على الحصير وكوز الماء يرفده


عبدالرزاق دحنون
2021 / 3 / 17 - 14:59     

رحم الله فيلسوف معرّة النعمان فقد وقفت على قبره آخر مرّة ربيع عام 2011 بعد أن اكتشفت مصادفة كتاباً قيّماً يحكي سيرته لم أكن على علم به في مكتبة المركز الثقافي في مدينة إدلب في الشّمال السوري. استعرتُ الكتاب فأدهشني ما فيه من حرص شديد على توثيق سيرة هذا الفيلسوف التي ربطتني به علاقة مودّة وصداقة لا تنتهي وتركت تأثيراً حسناً في حياتي.

تفتتح بنت الشاطئ-عائشة عبدالرحمن- كتابها المسمى أبو العلاء المعرّيّ والصادر عام 1965 بقولها: خرج إلى الدنيا والشمس غاربة والنهار مدبر من يوم الجمعة لثلاث ليال بقين من ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاثمائة للهجرة - وتؤكد الدراسات الحديثة في العلوم الاجتماعيّة أن الأفذاذ من البشر عادة ما يولدون في الربيع- وكانت ليلته الأولى على الأرض من ليالي المحاق, ولولا مولده في بيت علم وفضل، لطويت تلك الليلة في غيابة الزمن، و لضاعت منا معالم الطفولة لذلك الوليد الذي قدر له أن يبهر الناس بعد حين, ويأت -وإن كان الأخير زمانه- بما لم تستطعه الأوائل، وسوف يغدوا أشهر من ينسب إلى معرة النعمان التي تقف هذه الأيام وحيدة خالية مُقفرة بعد أن شردت الحرب سُكّانها.

شهرة فيلسوف معره النعمان باقية ما بقي الدهر, فها هو الأديب السوداني الطيب صالح أحد أنبل ما انجبت أرض السودان يقف على قبر فيلسوف المعرّة في أحد أيام شهر كانون الأول من عام 1990 بعد أن استجاب - حيّاه الله وأسكنه فسيح جنانه - لدعوة الشاعر محمد مهدي الجواهري من خلال قصيدته عن فيلسوف المعرّة، و التي جاءت في واحد وتسعين بيتاً, والتي أنشدها أول مرة في المهرجان الألفيّ لأبي العلاء المعرّيّ في ذكرى مرور ألف سنة على مولده وذلك في حفل الافتتاح المهيب يوم الأثنين الخامس والعشرين من شهر أيلول/سبتمبر سنة 1944 على مدرج جامعة دمشق في العاصمة السّورية. حضر الحفل رئيس الجمهوريّة السوريّة السيد شكري القوتلي وكان طه حسين حاضراً في تلك الأمسية، حيث اهتز وجدانه طرباً لسماعه تلك الأبيات. وراح يحدث النفس: لست أدري أيشعر الناس كما أشعر، ويجدون من سماع هذه الأبيات مثل ما أجد؟ قلبي يمتلئ لسماعها رحمة وبراً وحناناً وإشفاقاً. أترى فيلسوف المعرّة فكر في نفسه وفيما سيقول الناس فيه بعد موته؟

