مدخل إلى قضايا الوعي وإشكالياته: الوعي الشعبي بين الحقيقي والزائف (الجزء الثاني والأخير)


مسعد عربيد
2021 / 3 / 18 - 22:21     

الوعي الديني

تحتل مسألة الوعي الديني والدين والتدين وممارسة الشعائر الدينية حيزاً كبيراً في الثقافة العربية والوعي الشعبي العربي. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي قام بها مفكرون كثيرون عبر تاريخنا، حديثه وقديمه، في معالجة هذه القضايا وإشكالياتها، ما زالت هذه المسألة بحاجة إلى المزيد من الدراسة والجدل وخاصة فيما يتعلق بتأثيرات الدين ومؤسساته في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية العربية.

ولتبسيط هذه المسألة الشائكة، نقدم فيما يلي بعض الملاحظات في محاولة لتعريف وفهم الوعي الديني بعيداً عن المفاهيم الثيولوجية المجردة، مستخدمين مفاهيم شائعة بين الناس ومتوافق عليها في أغلب الأحيان.

□ من المعروف أن الديانات كانت دوماً موجودة بشكل أو بآخر في المجتمعات البشرية منذ نشأتها، وأن فكرة الله والوعي به رافقت الإنسان والحضارات الإنسانية في مسيرتها لآلاف السنين وارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالعديد من أفكاره (الإنسان) ومفاهيمه ومشاعره مثل المحبة، السعادة، الخير، الحكمة، معنى الحياة، الآخرة ... وغيرها.

□ يطرح الدين فكرة الإيمان بالله أو الخالق والاعتقاد بأنه موجود، على أنها فكرة بسيطة غير قابلة للجدل وكحقيقة أزلية تقدم الإجابات على كافة أسئلة الوجود والواقع. وعلى ركيزة هذه العلاقة مع الخالق، تلبي الديانة حاجة إنسانية أساسية وهي الشعور بالطمأنينة والأمن الداخلي والنفسي، وهكذا يضحى الإيمان (المعتقد الديني) ضمانة لطمأنينة الإنسان وسعادته ويصبح ركيزة أساسية لوعيه الديني.

□ على خلاف الفلسفة والعلم، لا يسعى الدين أي الإيمان بالله أو الخالق و الوعي به إلى تفسير ظواهر الحياة والكون والطبيعة وقوانينها، بل يعزوها إلى القدرة الإلهية أو الإرادة الربانية، ويرتكز على الإيمان أو الحدس أو الشعور، لأنه في جوهره يسعى إلى العلاقة مع الله والتقرب منه. كل هذا يجعل الوعي الديني مختلفاً ومتميزاً عن غيره من أشكال الوعي التي، من حيث كونها حالة عقليّة وإدراكية، تعمل على فهم الواقع من خلال وسائل اتّصال الإنسان ببيئته.

□ في تفكيك قضايا الدين وحين نحاول دراسة تأثيراته على الفرد والمجتمع، يحسن بنا أن نميّز بين مستويات ثلاثة:

1) المعتقدات الدينية، وهي مجموعة الأفكار والمعتقدات التي تتسم بها ديانة معينة، مثل الركائز الخمسة في الإسلام (الشهادة، الصلاة، الزكاة، الصوم والحج) أو عقيدة أن "المسيح ابن الله" أو "الثالوث المقدس" في المسيحية، وما شابه ذلك في الديانات الأخرى؛
2) الطقوس والشعائر الدينية، والتي قد تختلف من ديانة إلى أخرى، ولكنها تجمع فيما بينها العديد من العناصر المشتركة مثل طقوس الصلاة والتعبد والموت والدفن والزواج وغيرها؛
3) ) الخبرات الدينية، أي ما يعيشه الفرد من تجارب ومشاعر وقناعات في علاقته مع الله أو الخالق.

يتجلى الوعي الديني في هذه المستويات الثلاثة في تجليات تتباين من ديانة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر، وكذلك من حقبة تاريخية إلى أخرى، ولكنها تجتمع على مشترك هو ببساطة: أن الله موجود، بل هو واقع وليس مجرد عقيدة مجردة، وكثيرون يعتقدون أنهم قد سمعوا صوته وشاهدوا صورته ولمسوا مظاهر قوته وقدرته الفائقة على اجتراح العجائب وشفاء الإنسان من الأمراض ... وما شابه.

الدور الاجتماعي - السياسي للدين

توقفت عند هذه الملاحظات، ليس لأنها موضوع بحثنا، بل لأنني أعتقد أنها تأسس لفهم موضوعي لمكانة الدين ودوره في حياتنا، ولذلك فهي تشكّل أرضية ضرورية قبل الولوج إلى المسألة التي تعنينا وهي العلاقة بين الدين ومؤسسته، من جهة، والبنية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع، من جهة أخرى، بعيداً عن الجوانب الإيمانية والروحانية للدين. وعليه، فإننا لا نبحث في صحة المعتقدات الدينية، بل نناقش تأثيرات الدين الاجتماعية والسياسية ودور هذه التأثيرات في تكوين الوعي (الفردي والجَمعي) وتطوره.

لهذه الأسباب مجتمعة، وعلى خلاف الرأي الذي يقول بأن الدين شأن خاص بالفرد، فإن علماء الاجتماع يجمعون على أن الدين أيضاً مؤسسة اجتماعية، وأنه يمثل مجموعة من المعتقدات والقيم والممارسات المنظمة والمتماسكة (أي الممأسسة) والتي تلبي احتياجات وقيم اجتماعية أساسية. بعبارة أخرى نقول إنه كما أن الأوضاع الاجتماعية والسياسية تؤثر في أفكار الناس وخياراتهم، كذلك فإن الدين يوثر بالفرد والمجتمع ويتاثر بهما أيضاً.

الدين السياسي وتأثيراته على الوعي الشعبي

لتوضيح فكرة التوظيف السياسي الدين، والتمييز بين الدين كعقيدة إيمانية للفرد وتوظيفه في خدمة أهداف سياسية واجتماعية، ومنعاً للالتباس في هذا الموضع ذي الحساسية المفرطة في مجتمعاتنا المتدينة والتقليدية، نبدأ بضرورة الانتباه والتمييز في مستوييْن:

الأول، التمييز بين الدين في أبعاده الإيمانية والروحانية كعلاقة بين الفرد والخالق، من جهة، ومن الجهة الأخرى دور الدين والمؤسسة الدينية في المجتمع والسلطة السياسية وتوظيفه في خدمة غايات ومصالح سياسية واجتماعية وإيديولوجية. لأن الوعي الديني، كما ناقشنا في أكثر من مكان، ليس مجرد انعكاس للمشاعر أو المعتقدات الدينية، بل نراه يتبلور ويتمأسس ويأخذ بنية منظمة ومتطورة وشديدة التماسك.

والثاني، التمييز بين "الدور التقليدي" للدين والمؤسسة الدينية من جهة، ومن الجهة الثانية التطورات التي ظهرت في بلادنا منذ بداية سبعينيات القرن الماضي في تشكّل وتبلور قوى الدين السياسي ودورها كقوى ثورة مضادة مرتبطة بالمركز الرأسمالي - الإمبريالي وسياساته وأجنداته، ومعادية للقومية والوحدة العربيتين وقضايا شعوبنا في تحرير الأراضي العربية المحتلة وإنجاز التنمية وإنهاء التبعية للمركز الرأسمالي. وتتجلى قوى الدين السياسي هذه في أنظمة حاكمة، وأحزاب وتنظيمات سياسية ودعوية وإرهابية مسلحة، وفي عديد من التيارات السلفية والأصولية والإرهابية، ومؤسسات إعلامية وثقافية وغيرها.

