الشيوعيه ومسارات-قرآن العراق-؟/ ملحق 1 / 13


عبدالامير الركابي
2021 / 3 / 21 - 17:31     

في العراق من دون غيره من كيانات الشرق المتوسطي، غابت كليا الاستعادية الوطنيه التاريخيه، فلا ظهرت هنا سلفية مثل تلك التي عرفتها الجزيرة العربيه، ولا شكل من اشكال الاستعادة للماضي الممزوج باحاضر المستعار، كما الحال في مصر حيث منجز الدورة الواحدة، والاجترار المحلي المعزز بالموقع والحجم، ومع ان الانبعاث العراقي الحديث يعود الى القرن السادس عشر مثله مثل حالة مجاورة هي ايران، والحركة الصفوية فيها، فان العراق لم يتخذ ايه صيغة من صيغ التعبيرية الإمبراطورية، او مايذكر بها، ويوم حلت الفترة الثانيه من التشكل الثالث الحديث العراقي بصيغتها الدينيه الانتظارية، كان ذلك يأخذ الذهن والاعتقاد نحو ماهو مؤجل ومودع في غياهب المستقبل، هذا مع العلم ان أسباب مثل تلك الاستعارة كانت وافرة، لابل هائلة الحضور في الكينونة والتاريخ، بالاخص امبراطوريا، وعلى صعيد الرؤية الكونيه الأولى، فغاب كليا في الطور الذي نتحدث عنه، إبراهيم الخليل، وحامورابي، ولم تلح اية بارقة تحيل المشاعر الى اول حاكم امبراطوري في التاريخ البشري ل "زوايا الدنيا الأربع" كما صرح سرجون الاكدي، كما ان امجاد بغداد العباسيين، لم يحضر لها اليوم سوى خيال متصل، لابالعراق، بل ب "الإسلام" و "بالعرب"، وكأن القرون الخمسه من السطوع العظيم العباسي القرمطي، كان نتاج جزيرة عربيه لم تعرف الابراهيميه الا في النهايات من سياقات تشكلها العائد لاصل عراقي رافديني، او كأن اهل الجزيرة، أبناء مجتمع اللادولة الاحترابيه الصحراوية، الذين يحكمهم اقتصاد الغزو وقانونه، كانوا قادرين، او يعرفون كيف يبنون امبراطورية وكيانية ازدواجية كتلك التي ملات الدنيا، بعد قيامهم بمهمتهم الكبرى الوحيده الهامه، بتحريرهم الاليات التاريخيه العراقية من وطاة الاحتلال الفارسي، وتهيئتهم بناء عليه الأسباب المباشرة لانطلاقها، بعد طور من الانقطاع التاريخي الذي اعقب سقوط بابل.
وبينما ماتزال ايران الى اليوم ماخوذة الى وهمها الإمبراطوري، والجزيرة الى مسخها السلفي، ومصر الى توهماتها الحداثية المزرية، مايزال العراق ضائعا بلا ماض ولاحاضر، ينظر اذا نظر الى ذاته بعين غيره، فهو وفجاة، ولان الإنكليز قد حضروا فيه صار"مجتمعا طبقيا"، له "طبقة عامله" تضاهي مثيلاتها في "ارقى البلدان" على حد تعبير كامل الجادرجي، ناهيك عن "فهد" يوسف سلمان يوسف، وزكي خيري، والعشرات من صنفهما ونوعهما، حيث لاحاضر عراقي يمكن وصلة بالتشكل الحديث المستمر من القرن السادس عشر، او حتى بذلك المستعار الملبس على واقع لايمت له بصله، من المفترض ان الطبقة العامله اذا وجدت فيه ان لاتكون "طبقية"، فهي ليست، ولم تكن باية حال افراز مراحلي تاريخي تعاقبي، من الاقطاع الى البرجوازيه، كما هو الحال في اوربا الحديثة، بل هو انحدار اصل أبنائه من المنتمين الى المجتمعية السفلى في الغالب، اي من أبناء وتراث "اللادولة"، وغياب الملكية الخاصة، وقد صاروا امام تدخليه من خارج البنيه التاريخيه، لاعلاقة لها بهيكليه الاقتصاد والصراعية المجتمعية العراقية، كما الحال في إقامة منشآت من نوع السكك والميناء، والصناعه النفطية، وهي مشروعات برانيه، تخص حاجات الاحتلال وقواته، وحركته، ومصالحه الصناعية الاستغلالية، مع عامل أساسي ومظهر انقلابي لجأ اليه المحتلون، هو السعي لقلب علاقات الملكية التاريخيه في الريف العراقي، باصطناع نوع من "الاقطاع" الغريب عن البنيه التاريخيه.