في هذه القصيدة يمسك محمد مهدي الجواهري ناصية القول الشعريّ، والذي يجمع على جودته خلق كثير، وتطرب لوقعه أفئدة الملايين من البشر. يطل علينا من قمة التعبير الشعريّ المدهش، وليس بيننا وبينه سوى مسافة الاستجابة لهذا السحر، إنه شاعر أمة. وقد صدق نبينا الكريم حين قال: إن من البيان لسحراً. وها هو محمد مهدي الجواهري يُنشد قصيدته البائية بلكنة عراقيّة محببة ويده على كتف طه حسين:

قِفْ بِالْمَعَـرَّةِ
وَامْسَحْ خَدَّهَا التَّرِبَـا
وَاسْتَوْحِ
مَنْ طَوَّقَ الدُّنْيَا بِمَا وَهَبَـا
وَاسْتَوْحِ مَنْ طَبَّـبَ الدُّنْيَا بِحِكْمَتِـهِ
وَمَنْ عَلَى جُرْحِهَا
مِنْ رُوحِهِ سَكَبَـا
وَسَائِلِ الحُفْـرَةَ الْمَرْمُـوقَ جَانِبهُـا
هَلْ تَبْتَغِي مَطْمَعاً
أَوْ تَرْتَجِـي طَلَبَـا؟
يَا بُرْجَ مَفْخَـرَةِ الأَجْدَاثِ لا تَهِنِـي
إنْ لَمْ تَكُونِي
لأَبْرَاجِ السَّمَـا قُطُبَـا
فَكُـلُّ نَجْـمٍ
تَمَنَّـى فِي قَرَارَتِـهِ
لوْ أنَّـهُ بِشُعَـاعٍ مِنْـكِ قَدْ جُذِبَـا
والمُلْهَمَ الحَائِـرَ الجبَّـارَ
هَلْ وَصَلَتْ
كَفُّ الرَّدَى بِحَيَـاةٍ بَعْـدَه سَبَبـا؟
وَهَلْ تَبَدَّلْـتَ رُوحَاً غَيْـرَ لاَغِبَـةٍ
أَمْ مَا تَزَالُ كَأَمْسٍ
تَشْتَكِـي اللَّغَبـا
وَهَـلْ تَخَبَّـرْتَ أَنْ لَمْ يَأْلُ مُنْطَلِـقٌ
مِنْ حُرِّ رَأْيِكَ
يَطْوِي بَعْـدَكَ الحِقَبـَا
أَمْ أَنْـتَ لا حِقَبَاً تَدْرِي
وَلا مِقَـةً
وَلا اجْتِوَاءً
وَلا بُـرْءَاً
وَلا وَصَبَـا
وَهَلْ تَصَحَّـحَ فِي عُقْبَاكَ مُقْتَـرَحٌ
مِمَّا تَفَكَّرْتَ أَوْ حَدَّثْـتَ أو كُتِبَـا؟
نَـوِّر لَنَـا
إنَّـنَا فِي أَيِّ مُدَّلَـجٍ
مِمَّا تَشَكَّكْتَ، إِنْ صِدْقَاً وَإِنْ كَذِبَـا
أَبَا العَـلاءِ
وَحَتَّـى اليَوْمِ مَا بَرِحَتْ
صَنَّاجَةُ الشِّعْرِ تُهْدِي الْمُتْرَفَ الطَّرَبَا
يَسْتَـنْزِلُ الفِكْـرَ مِنْ عَلْيَا مَنَازِلِـهِ
رَأْسٌ لِيَمْسَـحَ مِنْ ذِي نِعْمَـةٍ ذَنَبَـا
وَزُمْـرَةُ الأَدَبِ الكَابِـي بِزُمْرَتِـهِ
تَفَرَّقَتْ فِي ضَلالاتِ الهَـوَى عُصَبَـا
تَصَيَّـدُ الجَـاهَ
وَالأَلْقَـابَ نَاسِيَـةً