في قلب هذه المسألة، نشهد كيف يتم استخدام النصوص الدينية وتوظيفها لخدمة أغراض سياسية واجتماعية، وكيف تمّ تكاثر هذه النصوص وما نُسب إليها عبر حقبات التاريخ الإسلامي مثل أحاديث الصحابة والأتباع والتي أصبحت في اعتبار الكثيرين جزءً من النصوص الدينية المقدسة. كما نلحظ، بما لا يقل أهمية، دور تأويل وتفسير هذه النصوص وتوظيفها في ظروفنا الاجتماعية والسياسية الراهنة، مع أنها (النصوص) جاءت في سياق بنية اجتماعية تاريخية معينة، وكانت نتاجاً لأوضاع اجتماعية وسياسية في تلك الحقبة وخضعت لتأثيرات تلك البيئة.

هكذا دخل الدين عبر الحقبات التاريخية المختلفة إلى الصراعات السياسية، وتم توظيفه وتوظيف نصوصه في خدمة غايات سياسية، كما حدث، على سبيل المثال، حين تَحَول الحديث إلى "نص ديني" ذي أبعاد خلافية في الصراعات الدينية والسياسية. وهو ما يفسر هذا الكم الهائل من الفتاوي التي تتفاوت وكثيراً ما تتناقض، فنرى كيف يختلف ويتصارع الفقهاء في فتاويهم وآراءهم في تفسير الموقف ذاته والحدث ذاته.

بناءً عليه، يمكننا الاستناج:
(1) يجمع كثيرون من المفكرين والفقهاء على أن المواقف من النصوص الدينية بعد القرآن، من حيث نشأتها وتكوينها، جاءت كقرارات وخيارات في مناخ الصراعات السياسية من أجل السلطة والمنافسة على احتكار الحقيقة الدينية؛
(2) أن المرجع الأساسي وصاحب القول الفصل في هذه الحالات كان الفريق المنتصر في الصراع على السلطة الذي إدّعى أنه يملك الحقيقة وبالتالي يمثل الصيغة (المرجعية) الرسمية للدين.

نختم هذه الفكرة بالقول بإنه لا يمكننا قراءة هذا المشهد وراهنيته في الواقع العربي وتأثيراته على أوضاع شعوبنا، إلاّ إذا إدركنا مكانة الوعي الديني على المستوى الشعبي والدور الذي يلعبه في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. فإذا كان الوعي متدنياً وهابطاً معرفياً وثقافياً ودينياً، فإنه يصبح من السهل تقديم تفسيرات وقراءات ميكانيكية للنص الديني والتراث، بل يمكن، وهذا هو الأخطر، تأويلها ووضعها في خدمة أغراض سياسية وإيديولوجية. وإذا ما أضفنا إلى ذلك تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، يصبح من السهل فهم ظاهرة العنف والإرهاب والاقتتال الطائفي والمذهبي التي تتولد عن التطرف والتعصب، وتوظيفها سياسياً واجتماعياً من قِبَل قوى الدين السياسي.

الوعي الديني كمصدر للتأثير في المجتمع والسياسة

لعل أهم ما يتميز به الوعي الديني، على الأقل من ناحية تأثيراته على الإنسان والمجتمع، هو كونه وعياً جَمْعياً يشارك فيه المؤمنون وأتباع الديانة الواحدة، ما يُسمى أحياناً ب "الإخوة الإيمانية". فعندما ينمو الوعي الديني بين هؤلاء المؤمنين في إطار ديانة واحدة ومؤسسة دينية واحدة، إلى مستويات عليا من الإيمان والتقوى والتعبد، فإنه يصبح مصدر وجودهم بل كثيراً ما يضحى مصدر كل شيء في حياتهم، وعند بعضهم يصبح غاية الحياة نفسها. وهنا يشكّل الوعي الديني ركيزة متينة للرابطة الوثيقة بين أتباع العقيدة والمؤسسة الواحدة، والذين يلتقون بقوة وعفوية على أرضية مشتركة ورباط الأخوة المتينة والهدف المشترك الجامع. وأحياناً يشاركهم في هذه الرابطة الوثيقة أتباع ديانات أخرى، وهو ما يشكّل نسبة كبيرة من المجتمع وربما أغلبيته، فتقوم بين هذه الجموع الغفيرة شبكة علاقات قوية قوامها الترابط المتبادل والهدف المشترك.

تفضي بنا هذه المسألة إلى فهم القدر الكبير من تأثيرات الوعي الديني على الإنسان والإنسانية إذ أن هذه التأثيرات لا تقتصر على ديانة واحدة مثل الإسلام أو المسيحية، بل تشمل مجمل الديانات على الرغم من تعددها. وسوف نعود لاحقاً تحت عنوان "الوعي الحقيقي والوعي الزائف" إلى مناقشة الوعي الديني، لا لمزيد من الاستفاضة في الشرح، بل لتبيان ما حلّ به من تزييف وتوظيف لخدمة أغراضٍ سياسية واجتماعية وأيديولوجية.

الوعي الحقيقي والوعي الزائف

لا بدّ من الإشارة في البداية إلى أننا لا نناقش هذين الشكلين من الوعي في فضاءٍ نظري مجرد، بل في سياق الواقع العربي وواقع الشعوب العربية، وتحديداً في سياق آثارهما (أي الوعي الحقيقي والزائف) على الوعي الشعبي العربي والحاجة الملحة لبناء مشروع تثقيفي تنويري شعبي يأخذ بالجماهير العربية إلى حيز الفعل السياسي والتغيير الجذري للأوضاع المزرية التي تعيش فيها.

وبالرغم من أن ظاهرة الوعي الزائف الذي يسيطر، في العديد من تجلياته، على العقل الجَمْعي لا تفوت المراقب لأوضاع شعوبنا في الراهن العربي، فإن الّذين تنبّهوا لها هم قلّةٌ، بينما ظلت الغالبية العظمى من الناس ضحية تشوية وعيهم وتزييفه. فقد قام بعض المثقفين والمفكرين بالتنبيه والتحذير من هذه الظاهرة وعملوا على كشف تجلياتها في الواقع العربي، وهناك محاولات وكتابات جدية وحصيفة في هذا الاتجاه، ولكننا بحاجة إلى المزيد لمعالجة هذه الإشكالية وإعادة الأمور إلى نصابها.

