، ولكن نتيجة فقدانها لنظرية سياسية واضحة ورفضها للتنظيم السياسي، تصبح أداة طيعة لخدمة ايدولوجية وسياسات الطبقة الحاكمة وخاصة جناحها االنيوليبرالي.

وظائف المنظمات غير الحكومية
يبغي التيار النيوليبرالي الذي يمثل مصالح الاحتكارات وقلة غنية، تحويل كل شيء الى بضاعة وبسط منطق الربح على كل زوايا حياة البشرية وخاصة على القطاعات الاقتصادية التي كانت تقليديا تدار من قبل الدولة بما فيه قطاع الخدمات كوسيلة لتراكم الأرباح عن طريق نقل الثروة من الطبقة العاملة الى الطبقة البرجوازية. ولكن خصخصة كل ميادين الاقتصاد وتخلي الدولة عن مسؤوليتها تجاه المواطن، تكشف عن وحشية النظام الرأسمالي وتجعل الحياة جحيم بالنسبة لقطاعات واسعة من البشرية، وهذا يزيد من فرصة حدوث اضطرابات واحتجاجات وثورات اجتماعية ضد النظام. وهنا يبرز دور المنظمات غير الحكومية، حيث يوكل لها دور جعل النظام الرأسمالي اقل وحشية.
يؤيد التيار النيوليبرالي إحلال منظمات المجتمع المدني بدلا من الدولة لتقديم الخدمات والرعاية الاجتماعية لان هذا يعني فتح قطاعات اقتصادية ( قطاع العام) امام الاستثمار وجعلها مصدر لخلق الأرباح، وتقليل الضرائب على الرأسماليين لجمع الأموال اللازمة لتمويل الانفاق الحكومي، تقليل حصة الرأسماليين من تمويل الخدمات عن طريق تقليل مقدار الخدمات والرعاية بشكل عام، وجعل تمويل المنظمات غير الحكومية عمل تطوعي وتشجيع بقية المواطنين على التبرع بعد اثارة شعور بالذنب عندهم، إضافة الى ان معظم الأموال المقدمة كتبرعات هي مستثنية من الضرائب.
ان اهم وظيفة تقدمها حركة المنظمات غير الحكومية للطبقة الحاكمة هو حجب الانقسامات الطبقية العميقة والاستغلال الطبقي والصراع الطبقي في المجتمع عن طريق الترويج لمفاهيم غير طبقية مثل " المجتمع المدني".
تقوم هذه المنظمات بالتمويه على الأسباب الحقيقية للماسي التي تواجهها البشرية ومسؤولية النظام الرأسمالي عنها. فمثلا لا تقول دعايات المنظمات غير الحكومية في الدول الغربية مثل وورد فشن واوكسفام الهادفة الى جمع التبرعات شيئا عن سبب استمرار الفقر المدقع او الامراض المعدية في الدول الفقيرة، بل تعرض صور مؤثرة عن المعاناة الإنسانية الناتجة عن هذا الفقر والمرض. تصور هذا الفقر والمرض كحالة طبيعية مثلها مثل الظواهر الطبيعية، ليس أحدا مسؤولا عنها. وبدلا من ان تكون وظيفة النظام القضاء على هذه الظواهر، يطلب من العامل في المجتمعات الغربية التبرع من اجل التخفيف عن نتائجها بعد اثارة مشاعره الانسانية.
تقوم هذه الحركة بتحييد وتفتيت الاستياء المتزايد تجاه السياسيات اليمينية وصرف السخط عن النظام الرأسمالي والسلطة البرجوازية والشركات الاحتكارية والبنوك وكبار الرأسماليين وتوجهه ضد المشاريع الصغيرة المتمثلة بالمنظمات غير الحكومية.
وتقوم بمنافسة واحتواء الحركات الاجتماعية الراديكالية وجذب الكثير من كوادر ونشطاء هذه الحركات الذين يجدون صعوبة في مقاومة اغراء المنظمات غير الحكومية.
لذا فليس من الغريب، ان الاماكن التي شهدت نمو هذه الحركة عانت من ضعف وحتى غياب الحركات الثورية المنظمة في وقت اشتداد الازمات الرأسمالية.
وقامت حركة المنظمات غير الحكومية في الكثير من الدول باستخدام قواعدها ومواردها ومكانتها كمنظمات مدافعة عن حقوق المهمشين لدعم السياسيين والأحزاب التي تدافع عن الإصلاحات الشكلية بدلا من الإصلاحات المؤثرة.
عملت بعض المنظمات غير الحكومية الأجنبية المهتمة بشؤون العمال بين الحركات العمالية في مختلف الدول كعملاء للحكومات الغربية وأجهزة استخباراتها. اذ تقوم السي أي أي مثلا بتوجيه الأموال من خلال بعض المنظمات العمالية الامريكية لاختراق والتجسس على الحركات الراديكالية، ولمواجهة تأثير الشيوعيين في النقابات والمنظمات العمالية في الدول المختلفة. كما قامت الكثير من أحزاب الديمقراطية الاشتراكية مثل الحزب الديمقراطي الاشتراكي الالماني بتمويل المنظمات غير الحكومية والنقابات العمالية وبناء توجه نقابي غير مقاتل يناسب مع توجهات تيار الاشتراكية الديمقراطية.