بِـأَنَّ فِـي فِكْـرَةٍ قُدَسِيَّـةٍ لَقَبَـا
وَأَنَّ لِلْعَبْقَـرِيّ الفَـذِّ
وَاحِـدَةً
إمَّـا الخُلُـودَ وَإمَّا المَـالَ والنَّشَبَـا
مِنْ قَبْلِ أَلْفٍ لَوَ أنَّـا نَبْتَغِـي عِظَـةً
وَعَظْتَنَا أَنْ نَصُـونَ العِلْـمَ وَالأَدَبَـا
عَلَى الحَصِيرِ
وَكُـوزُ الماءِ يَرْفُـدُهُ
وَذِهْنُهُ
وَرُفُـوفٌ تَحْمِـلُ الكُتُبَـا
أَقَـامَ بِالضَّجَّـةِ الدُّنْيَـا وَأَقْعَـدَهَا
شَيْـخٌ أَطَـلَّ عَلَيْهَا
مُشْفِقَاً حَدِبَـا
بَكَى لأَوْجَـاعِ مَاضِيهَا
وَحَاضِـرِهَا
وَشَـامَ مُسْتَقْبَـلاً مِنْهَـا وَمُرْتَقَبَـا
وَلِلْكَآبَـةِ أَلْـوَانٌ
وَأَفْجَعُــهَا
أَنْ تُبْصِرَ الفَيْلَسُوفَ الحُـرَّ مُكْتَئِبَـا
تَنَـاوَلَ الرَّثَّ
مِنْ طَبْـعٍ وَمُصْطَلَـحٍ
بِالنَّقْـدِ لاَ يَتَأبَّـى أَيَّـةً شَجَبَـا
وَأَلْهَـمَ النَّاسَ
كَيْ يَرضَوا مَغَبَّـتَهُم
أَنْ يُوسِعُوا العَقْلَ مَيْدَانَاً وَمُضْطَرَبَـا
وَأَنْ يَمُـدُّوا بِـهِ فِي كُلِّ مُطَّـرَحٍ
وَإِنْ سُقُوا
مِنْ جَنَاهُ الوَيْـلَ وَالحَرَبَـا
لِثَـوْرَةِ الفِكْـرِ
تَأْرِيـخٌ يُحَدِّثُنَـا
بِأَنَّ أَلْفَ مَسِيـحٍ دُونـهَا صُلِبَـا
إنَّ الذِي أَلْهَـبَ الأَفْـلاكَ مِقْوَلُـهُ
وَالدَّهْر
لاَ رَغَبَا يَرْجُـو وَلاَ رَهَبَـا
لَمْ يَنْسَ أَنْ تَشْمَلَ الأَنْعَـامَ رَحْمَتُـهُ
وَلاَ الطُّيُورَ
وَلاَ أَفْرَاخَـهَا الزُّغُبَـا
حَنَا عَلَى كُلِّ مَغْصُـوبٍ
فَضَمَّـدَهُ
وَشَـجَّ مَنْ كَانَ
أَيَّا كَانَ
مُغْتَصِبَـا
سَلِ المَقَادِيـرَ
هَلْ لاَ زِلْتِ سَائبة
أَمْ أَنْتِ خَجْلَى لِمَا أَرْهَقْتِـهِ نَصَبَـا
وَهَلْ تَعَمَّدْتِ أَنْ أَعْطَيْـتِ سَائِبَـةً
هَذَا الذِي مِنْ عَظِيـمٍ مِثْلِـهِ سُلِبَـا
هَذَا الضِّيَاءُ
اَلذِي يَهْدِي لـمَكْمَنـه
لِصَّاً وَيُرْشِدُ أَفْعَـى تَنْفُـثُ العَطَبَـا
فَإِنْ فَخَـرْتِ بِمَا عَوَّضْتِ مِنْ هِبَـةٍ
فَقَدْ جَنَيْـتِ بِمَا حَمَّلْتِـهِ العَصَبَـا
تَلَمَّسَ الحُسْنَ
لَمْ يَمْـدُدْ بِمُبْصِـرَةٍ
وَلاَ امْتَـرَى دَرَّةً مِنْهَـا وَلاَ حَلَبَـا
وَلاَ تَنَـاوَلَ مِـنْ أَلْوَانِـهَا صُـوَرَاً
يَصُـدُّ مُبْتَعِـدٌ
مِنْهُـنَّ مُقْتَرِبَـا
لَكِنْ بِأَوْسَـعَ مِـنْ آفَاقِـهَا أَمَـدَاً