تكمن أهمية التمييز بين هذين الشكلين من الوعي في الناحية العملية لبناء مشروع تثقيفي شعبي وتنويري عربي. فمثل هذا المشروع، يتطلب بناء الوعي الحقيقي، النقدي والجذري والثوري، كركيزة رئيسية وشرط أساسي في استعادة دور الجماهير. غير أن هذه المهمة باتت مستحيلة دون التخلص من أوهام الوعي الزائف الذي أصبح مستشرياً في أبعاد حياتنا المادية والعقلية والروحية، وقد أرهقت حمولتة، على مدى عقود، مسيرة الجماهير وحَرَفتها عن مسارها في النضال من أجل التغيير، وغدا الوعي الزائف يُحْكم سيطرته على الحياة المعنوية والمادية للإنسان.
***
الوعي الحقيقي والأمين هو الوعي بحقيقة القضايا المطروحة حول الإنسان وواقعه وبيئته، وهو ما يتطلب الوقوف على المعلومات والمعطيات الصادقة والحقيقية وإدراكها. أما ب"الوعي الزائف"، فإننا نقصد ذلك الذي لا يدرك الأمور على حقيقتها، حين لا تتوفر المعلومات والمعطيات الصادقة، أو حين يتم تشويهها أو تقديمها على نحو خاطئ أو كاذب، وهو ما يؤدي إلى تشويه الموقف من القضايا واتخاذ موقف خاطئ، أي أنه يؤدي إلى تكوين الوعي الزائف. وينبني هذا الوعي على مجموعة من الأوهام ويتمثّل بالأفكار والمفاهيم التي يتبنّاها الشخص ويقتنع بها رغم أنّها لا تتناسب ولا تتطابق مع الواقع الذي يعيشه، على النقيض من الوعي الحقيقي والواقعي الذي يتمثّل بالفهم الصحيح للواقع والأشياء والقضايا.
وعطفاً على ما ناقشناه أعلاه تحت عنوان “الوعي والإنتاج عند ماركس”، لا بدّ لنا من الإقرار بأن المفاهيم الماركسية، ومن منطلق فهمها للوعي، قد ساهمت في العثور على المسار الحقيقي والتاريخي لكفاح الشعوب في القضاء على كافة أشكال الظلم والاستغلال. فتكوين الوعي الحقيقي والقدرة على التمييز بينه وبين الآخر الزائف، يأخذ الناس إلى يقظتهم ووعيهم لدورهم وهويتهم ومصالحهم. لذلك، كان الوعي الحقيقي هو المرشد للكثير من الحركات التغييرية في حياة الشعوب والمجتمعات البشرية عبر التاريخ: حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار والإمبريالية، والنضال ضد التمييز العنصري وفوقية العنصر الأبيض في أفريقيا والولايات المتحدة، ونضال البروليتاريا ضد استغلال رأس المال في كافة أنحاء العالم ... وما عدا ذلك من أشكال الظلم والاستبداد.
آليات تزييف الوعي

تزييف الوعي هو حصيلة لمسيرة طويلة من التطورات التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية تتداخل فيها أسبابٌ وعواملٌ متعددة. وليس من المفيد ولا من الموضوعية والدقة أن نحصر هذه الأسباب والعوامل في واحدٍ دون الآخر. فليست العوامل الخارجية (الاستعمار والهيمنة الإمبريالية مثلاً) وحدها هي المسؤولة، ولا تلك العوامل الداخلية (التخلف، الأنظمة الرجعية والاستبدادية التابعة للمركز الرأسمالي - الإمبريالي، الثقافة ودور المثقف وغيرها). بل لا بد من اعتبار كل العوامل مجتمعة، الخارجية والداخلية، الذاتية والموضوعية، وكيف تفاعلت فيما بينها في تعطيل الوعي الشعبي وتزييفه.

ليس سراً أنه من أبرز العوامل التي تشكّل الوعي الزائف لدى عامة الناس هو الإعلام والمؤسسات التربوية والتعليمية والدينية والثقافية والفنية وجزءٌ لا يستهان به من النخبة الثقافية من مثقّفين وأدباء وكتّاب. وبقدر ما يتسع له المجال هنا، سنركز على أربعة عوامل ساهمت في تزييف الوعي دون الإدعاء بأنها الوحيدة، ولكنها من وجهة نظرنا عوامل رئيسية، إضافة إلى أنها عوامل أساسية في خلق وعي جديد. وتتمثل هذه العوامل في الدور الذي يلعبه كل من:
أ) التربية الأسرية
ب) النظام التعليمي والتعليم التلقيني
ج) الثقافة والإعلام
د) الدين السياسي كآلية لتزييف الوعي

أ) دور التربية الأسرية

لا تقتصر المعرفة على ما نتعلمه ونتلقاه من خلال عملية التعليم في المدارس والجامعات، بل هي إرث تتداوله الأجيال، جيلاً عن جيل، وهذا ما يتم غالباً في إطار الأسرة والأسرة الموسعة expanded family وقبل التحاق الطفل بالمدرسة.

يجمع أطباء الأطفال المتخصصون في علم نمو الطفل child development على أن
السنوات الأولى من حياة الطفل هي الأكثر تأثيراً وحسماً في تكوين الطفل ونموه. وهذه السنوات هي فترات الطفولة المبكرة الواقعة بين ولادة الطفل وبلوغه الثامنة من عمره. غير أن السنوات الخمس الأولى بشكل خاص هي الأكثر تأثيراً وأهمية فيما يتعلق بنمو الطفل وتنمية قدراته ومهاراته الجسدية والفكرية والعاطفية والاجتماعية. كما أن العديد من الأبحاث الطبية في تطور الدماغ البشري تشير إلى أن السنوات الثلاث الأولى هي أهم سنوات نمو الطفل.

لقد أشار سيغموند فرويد (1856 – 1939) منذ عقود في العديد من إبحاثه حول تكوين عقل الطفل وتطوير معرفته، مؤكداً أن الإنسان يكون "مُنْتَجاً صغيراً في سن الرابعة والخامسة" وما سيفعله في سنوات حياته اللاحقة لن يكون سوى "أن يكشف تدريجياً عما كان بداخله سلفاً". وهي ظاهرة كثيراً ما نشاهدها لدى الأطفال الذين يرافقون ويجالسون أخوتهم وأخواتهم الأكبر منهم سناً، فيتعلمون عن طريق المحاكاة القراءة أو الكتابة أو الرياضيات وغيرها من العلوم دون أن يفهموا معانيها في تلك المرحلة المبكرة من نموهم، ولكن سيكون لتراكم هذه المعرفة والخبرات أثراً في مستقبل حياتهم وتعليمهم.

لا بد هنا من الإشارة إلى أن هذا الاستنتاج يحمل، بالطبع، الكثير من التعميم، إذ أن نمو الطفل يتفاوت ايضاً بناءً على عمره وأسلوبه في التعلم وشخصيته واستجابته وتفاعله مع عوامل البيئة العائلية والاجتماعية التي ينمو فيها ويتكسب فيها خبراته الأولى.

ب) النظام التعليمي والتعليم التلقيني

ليس أسلوب "التلقين وحشو المعلومات" في المناهج التدريسية في مدارس بلادنا وجامعاتها وحده الذي يخضع لهيمنة أيديولوجيا الطبقة الحاكمة والبنية الفوقية للنظام الحاكم، بل إن مجمل العملية التعليمية والتربوية تخضع لهذه الهيمنة وإملاءاتها في تكوين الأركان الأساسية لوعي الأجيال العربية الناشئة ومداركها المعرفية والثقافية. كما أن هذا النظام التعليمي وما يتضمنه من نهج تربوي ومواد تعليمية يعكس تلاقي مصالح السلطتين، السياسية والدينية وإحكام سيطرتهما على المجتمع. وهو ما يتمظهر منذ عقود في جمود الأنظمة التربوية والتعليمية في بلادنا، ما أدّى إلى غياب حرية الفكر والتعبير وضحالة فكرية ومعرفية وغياب النقاش حول قضايا الفكر والإنسان والمجتمع.