لايعرف " فهد" الامي عراقيا، هو والجادرجي، أي شي يمكن ذكره عن العراق الحديث، ولاعن الاليات التاريخيه لارض الرافدين، وهما بالأحرى وجدا لكي يتصرفا كاعداء للوطنيه العراقية التاريخية، متنكرين لها جهلا، همهم السعي لاجبار العراق على طي كل مايتصل بكينونته وبنيته التاريخه، على خصوصيتها وعظمتها، باسم الحداثة والعصر الذين هم منه مجرد خدم أمناء، ومنفذين معادين للذات اتباعا لمايريده ويرغب في تكريسه محتلهم، ومستعمر بلادهم: واذن فلاعراق، الا ذلك الذي يرتبط بما يسمونه "السوق الراسمالية العالميه" وانعكاساتها السحرية، لابل وقد دابت ظاهرة الحداثة الايديلوجيه الحزبيه العراقية الثلاثينيه، على التركيز بصورة خاصة ومحسوبة ومتعمدة، على نفي كل ماله اية صلة بالعراق كينونة، وتجريده منها، ومن خصائص تاريخه، لالحاقه الكلي بالغرب اعتباطا وتوهما، دلاله على العجز إزاء الذات، لا لانعدامها كما يدعون كذبا، بل لعظمتها وكونيتها.
في كتابي " انتفاضة الاهوار في جنوب العراق 1967/1968 .. 45 عاما ومايزال القتال مستمرا" (1) يفتتح الكتاب بالنص التالي :
(( ـ عودة العراق الى الكونية
حدث "انتفاضة الاهوار المسلحة " الذي يتناول هنا، يؤرخ لبداية تاريخية جديدة ، بموجبها يعود العراق الى دوره الكوني الطبيعي في التاريخ الانساني، يعني ذلك أن هذه البلاد، التي أرست أ ُسس المنظور التوراتي، وفيها ظهر "التوحيد "، كانت أ ُبان الانتفاضة، تباشر وضع علامات فاصلة بين عالمين ومنهجيتين، وحيث يحضر "الغيب "من جديد، ويبدأ الفعل اليوم، فإن التفريق والتصادم في الرؤى، والنظر إلى العالم والحياة، يغدو لازما ً وواجبا ً، لايمكن أبدا من دون الإنغماس فيه، ومعالجة تفصيلاته، التوصل الى الدلالات الفعلية لهذا الحدث، وهانحن نبدأ من التفريق، فنعلن بأن العراق دخل مرحلة العودة للكونية، مع نهاية الستينات، ووضع علامة عميقة، تؤكد بدء هذا الانتقال، بالضبط مع الانتفاضة المسلحة عام 1967 / 1968. هذا التعيين، يتفق مع حقيقة أن العراق ليس بلدا ً يتشكل، أو يعبر عن نفسه "محليا"، وهو من هذه الناحية، حالة إستثناء. والتصادم الأعنف الذي نواجهه بهذا الخصوص، هو مابين الأفكار التي تنظر للعراق نظرة محلية، يدعمها مفهوم حديث "أوربي "، وبين الرؤية الكامنة في تضاعيف التكوين، أو النمط العراقي، اي المنهجية، او الرؤية التوحيدية .
إن هذا الرأي لايجد الآن الأسانيد الضرورية، التي تجعله مفهوما، والآراء البالية المستعارة، والعصري منها، أقوى بمالايقاس، برغم تهافتها وتأزمها المتفاقم، فالماضي يثقل الخيال والذاكرة، وهذه مر عليها زمن ليس بالقصيروهي تثبت قواعدها بين المعنيين والاكاديميين. ذلك في حين أن "الرؤية التوراتية " لم تعد حاضرة، ولم تشهد أية وثبة تجديدة مناسبة بعد، إن لم تكن تراجعت كثيرا ً، بعد زمن طويل من الغياب، إكتنفته قرون خالية من جذوة التفكير، وهو مايعرف بقرون الإنحطاط واليباس الحضاري والإبداعي، أي الفراغ وانقطاع الحضور الذاتي المفهومي، مع الحاجة الملحة الى الوثوب خارج الانهيار. الامر الذي أوجد حالة فراغ، هيأت الأسباب والبواعث في العصر الحديث، لتغلغل الأفكار ومناهج النظر الآتية من أوربا الصاعدة. ولاأحد اليوم، أو من قبل، استطاع أن يلاحظ، بأن هذا التردي، إنما يقع حصرا ً في السياق الطبيعي. فهذه المنطقة يحكم تاريخها، نسق من "الدورات الحضارية "، الطويلة المتباعدة زمنيا ً. والدورة الثانية، التي حفزها ظهور الاسلام في الجزيرة العربية، فعلت مفعولها التاريخي وإنتهت قبل قرون، حيث دخل العالم التوحيدي التاريخي من يومها، سياق "الدورة الثالثة " التي هي الآن في طور التحقق )) . والكتاب الذي انقل عن بدايته هذا النص الطويل، صدر في بغداد عام 2015 بينما حزب الجادرجي قد زال من الوجود، وحزب من يطلقون على انفسهم "الشيوعيين" سائر في ركب الاحتلال واوامر بريمر، الحاكم الأمريكي، والحزب مجرد دكانه تاتمر باوامر السفارة الامريكيه في بغداد(2).