ولكن غالبية المنظمات غير الحكومية هي ليست عملاء للاستخبارات والتيارات السياسية في الدول الغربية، ولكن مع ذلك تلعب دور رجعي للغاية. حيث تصبح بشكل غير مباشر ومن خلال المشاريع والتقارير التي ترفعها الى الجهات المانحة ومن خلال المؤتمرات التي تعقدها، اداة لمراقبة مزاج وحركة المجتمعات وقياس التحديات التي تواجه السلطة في هذه المجتمعات. وقد بين التاريخ الحديث الدور التي تلعبه هذه المنظمات في خدمة اليمين البرجوازي فنجد ما ان تزداد الاضطرابات السياسية في منطقة او دولة يزداد عدد المنظمات غير الحكومية.
وتساعد حركة المنظمات غير الحكومية على ابراز شخصيات معينة في المجتمع كشخصيات " تقدمية" و "ديمقراطية"، تصبح بمثابة بديل سياسي للطبقة الحاكمة المحلية والعالمية عندما تصبح الأنظمة الحاكمة مرفوضة من قبل الجماهير ويتزايد خطر الإطاحة بالسلطة. أي انها تصبح صمام امان الطبقة الحاكمة من اجل منع الأمور من الانفلات.
لهذا السبب، عندما تزداد الاحتجاجات الجماهيرية وتصبح خطرة على السلطة تخفف الحكومات والمؤسسات الرأسمالية المانحة من شروط وقيود التمويل فتتكاثر المنظمات غير الحكومية بشكل كبير، وتبرز فرصة "للمثقفين والفعالين" لتقديم خدماتهم للتبليغ ضد الانخراط في الحركات السياسية والتخلخل في الحركات الاجتماعية لتجنيد قادتها وتوجيه الطاقة نحو مشاريع المساعدة الذاتية وحملات للدفاع عن حقوق جماعات على أساس الهويات بدلا من الحركات الاجتماعية. ويؤدي عملها الى فرز شخصيات تقدم كبديل للأنظمة الحاكمة. هكذا، لقد تدفقت الملايين على إندونيسيا وتايلاند وبيرو ونيكاراغوا، وشيلي، والفلبين والسلفادور وجواتيمالا وكوريا وهايتي والعراق ودول افريقيا في وقت الازمات.

التوافق بين المنظمات غير الحكومية واليمين البرجوازي وسياساته النيوليبرالية!
بغض النظر عن الاهداف المعلنة للمنظمات غير الحكومية ونية الافراد المشاركين فيها، تتفق طبيعة عمل هذه المنظمات مع السياسيات النيوليبرالية لأقصى اليمين البرجوازي الى حد كبير. اذ تناهض المنظمات غير الحكومية مثلها مثل التيار اليميني دور الدولة وان كان باسم " المجتمع المدني" وليس باسم " السوق الحر". يقبل منظرو هذه الحركة ادعاءات التيار البرجوازي النيوليبرالي بأن الدولة غير كفؤة في تقديم الخدمات والرعاية الاجتماعية، لذا تطالب هذه الحركة الدولة بتقليل توفير الخدمات لصالح نظام مساعدة ذاتية لامركزي. تتفق في توجيه موارد الدولة ليس لتقديم الخدمات للجماهير بشكل مداوم ومنظم وبعدل أكبر وبشكل قابل للمحاسبة بل تخويل المنظمات غير الحكومية بتقديم خدمات اقل جودة، بشكل غير منظم او مداوم وغير ملزم وبدون محاسبة لشريحة صغيرة في المجتمع.
وعمليا تتناقض مصالحها مع مؤسسات الدولة التي تقدم الخدمات الاجتماعية وتدير البرامج الحكومية الشاملة، اذ تنافس للحصول على حصة من الأموال العامة من اجل مشاريعها.
وهكذا، رغم ان المنظمات غير الحكومية لا تناضل بشكل فعال من اجل الخصخصة الا انها تتفق مع وتمكن سياسات اليمين البرجوازي بخصخصة الخدمات والتوظيف.
تقوم حركة المنظمات غير الحكومية مثل التيار النيوليبرالي بتقوية سياسة الهوية. فالكثير من المشاريع الخدمية والحملات تكون هدفها اقلية تعرف على أساس هويات مثل الدين او الاثنية او الجندر او الميل الجنسي او العاهات الخ.
ترى ايدولوجية المنظمات غير الحكومية ان أساس مشاكل مثل الفقر والامية هي قلة المبادرة الفردية والمهارات الفردية، لذا تركز جهودها أحيانا في هذا الاتجاه.
أسباب الدفع بالمنظمات غير الحكومية!
ان الدفع بالمنظمات غير الحكومية للقيام بتقديم الخدمات نيابة عن الدولة ليس لأسباب اقتصادية بل هو لأسباب ايدلوجية وسياسية. ليس هناك شك بان بإمكان الحكومة تقديم الخدمات بشكل أرخص وأكثر فعالية وأكثر عدلا وشمولية من المنظمات غير الحكومية.
بعكس الحركات الإصلاحية الأخرى مثل الحركة النقابية، ليس هناك الكثير مما يدل على فعالية حركة المنظمات غير الحكومية. رغم عدم وجود علاقة سببية، الا انه هناك علاقة طردية بين نمو المنظمات غير الحكومية وبين تدهور المستوى المعيشي للأغلبية. هايتي هي من أفقر دول العالم في حين لديها أكبر عدد من المنظمات غير الحكومية مقارنة بعدد السكان. الدفع بالمنظمات غير الحكومية هو من اجل تعزيز الوضع الراهن من الناحية الايدولوجية والسياسية والاقتصادية، تقويض الصراع الطبقي، واضعاف الحركات الراديكالية، وجعل النظام الرأسمالي أكثر مقبولية.