لعل التعليم التلقيني هو الأخطر والأكثر تأثيراً على الأجيال الناشئة ومستقبلها ومستقبل بلادنا بشكل عام. وليست بلادنا الوحيدة ولا الاستثناء، بل نجد حالات مماثلة ومشابها في كل الأنظمة الحاكمة في العالم.

يدخل الطفل المدرسة وفي مخزونه ما تعلمه في سنوات عمره السابقة في إطار بيئته الأسرية، وهنا نقف على جوهر مهمة التدريس حيث تصبح مهمة المُدرس أن يكشف عن المعرفة والمعلومات ويعرضها على العقول الصغيرة والشابة، ثم يدعوها ويعينها على فهمها وتفسيرها. أي أن المدرس يقدم المعرفة لتلاميذه، ثمّ يفسح لهم المجال لصقلها وإغنائها. بعبارة أخرى، ووفق الكثيرين من المتخصصين في نظريات ومسائل التربية والتعليم، فإن مهمة المُدرس تكمن في تسهيل وصول المعرفة إلى العقول وإزالة العوائق التي تحول دون فهمها وتقبلها، أكثر من جعل الأشياء والمعارف مفهومة وتلقين هذا الفهم أو التفسير للتلاميذ أو فرضه على عقولهم.

يقوم الأسلوب التلقيني، إن جاز التعبير، على اكتساب التلاميذ للمعرفة عن طريق فرض المعلومات والمحاكاة: محاكاة الآخر أو الأكبر أو الأكثر سلطة وقدرة مثل المُدرس وغيره. ولا يقتصر هذا الأسلوب في التعليم على التلاميذ الصغار في سنوات التعليم الإبتدائية، بل نشاهده في مراحل التعليم الثانوية والجامعية أيضاً.

بالمناسبة، ودون الرغبة في الخروج عن موضوعنا، بوسعنا أن نذهب إلى ما هو أبعد من تأثيرات هذا الأسلوب في مجال التربية والتعليم: إلى التربية الدينية في مجتمعاتنا وغيرها من المجتمعات البشرية عبر العصور دون إستثناء. أليس هذا ما يحصل فعلاً في تلقين النصوص الدينية وتقديسها، حيث يجري تردادها وإعادة قراءتها مراراً وتكراراً آلاف المرات خلال حياة الإنسان ومنذ نعومة أظفاره، فيحفظها عن ظهر قلب، وفي كثير من الأحيان دون أن يكون قادراً على فهمها أو التفكير بمعانيها أو الاقتناع بها.

من هذا المنظور، يصبح التعليم التلقيني والسلطوي عائقاً إذ يتحول "الدرس" أو ما يقرره المنهج التدريسي إلى معرفةٍ ينبغي إعادة إنتاجها بشكل صارم وبعقل مغلق، دونما اعتبار للعملية التي تُمكّن من إعادة الإنتاج هذه، أي القدرة على التفكير وإثارة التساؤل والحق في النقد والتفكير النقدي. وهذا ما يثير سؤال وإشكالية مهنة التدريس ومسؤوليتها في تنمية القدرات التفكيرية للتلميذ، وليس مجرد عرض المعلومات أو المعرفة بشكل تلقيني مطلق.

هناك حاجة قصوى لمناقشة هذه المسائل في واقعنا العربي من منظور مراجعة وتقييم الأساليب والمناهج التدريسية والتربوية وطبيعتها ودور المُدرسين في تعليم الأجيال العربية الناشئة. وبوسعنا أن نضيف أيضاً حق هؤلاء المُدرسين في ممارسة دورهم في صياغة المناهج والسياسات التعليمية والتربوية وتنمية مهاراتهم وقدراتهم التعليمية من خلال الالتحاق بدورات علمية وأكاديمية والمتابعة المستمرة لكل جديد في نظريات التعليم وعلم النفس التربوي وغيرها من العلوم والتخصصات ذات الصلة. فمن الملاحظ مثلاً، أن كثيرين من المُدرسين في بلادنا لا يبذلون جهداً في تثقيف أنفسهم والاطلاع الدائم ومتابعة التطورات في شؤون التعليم والتربية والتاريخ والسياسة والمجتمع، وهو ما يحتاجون إليه في تدريس طلابهم ورفع وعيهم. بل إن كثيرين منهم لا يتقنون اللغات الأجنبية كي يتمكنوا من الاطلاع على الأعمال والمؤلفات في لغاتها الأصلية، وكل هذا يساهم في تجهيل المدرسين الذين يناط بهم تدريس أبنائنا.

ج) الثقافة والإعلام

يحتل الإعلام في عالم اليوم، وفي واقعنا العربي بشكل خاص، موقعاً مركزياً إذ أنه يعمل على مدار الساعة على تشكيل وعي المواطنين، والأخطر تزييف هذا الوعي. ومن المظاهر اللافتة في الإعلام العربي، وبالطبع ليس فيه وحدة بل هي سمة العصر في الإعلام الغربي أيضاً، هو اللهاث وراء الأحداث المتسارعة دون التوقف للتفكير والتحليل أو الذهاب إلى الأعمق لفهم تأثيراتها الحقيقية على القطاعات الكبيرة من المجتمع والشعب.

قد يجد المرء بعض التفسير لهذه الظاهرة في تسارع وسخونة الأوضاع في بلادنا على مدى عقود من الأحداث والتطورات الجسيمة المتتالية بدون توقف، غير أن مؤثرات الإعلام العربي على وعي المواطن والشارع العربيين قد تعاظمت في العقود الثلاثة الأخيرة لعدة أسبابٍ وعوامل أهمها:
- ارتهان وسائل الإعلام لمَنْ يملكها وتوظيفها في مصلحة القوى المالية/الاقتصادية والسياسية التي تمولها وتسيّرها وفق نهجها ومصالحها؛
- المؤثرات التقنية في الإعلام، وبشكل خاص تقنية الصوت والصورة؛
- الضخ المستمر والتكرار مما يضاعف من التأثير الكمي على المتلقي على نحو يشبه الانفجار المعلوماتي بآلاف الرسائل يومياً؛
- هذا بالطبع بالإضافة إلى انتشار وسطوة الشبكة العنكبوتية وتشعباتها من عالم افتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي؛
- تحوّل الكثيرين من المثقفين العرب على اختلاف أدوارهم وألوانهم - المفكر والفيلسوف، أو الكاتب والشاعر، أو الناقد والفنان والرسام – ليصبحوا مأجورين للإعلام والنفطي منه على وجه الخصوص، وأداة من أدواته، وبوقاً من أبواقه؛
- خلو الساحة السياسية والفكرية والإعلامية والثقافية بعد هزيمة الأحزاب والتنظيمات والتيارات القومية والشيوعية واليسارية، وانخراط كثر من كوادرها في المشاريع والمؤسسات الرجعية واليمينية والأجنبية الممولة من حكومات الغرب الاستعماري؛
- سلعنة الثقافة والفكر في عالم إستعراضي يصبح فيه الإنسان والفكرة سلعة.

