حضارات لم تقل كلمتها بعد


حسن مدن
2021 / 3 / 20 - 23:37     

فرّق المؤرخ أرنولد توينبي بين خمس ثقافات أو خمسة أنماط مجتمعية استمرت حية حتى القرن الذي عاش فيه، أي القرن العشرين، وهي الغربية، الأرثوذكسية (وكلتاهما مشتقتة من الحضارة الهلينية)، الإسلامية، ثم الهندوسية، وأخيراً ثقافة الشرق الأقصى .
من حيث التقاسيم الثقافية الكبرى فإن العالم ظلَّ كما هو في قرونٍ سابقة، ما يجعل من الحضارتين العربية والغربية الحديثة المولودتين الأخيرتين في التاريخ . وتالياً يبقى التاريخ مفتوحاً وتعددياً رغم الوتائر السريعة للتوحيد القسري للعالم كما يدعوه زيجلنر في حواره الشهير مع ريجيس دوبريه، وبالتالي فإن الحضارت الكبرى الأربع، غير الغربية، لم تقل بالضرورة كلمتها الأخيرة .
ما يلفت النظر في هذا التقسيم الذي يبدو مقنعاً جداً، هو أن الحضارة الغربية الحديثة، رغم ما هي عليه من قوة ونفوذ وجبروت اليوم، ليست سوى واحدة من بين خمس حضارات أخرى، تفوقها الأربع الباقية في العمر، وتالياً في عمق التقليد ودرجة رسوخها .
في الشرح يقول توينبي إنه في الصراع من أجل الوجود، دفع الغرب معاصريه وظهورهم إلى الحائط، ثم حبسهم في شباك اقتصاده المهيمن ونفوذه السياسي، لكنه لم يجردهم بعد من سلاح ثقافاتهم المتميزة، ولو بالصراخ والعويل، أبقوا على أنفسهم ملكاً لهم، وهذا يعني أن المعركة الإيديولوجية لم تجر بعد .
وما عناه هنا بعدم تجريدهم من ثقافاتهم يجب ألا يؤخذ على أنه منة أو هبة أو تنازل، وإنما أمر لم يقو هذا الغرب على فعله، لأن البنى الثقافية هي عادة من الرسوخ والقوة والصلابة ما يؤهلها للاستمرار والبقاء حتى لو تصدعت البنى المادية التي تستند إليها .
الحق أن توينبي قال هذا الكلام في عقود مبكرة من القرن الماضي قبل أن تستوي العولمة إلى ما هي عليه اليوم من انتشار وتأثير، جعلت العالم والثقافات أكثر تداخلاً وتشابكاً، لكن هذه العولمة لم تفلح حتى الآن في أمر أساسي، هو أنها لم "تتعولم"، حسب وصف الأستاذ جميل مطر .
فما زالت منافعها التي لا مراء فيها محصورة العائد في الدول المتقدمة صاحبة القول والفصل، الداخلة في النطاق الغربي حسب تقسيمات توينبي، وبالتالي فإنها لا تفعل بذلك غير استثارة العوامل الثقافية الكامنة في الحضارات الأخرى التي تأبى الخنوع لنموذج أحادي يسلبها خصوصياتها .