وبغض النظر عن مدى نضج او اكتمال موضوعات وركائز المنظور المنوه عنه في النص أعلاه، فانه حري بان يذكر تنبيها الى أصول تبلورات المنظور التحولي ( 3) كما مشار لها هنا، وبالذات كونها تعود الى اكثر من نصف قرن من الظواهر والحدثان، حيث تغدوالرؤية التحولية العراقية التاريخيه هي الحاضرة، مع التمهيدات ومحاولات إرساء المنظور المكتشف تباعا واطرادا، وسط اكثر اشكال المصاعب المقاربة لحدود الاستحالة، ما يجعل منها انبعاثا ثالثا، لابل هي الانبعاث الثالث من تحت الرماد، بعد الدورتين العظميين، السومرية البابلية الابراهيميه، والعباسية القرمطية الانتظارية، وبظل وطاة التوهيمه الغربيه الحداثية الكبرى، وسطوة التعبيرية الاعلى الأحادية الأخيرة الاكثررفعة، وهيمنتها على العقل البشري، وصولا الى كسر الحاجزين المتولدين عن، العجز العقلي التقليدي التاريخي المواكب لعلاقة العقل بالظاهرة المجتمعية، وذلك المتولداليوم من القصور الأخير بإزاء مفعول الآلة، بعد وصول الغرب الحديث اليها، وما تولد عن انبثاقها، مع طبيعتها من اختلال مجتمعي بيئي انتاجي تاريخي غيرمستوعب.
لم يكن للعراق/ ارض مابين النهرين، ان يحضر بما هو، وكذات على نسق حال الجزيرة، او مصر، او حتى ايران المواضع التي تعرف ذاتها استعادة من دورات منقضية، انتهت وجودا وفعلا، فالجزيرة السلفية، ومصر الاتباعية بالذات، هما متبقيات الدورة التاريخيه الثانيه، وركامها المتحرك على وقع الظاهرة الغربية، بينما العراق الموضع الوطن/ كوني ـ وهو بدا متشكلا قبل تلك المواضع كدورة ثالثة لاعلاقة لها بما مضى، ولا بزمن الانقطاع التاريخي ـ لن يتجلى حضورا وذاتا، الا بعدها، وتحديدا بعد الظاهرة الكبرى التي حركتها، فالعراق الكوني هو "مابعد غرب"، وهو مابعد ابراهيمه نبوية، عراق ينطق اليوم وبعد الاف السنين من التاجيل والاستحالة، رافعا في افق التاريخ البشري ماكان منتظرا وموعودا.. "قران العراق".
ـ يتبع ـ ملحق2: الشيوعيه ومسارات "قران العراق"؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صدر عن دار ميزوبوتاميا / بغداد / عام 2015 .
(2) ولاداعي لذكر التخبطات المذهله والمضحكه، من نوع الالتحاق بالقوى الدينيه الإسلامية، مثل التيار الصدري، مايذكر هنا فقط للدلالة على درجة سقوط هذه الثلة من مستعملي الحزب كغاية ومصلحه شخصية، لاعلاقة لها باي مما تدعيه او ترفعه من شعارات كاذبه .
(3) ننوه هنا باعمال للكاتب هي / ارضوتوبيا العراق وانقلاب التاريخ/ دار الانتشار العربي بيروت 2008"/ و " تجديد النبوة والثورة الكونية الاتيه من جهة العراق"/ مطبوع في سوريا بلا ناشر/ يطلب من دار ـ مرتضى مصرـ بغداد. بالإضافة للكتاب المذكور أعلاه عن انتفاضة الاهوار، هذا إضافة لعشرات المقالات المنشورة الى الان في موقع "الحوار المتمدن" على سبيل التمهيد للوطن كونيه العراقية الغائبة منذ سبعة الاف عام، الامر الذي ماكان من المتوقع باية حال ان يصير بالمتناول، وجاهزا فورا، بما انه صيرورة تاريخيه، وليس انعكاسا ببغاويا يتم تعلمه في مدارس الغرب، كما حدث مع الاتباعية النقلية الايديلوجيه، الجاهزة، المقحمه.