د) استخدام الدين كآلية لتزييف الوعي

تبدأ عملية التربية الدينية في مجتمعاتنا وغيرها من المجتمعات، منذ نعومة أظفار الطفل في إطار الأسرة ولاحقاً في دور العبادة والمؤسسة الدينية، ومن خلال المؤسسات التربوية والتعليمية من مدارس وجامعات ووسائل الثقافة والإعلام. ولا تتوقف هذه العملية، بل تستمر في إطار الحياة الاجتماعية والأنشطة المجتمعية عبر الحضور الهائل للدين والتدين والمؤسسة الدينية وما تمتلكه من وسائل الإعلام والثقافة والدعاية.

كل هذا يساهم، في مرحلة مبكرة من نمو الإنسان وتكوّن وعيه، في زرع المفاهيم الدينية وترسيخ أهداف الدين وممارساته، وهو ما يلعب دوراً هاماً في تكوين وعي الفرد والمجتمع وكذلك في صياغة القيم السائدة والسلوكيات الفردية والمجتمعية. ويتعاظم دور التربية الدينية وأثرها في تكوين الوعي وحياة الفرد والمجتمع، إذا ما أضفنا أنها تتميز بأسلوب التلقين وحفظ النصوص الدينية عن ظهر قلب دون الأخذ بالحسبان أننا نعيش اليوم في سياق زماني ومكاني مختلف عن الحقبات التاريخية الماضية، ودون جهد في إمعان العقل والتفكير النقدي أو مناقشة الأفكار أو تبادل وجهات النظر بشكل حواري حيث يصبح العقل البشري متلقياً سلبياً لما يُقدم له من أفكار ومعلومات.

وتحت شعارات التعليم الديني والتوعية الدينية تنتشر في بلادنا مشاريع ومؤسسات تتخذ لنفسها لبوس التوعية الدينية والتبشير بالقيم الخيِّرة، ولكنها كثيراً ما تعمل في خدمة أجندات وغايات سياسية وإيديولوجية تزيد من الاحتقان بين مختلف الأديان والطوائف والمذاهب وتحرض على التحارب بينها. ففي حين تتغطى هذه المشارع والمؤسسات بغطاء الدين وتدّعي نشر ثقافة العيش المشترك والتسامح بين الإديان، نراها ترفض الآخر وتعاديه وتكفّره وتدعو إلى التطرف والإرهاب. وقد شهدنا في العقود الأخيرة انتشاراً واسعاً لهذه النشاطات والجهود تحت أشكال وآليات مختلفة تدّعي أنها دعوية توعوية وأنها تعمل على نشر التوعية الدينية.

في هذا السياق، لا ينبغي أن يفوتنا أن القوى الاستعمارية الغربية كانت السبّاقة في مشروع غزو بلادنا منذ القرن التاسع عشر وقبله تحت شعارات نشر الدين وقيّم المحبة والتسامح أو حماية الإقليات الدينية من الاضطهاد في ظل الاحتلال العثماني (يقصدون غير المسلمة أي المسيحية خصوصاً في بلاد الشام). ولهذه الغاية جاءت إلى بلادنا "إرساليات تبشيرية" وكثير من الكنائس والمؤسسات والتنظيمات التي موّلها الغرب الاستعماري واتخذت لبوساً دينية أو خيرية وأكاديمية. وما زالت هذه المؤسسات تعمل بين ظهرانينا حتى يومنا هذا تحت شتى المُسميات والعناوين والأقنعة من أجل تعزيز وتنفيذ أجندات خارجية استعمارية معادية لمصالح شعوبنا الوطنية أو الثقافية والحضارية.

لقد قام عدد من المفكرين والكتّاب بمحاولات للكشف عن تزييف الوعي الديني وتوظيفه لخدمة أهداف سياسية، ولكن هذه المحاولات لم تذهب إلى حلول جذرية لهذه المسألة ولم تتجاوز كونها طروحات فكرية وتصورات تدعو إلى تنمية "الوعي الصحيح" خصوصاً بين الجيل الشاب عبر آليات تجديد الخطاب الديني والتخلص من الفتاوي المضللة واستعادة دور الأسرة والمؤسسات التعليمية في نشر "الوعي الديني الصحيح".

تجليات الوعي الزائف في الواقع العربي: أمثلة

لعلنا نأتي الآن إلى ما هو الأهم في هذه الدراسة: الوعي الزائف أو الوعي المُزيف. ولتقريب الفكرة إلى ذهن القارئ وتوضيح ما نقصده بالوعي الزائف، ننتقل مما قد يبدو أفكاراً تجريدية إلى تناول بعض الأمثلة في واقعنا العربي، ونورد عينة من المقولات والشعارات والأوهام الكاذبة والتي أصبحت "مُسلمات" لا يرقى إليها الشك في اعتقاد الكثيرين.

قد تبدو هذه الأمثلة للوهلة الأولى منفصلة عن بعضها أو أنها تتناول قضايا غير مترابطة، ولكنها في حقيقة الأمر تترابط فيما بينها وتشكّل ساحات وجبهات من الصراعات المشتركة. وإذا حاولنا تجزءتها أو طمس عناصرها أو انتقاء بعضها، فإننا نكون مشاركين، بشكل أو بآخر في تزييف الوعي. فالوعي، كما الفكر، لا ينفصل عن حركة الواقع، وهذا الفصل، حين يحصل، لا يخدم الصراعات الاجتماعية والطبقية في المجتمع، بل يُوظف عملياً في تبرير سياسات وأيديولوجيا تقف في هذا الخندق أو ذاك في تلك الصراعات.

■ المقولات الاستعمارية الكلاسيكية
تلك التي تدّعي أن الاستعمار الغربي جاء ليساند شعوبنا و"يأخذ بيدها" من أجل احراز التقدم والتطور وصولاً إلى الحرية والديمقراطية وغيرها. وقد ظلّت هذه المقولات سائدة في الثقافة والوعي الشعبيين في البلدان المستعمَرة، وما زالت حتى بعد الرحيل الشكلي للاستعمار.

■ الطبقات الشعبية تخدم أعداءها
كثيراً ما نرى أن الطبقات الشعبية الفقيرة (العمال والفلاحون والفقراء ...) تدعم الطبقات التي تستغلها وتقع فريسة الوعي الزائف. وقد رأينا في التاريخ المعاصر العديد من الأمثلة الصارخة على ذلك، ثلاثة منها ما زالت حاضرة في الأذهان وجديرة بالدراسة وأخذ العبر:

أ) تصويت دعم العمال الألمان في ثلاثينات القرن العشرين للحزب النازي (حزب العمال الألماني الاشتراكي الوطني) والتصويت لصالح هتلر ما مكَّنه من الوصول إلى السلطة ومنصب مستشار ألمانيا عام 1933.
ب) انتخاب قطاعات كبيرة من العمال والفلاحين والفقراء الأميركيين ل دونالد ترامب، الممثل المباشر لرأس المال الاحتكاري في الولايات المتحدة، وما زالت تؤيده وتدعم سياساته.
ج) وكذلك انتخاب بوريس جونسون، رئيس حزب المحافظين، رئيساً لوزراء بريطانيا
بدلاً من جيرمي كوربن زعيم حزب العمال البريطاني.

ولا نقصد هنا تجاهل او التقليل من أهمية العوامل الأخرى التي ساهمت في الوصول الى هذه النتيجة. فلو أخذنا، على سبيل المثال، دعم العمال الألمان في ثلاثينات القرن العشرين للحزب النازي، لوجدنا عوامل هامة تسببت في هذا الدعم مثل: (1) الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية في فترة الكساد الاقتصادي الذي عمّ البلاد في تلك الآونة التي سبقت ورافقت وصول الحزب النازي إلى السلطة (1933)، ونسبة البطالة العالية التي فتكت بالعمال والفقراء في المانيا، (2) تجاوب الحزب النازي مع مطالب ومصالح هذه الطبقات والتركيز عليها في عمله ونشاطاته الجماهيرية وهو الذي برع في أساليب الدعاية ورفع الشعارات التي تجذب الطبقة العاملة وتشدها إلى الحزب ودعمه، (3) بالإضافة إلى الشعبية الواسعة التي تمتع بها الحزب النازي بين صفوف الطلاب في الجامعات الألمانية.

والحقيقة أن هذه العوامل مجتمعة تأكد ما ذهبنا إلية: وهو دور الطبقة المهيمنة والحاكمة في تزييف وعي العمال والفقراء وجذبها لتأييد سياساتها.

■ مشاركة الفقراء في الحروب الإمبريالية
لعله من أفظع تجليات الوعي الزائف هو مشاركة الطبقات الفقيرة في الولايات المتحدة وبعض فئات الشعب الأميركي من السود والملونين والمهاجرين، في الحروب العدوانية الأميركية في العقود الأخيرة بدءً من الحرب الكورية، مروراً بحرب فيتنام ووصولاً الى الحروب على العراق وأفغانستان وغيرها.

يقدم كثيرون ذريعة تفاقم الأوضاع الاجتماعية - الاقتصادية (الطبقية) لهذه الفئات وحاجتها لتأمين مصدر دخلها ومعيشتها بالتحاقها بالقوات الحربية الأميركية، وهي ذريعة لا تبرر قتل ملايين الأبرياء وتدمير بلدان ومجتمعات برمتها. كما أنها لا تختلف في الجوهر عما أتينا على ذكره أعلاه في حديثنا عن دعم الطبقة العاملة الألمانية لهتلر وحزبه النازي. ناهيك عن أن مشاركة الطبقات الشعبية والفئات الاجتماعية الفقيرة في الحروب الأميركية تنطوي على سقوطها (الطبقات) في عنصرية الرجل الأبيض في نظرته إلى الشعوب الأخرى وعدائه لها، وهو من أفظع تجليات الوعي الزائف وأكثرها خطورة. كما تكشف "تفوق الرأسمالية في تشويه الوعي الجمعي وتعميمه بحيث يلتبس على الأكثرية الشعبية التقاط خبث الثقافة البرجوازية ممثلة في الديمقراطية والحرية والمجتمع المدني ... وصولا إلى التباس الوعي وحتى السقوط عنصرية بيضاء تغطي انتهازية ما مفادها: أن مستوى معيشتنا الجيد هو على حساب فقر هؤلاء". وهذا ما يطرح التحدي اليوم حيث تتخلى أنظمة هذه البلدان عن كهولها ومن ثم فقرائها!."

■ أكاذيب حول الاشتراكية
خلافاً للأكاذيب والبروباغندا المعادية والمشوِهَة للاشتراكية والتي لم تتوقف منذ القرن التاسع عشر، والتي ازدادت شدةً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، نسجل الملاحظتين التاليتين:

أ) الاشتراكية والاحتياجات الأساسية للناس: بغض النظر عن تقييم التجربة الاشتراكية في البلدان الاشتراكية السابقة أو العملية الاشتراكية الراهنة في الصين وكوبا وكوريا الشمالية، يجدر بنا أن نقف أمام حرص هذه الحكومات والأحزاب الحاكمة على توفير احتياجات سكانها الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم والسكن وخدمات المسنين وغيرها، ورصد أجزاء كبيرة من ميزانية الدولة لهذه الخدمات، على النقيض من المجتمعات الرأسمالية. وقد جاءت جائحة كورونا التي تجتاح العالم في هذه الآونة لتقدم الدليل على ذلك.

ب) دور الصين وكوبا في التضامن الأممي ودعم الشعوب المنكوبة: يؤكد موقف هذه الدول بلا ريب ثبوت الاهتمام بالإنسان كأولوية في هذه البلدان، ويشير بوضوح إلى ما هو أبعد: قرار هذه الدول تجاوز الحدود الجغرافية لمساعدة الأمم المنكوبة وصولاً إلى موقف إنساني أممي، في حين يتقوقع راس المال المعولم على ذاته وأنانيته! وقد رأينا إسهامات كوبا في هذا المضمار، قبل جائحة كورونا وعلى مدى عقود، حين كانت تمد يد العون وتقديم الخدمات الصحية والطبية لدول العالم الثالث، وكما رأينا دعم الصين وكوبا وروسيا للشعب الإيطالي في غضون أزمة فيروس كورونا الذي اجتاحت ايطاليا في شهر آذار (مارس) 2020.

■ الرأسمالية: "تجسيد لحرية الفرد وللديمقراطية"
يدّعي الغرب الرأسمالي الدفاع عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان سواء في بلاده أو في البلاد التي يسعى إلى الهيمنة عليها ونهب ثرواتها. غير أن هذا الموقف يتناقض تماماً مع سياسات الأنظمة الرأسمالية في التعامل مع شعوبها في الداخل وفي سياساتها الخارجية. وقد جاءت جائحة كورونا لتكشف وحشية مواقف هذه الأنظمة وضعف أدائها وعدم اكتراثها بصحة وحياة مواطنيها. وحتى داخل البلد الواحد شاهدنا تقاعس الحكومة الأميركية ومؤسساتها، مثلاً، في تقديم الخدمات الصحية الأساسية (مثل توفير أقنعة الحماية من عدوى مورونا وإجراء الفحوصات البسيطة للتعرف على مَنْ أصابهم هذا المرض ...)، كما رأينا التنافس والأنانية في الحصول على المستلزمات الصحية والمعدات الطبية بين المدن والمناطق في مختلف الولايات الأميركية فيما بينها، من جهة، والحكومة الأميركية الفيدرالية من جهة أخرى.

هذا على المستوى المحلي والداخلي، أما على مستوى العلاقات بين الدول والحكومات، فكان الأمر أكثر بشاعة ووحشية، إذ رأينا رفض هذه الدول للتضامن والتعاون فيما بينها، كما حصل بين الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، أو حتى بين دول هذا الاتحاد كما حصل حين رفضت ألمانيا وفرنسا، القوتان الرئيستان في ذلك الاتحاد، تقديم المعونات الطبية لإيطاليا من أجل إسعاف المصابين بهذا المرض في ذلك البلد في مارس 2020.

■ مسألة التناقض وتحديد معسكر الأعداء
مرّت بلادنا ولا تزال بتطورات خطيرة على كافة الأصعدة. وتم احتلال أراضٍ عربية وتدمير دولٍ ومجتمعات، ومع ذلك ظلّت مسألة التناقض الرئيسي غير محسومة عندنا. والمقصود هنا بالحسم أو عدمه هو تحديد طبيعة التناقضات (الرئيسية والثانوية) وأطرافها أي أطراف المعسكرين المتناقضين والمتصارعين: معسكر الثورة والقوى المتخندقة معها، وفي النقيض منه معسكر الثورة المضادة وقواها. وقد كان لهذا الضياع نتائج وخيمة على مجتمعاتنا وأوضاع شعوبنا وسيادة بلادنا، وكذلك على وعي الشارع العربي مما أخل بقدرته على الفعل وكان أحد أسباب شلله وصمته. ليست المسألة هنا مجردة أو نظرية، بل إن أهمية فهم التناقضات الرئيسية والثانوية وتحديد معسكر الأعداء تكمن في ضرورتها لاستعادة الشارع العربي والتي تستلزم:

1) بناء أو إعادة بناء الشارع الشعبي على أساس وعي جمعي مشترك، وهو ما يتطلب تثقيف المواطن وتوعيته بمسألة التناقض (الصراع) الرئيسي في بلادنا، كي يتمكن من اجتراح وسائل المقاومة ومحاربة الأعداء.
2) توحيد الشارع في اصطفافه ضد الأعداء، ما يعني العمل على إنهاء عوامل الفرقة من فتن إثنية ومذهبية ودينية وطائفية، وتثقيف المواطن على (1) أن صراعنا لا يقوم على اساس ديني أو مذهبي أو عرقي أو إثني، إنما هو صراع مع معسكر الأعداء وأدواته المحلية، و(2) أن تجنيد الدين أو المذهب أو الطائفة، ومَنْ يقف خلف ذلك من مفكرين ومثقفين وإعلاميين، هو من بدع وأساليب تيارات الدين السياسي الإسلامي وتوظيفه في ضرب تماسك المجتمع ووحدته حيال قضايا الوطن الأساسية.

■ الكيان الصهيوني ... بين العدو و"الجار"
سؤالان ملحان تطرحما المرحلة وما يجري من حولنا، سواء بالعلن أو بالسر:
هل الكيان عدونا؟
وهل هو العدو الوحيد؟

أ) إذا كنا نقرُ - وقد سال الكثير من الحبر في تكرار هذا وتأكيده على مدى العقود السبعة الأخيرة - إذا كنا نقرُ بأن الكيان الصهيوني والمشروع الصهوني برمته محتل عسكري استيطاني، وأنه موقع متقدم للإمبريالية في بلادنا، وجزء لا يتجزء من المشروع الرأسمالي - الإمبريالي، فكيف تهيأ لنا حسم الصراع مع هذا الكيان عبر المفاوضات؟
وكيف لنا أن ندرك أو نصدق أنه (الكيان) في حقيقة الأمر يريد حلاً لقضيتنا واحتلال أراضينا؟ أي كيف نتصور أنه يريد حلاً ينهي مشروعه؟
وكيف لنا أن نصدق بأنه (الكيان) يقبل بالمفاوضات أو يأخذها على محمل الجد أم أنه "يشارك" فيها ضمن استراتيجية كسب الوقت في حين يستمر في فرض سياسة الأمر الواقع وتجسيد المقومات المادية للتوسع والاستيطان والتهويد على الأرض العربية في فسطين.

ب) وإذا كنا ندرك، كما قيل مرّات لا تُحصى، أن الكيان الصهيوني لن يقبل باي اتفاق معنا، وأن وراءه الترسانة الإمبريالية الغربية، وأن وجوده منوط باستمرار الدعم والتوظيف الإمبريالي له، وأن سقوطه أيضاً مربوط بسقوط الإمبريالية، إذا كنا ندرك هذا كله، فسيكون من المنطقي أن نصل إلى الاستنتاج بأن صراعنا ليس معه وحده، وإن كان هو المحتل الاستيطاني المباشر لأراضينا في فلسطين المحتلة، بل إن صراعنا مع معسكر كامل من الأعداء: الرأسمالية - الإمبريالية، الكيان الصهيوني، والأنظمة العربية الرجعية والتابعة للمركز الرأسمالي.

■ نشوء الأمة العربية جاء مع قدوم الإسلام
منذ صعود تيارت الدين السياسي - الإسلامي وحركاته في سبعينيات القرن العشرين، في سياق تداعيات هزيمة حزيران 1967، شاهدنا التركيز على الأفكار والمقولات التي تدّعي أن نشوء الأمة العربية وبدايات تاريخها جاء مرافقاً لظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية. وبالطبع، ليست هذه المقولات جديدة، وليس جديداً أنها لم تتوخي الأمانة العلمية والتاريخية، بل ما يهمنا الإشارة إليه هو أنها تسعى إلى طمس تاريخ العرب وهويتهم القومية وإسهاماتهم الحضارية والثقافية الجليلة عبر قرون عديدة في حقبة ما قبل الإسلام.

■ ما هي هويتنا؟ مَن نحن؟ ما هو اسمنا؟
لقد فقدنا منذ أمد القدرة على تحديد هويتنا واسمنا وجغرافيتنا، وتركنا للآخر حق القرار.
ولعلنا من تلك الأمم التي تأخرت في التغلب على الخطاب والهيمنة الإمبريالييْن. فلا يزال الآخر هو الذي يحدد لنا هويتنا ويفرض علينا تعريفه ل"مَنْ نحن"، ويرسم لنا حدود وجغرافيا بلادنا واسمها أو اسماءها.
فما أن انهارت الأمبراطورية العثمانية (1918) ومن بعدها زوال الخلافة الإسلامية (1924)، حتّى كرّس الاستعمار الأوروبي هندستة السياسية لبلادنا ورسم حدودها، كما فعل في العديد من بلدان العالم الثالث. وقد أفضى ذلك إلى حالتنا الراهنة من فرض هويتنا "الكيانية" والقُطْرية، والانفصام المزمن بين الذات/الهوية من جهة، والاسم والجغرافيا من جهة أخرى.
هكذا شاعت في لغتنا وخطابنا مفردات ومصطلحات تعكس كيف ترانا عيون الآخر المحتل أو المستعمِر أو المهيمِن: شرق أوسط، عالم عربي، والآن تفتقت عقولهم عن تسمية جديدة فأخذ بعضهم يسمينا "غرب آسيا". وهكذا أيضاً اختفت من تاريخنا أسماءٌ أخترناها لأنها عبرت عنّا وعن هويتنا: الوطن العربي، المشرق العربي، بلاد الشام، سورية الطبيعية، المغرب العربي .... وغيرها.

■ الاحتلال الذي دام أربعة قرون ... ليس "احتلالاً"!
يتنكر كثيرون من مروجي مقولات وإدعاءات الدين السياسي الإسلامي لطبيعة الاحتلال العثماني - الذي جثم على صدورنا أربعة قرون ودمّر البنية التحتية لمجتمعاتنا وأعاق تطورها وإبقاها على حالة التخلف والانحطاط - ويدّعون أنه ليس احتلالاً بل هو خلافة عثمانية أو خلافة إسلامية، أو جامعة إسلامية، أو سلطنة عثمانية وعهد أو حكم عثماني وغيرها من المسميات. وقد استغلوا في ترويج هذه الإدعاءات العاطفة الدينية لدى شعوبنا، عاطفة الأخوة والجامعة الإسلامية، وحالة التدين التي تعيشها جماهيرنا، وذلك من أجل تضليلها وابتزازها سياسياً واقتصادياً ونهب ثرواتها.

والحقيقة أن هذه الإدعاءات تنطوي في جوهرها على تنكر للعروبة وإنتماء المواطن العربي لوطنه والوفاء له وثقته بنفسه، وذلك من أجل تبرير سياسات حركات الدين السياسي المتحالفة مع تركيا، والتي أصبحت جليّة في سنوات الحرب على سورية واتخذت كافة أشكال العدوان، السياسية والعسكرية والإرهابية، على هذا البلد العربي وشعبه، وها هي اليوم تكشف بوضوح عن مخططاتها المعادية لليبيا وشعبها.

■ الدين السياسي: "عالمية" الإسلام ... أم غطاءٌ لمعادة العروبة
تدّعي حركات الدين السياسي الإسلامي، وعلى رأسها حركة الإخوان المسلمين، أن دعوتها دينية دعوية تبشيرية لأن رسالة الإسلام (والدين بشكل عام) عالمية وللبشرية بأسرها. ويستندون في ذلك إلى أن قيم الدين الروحانية والإنسانية النبيلة تصلح للبشرية جمعاء ينبغي أن تشمل كافة الشعوب. ولكن الحقيقة أن هذه الإدعاءات ليست سوى غطاء لأجندة ومصالح سياسية معادية لشعوبنا ومصالحها ووحدتها. هذا بالإضافة إلى أن حركات الدين السياسي، أي دين، تناقض هذه الفرضية. ففي فضاء السياسة يحدد الدين السياسي مواقفه ورؤيتة للعالم: فهو عالم كما يراه هو، أمّا الآخر (ورؤيته للعالم) فهو مرفوض وكافر. وهذا ما نراه بشكل خاص في الحركات التكفيرية التي تنتهج نهجاً مغلقاً متزمتاً في العلاقات بين الأديان والشعوب يتسم بالعصبيات الدينية والمذهبية والطائفية ويعادي الآخر ويرفضة ويحلل قتله. وهكذا وصلت الإنسانية إلى الحروب الدينية والتناحر الطائفي.

إن فهم الواقع والعالم على أساس إدعاءات الدين السياسي، يطمس الحقيقة ويغيّب تماماً فهم ما يجري من حولنا، أي فهم القوى الاجتماعية والطبقية ومصالحها التي تحرك المجتمع والتاريخ، ويغطي على حقيقة أن الصراعات الاجتماعية وتناقض المصالح الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هي أساس الصراعات في المجتمع والعالم، وليس اختلاف الدين أو المذهب أو الطائفة.
□□□
لا أريد أن اثقل على القارئ بالمزيد، فهناك الكثير من الأمثلة، أورد بعض عناوينها دون الدخول في تفاصيل نقاشها، تاركاً للقارئ التأمل وإعمال العقل والمنطق في صحتها وراهنيتها:
- السوق الحرة هي الطريق إلى التنمية والازدهار الاقتصادي
- الشيوعية مرادفة للإلحاد والانحلال الأخلاقي
- أوروبا هي مركز الحضارة والتقدم بل هي مركز التاريخ
- إيران هي العدو الرئيس للعرب وللأمة العربية (اي إسقاط الكيان الصهيوني كعدو رئيس)
- لقد احتل الأميركيون العراق من أجل الدفاع عن حرية وحقوق العراقيين وجلب الديمقراطية إلى هذا البلد
- أسباب الصراعات في بلادنا تعود إلى اختلاف وتنوع الأديان والمذاهب والطوائف، وعلى رأسها الخلاف السني - الشيعي.

خاتمة

لا يتسنى تقييم الواقع وفهمه، وفهم المرحلة التي يمرّ بها المجتمع، بمعزل عن دراسة العوامل الرئيسية التي صنعت أحداث هذا الواقع وتاريخه وأوصلتنا إلى ما نحن عليه. فحاضرنا، والمرحلة التي نعيشها، هي امتداد لهذه المسيرة. لذا، يصبح من المنطقي والضروري أن نفكك مكونات الواقع وقضاياه وتعقيداته، لا بهدف عزلها عن بعضها، بل بغية فهم الواقع فهماً شاملاً ودقيقاً وأميناً. وهذا لا يتم دون نهضة فكرية وسياسية ترتكز على قاعدة صلبة من الوعي الشعبي.

لهذه الأسباب ذاتها، يظل تزييف الوعي الشعبي - على الرغم من تعدد أسبابه والعوامل المؤثرة فيه وكثرة الكتابات التي تتناولته - يظل في الجوهر محكوماً بآفاق الصراعات الاجتماعية والسياسية ومصالح القوى المتصارعة، ولذا فهو يدور في سياق الصراع الطبقي ويشكّل احدى آلياته بامتياز، أي سلاحاً بأيدي قوى الثورة المضادة في سياق الاستغلال الطبقي والوطني للشعوب والطبقات الشعبية الفقيرة من أجل خدمة مصالح الطبقات المستغِلة.

من هنا، فإن تعرية التزييف الذي حلّ بالوعي الشعبي ووعي الطبقات الشعبية العربية والتأسيس لوعي حقيقي جذري وثوري، هي احدى المهمات الأساسية والملحة للقوى الثورية العربية والقوى الطبقية وقيادتها التي تضطلع بالدفاع عن مصالح هذه الطبقات.

يُفضي بنا هذا الاستنتاج إلى المعضلة المزمنة التي نعاني منها وهي إشكالية التناقض القائم بين (1) مهمات المرحلة ومقتضياتها من جهة، و(2) قدرة القوى الطبقية الثورية وقيادتها على إنجاز هذه المهمات، وهو ما يشكل تحدياً تاريخياً في مستويين:

الأول، المستوى الموضوعي: الصراع مع معسكر الأعداء (الرأسمالية - الإمبريالية والكيان الصهيوني والأنظمة العربية الرجعية والتابعة لهما)؛

والثاني، المستوى الذاتي: بناء قدرة القوى الطبقية الثورية (التنظم الثوري، النظرية، الرؤية، القيادة، البرنامج النضالي وأدوت تحقيقه).

ليست التحديات التي تمر بها شعوبنا حصراً على أمتنا، رغم شدة استهدافها وخصوصيات الحالة العربية الذاتية والموضوعية. فكل الشعوب تواجه في مرحلة ما أزمات وتحديات، وفي مواجهة هذه التحديات ومعالجتها تقف صعوبات وعقبات كثيرة، وكثيراً ما تقع الشعوب في إخفاقات وأخطاء، كبيرة وصغيرة. غير أن الشعوب التي لا تواجه الأخطاء الكبيرة والقاتلة، والتي لا يكون بمقدورها التعامل معها ومراجعتها ومعالجتها، نراها تلجأ إلى تجاهلها، علّ الحل يأتي "بقدرة قادر" أو بمرور الحدث أو يَسقط عليها من السماء "بإرادة إلهية". غير أن التاريخ يؤكد أن مشاكل هذه الأمم والمجتمعات تزداد تعقيداً وتفاقماً لتفتك بها دون رحمة.