رَحْبَاً
وَأَرْهَـفَ مِنْهَا جَانِبَا وَشَبَـا
بِعَاطِـفٍ يَتَبَنَّـى كُـلَّ مُعْتَلِـجٍ
خَفَّاقَـه وَيُزَكِّيـهِ إِذَا انْتَسَبَـا
وَحَاضِـنٍ
فُـزَّعَ الأَطْيَافِ أَنْزَلَـهَاَ
شِعَافَـه وَحَبَـاهَا مَعْقِـلاً أَشِبَـا
رَأْسٌ مِنَ العَصَبِ السَّامِي عَلَى قَفَصٍ
مِنَ العِظَـامِ إِلَى مَهْزُولَـةٍ عُصِبَـا
أَهْوَى عَلَى كُوَّةٍ فِي وَجْهِـهِ قَـدَرٌ
فَسَدَّ بِالظُلْمَـةِ
الثُقْبَيْـنِ فَاحْتَجَبَـا
وَقَالَ لِلْعَاطِفَـاتِ العَاصِفَـاتِ بِـهِ
الآنَ فَالْتَمِسِـي
مِنْ حُكْمِـهِ هَرَبَـا
الآنَ يَشْرَبُ مَا عَتَّقْـتِ لاَ طَفَـحَاً
يُخْشَى عَلَى خَاطِرٍ مِنْـهُ وَلاَ حَبَبَـا
الآنَ قُولِي
إِذَا اسْتَوْحَشْـتِ خَافِقَـةً
هَـذَا البَصِيـرُ يُرِينَـا آيَـةً عَجَبَـا
هَذَا البَصِيرُ
يُرِينَـا بَيْـنَ مُنْـدَرِسٍ
رَثِّ الْمَعَالِمِ
هَذَا الْمَرْتَـعَ الخَصِبَـا
زُنْجِيّـَةُ اللَّيْلِ
تَرْوِي كَيْفَ قَلَّـدَهَا
فِي عُرْسِهَا غُرَرَ الأَشْعَارِ
لاَ الشُّهُبَـا
لَعَـلَّ بَيْنَ العَمَى فِي لَيْـلِ غُرْبَتِـهِ
وَبَيْـنَ فَحْمَتِـهَا
مِنْ أُلفَـةٍ نَسَبَـا
وَسَاهِرُ البَرْقَ
وَالسُّمَّـارُ يُوقِظُـهُمْ
بِالجَزْعِ يَخْفُقُ مِنْ ذِكْـرَاهُ مُضْطَرِبَـا
وَالفَجْرُ لَوْ لَمْ يَلُذْ بَالصُّبْـحِ يَشْرَبُـهُ
مِنَ المَطَايَـا
ظِمَـاءٌ شُرَّعَـاً شُرِبَـا
وَالصُّبْـحُ
مَا زَالَ مُصْفَـرَّاً لِمَقْرَنِـهِ
فِي الحُسْنِ بِاللَّيْلِ يُزْجِي نَحْوَهُ العَتَبَـا
يَا عَارِيَاً
مِنْ نَتـاجِ الحُـبِّ تَكْرمَـةً
وَنَاسِجَـاً عَفَّـةً أَبْـرَادَهُ القُشُبَـا
نَعَوا عَلَيْكَ
وَأَنْتَ النُّورُ
فَلْسَفَـةً
سَـوْدَاءَ لا لَـذَّةً تَبْغِـي وَلا طَرَبَـا
وَحَمَّلُـوكَ
وَأَنْتَ النَّـارُ لاهِبَـةً
وِزْرَ الذِي لا يُحِسُّ الحُـبَّ مُلْتَهِبَـا
لا مَوْجَـةُ الصَّدْرِ
بِالنَّهْدَيْنِ تَدْفَعُـهُ
وَلا يَشُقُّ طَرِيقَـاً في الهَـوَى سَربَـا
وَلا تُدَغْـدِغُ مِنْـهُ لَـذَّةٌ حُلُمَـاً
بَلْ لا يُطِيقُ حَدِيـثَ اللَّـذَّةِ العَذِبَـا
حَاشَاكَ
إِنَّكَ أَذْكَى في الهَوَى نَفَسَاً
سَمْحَاً
وَأَسْلَسُ مِنْهُمْ جَانِبـَاً رَطبَـا
لا أَكْذِبَنَّـكَ
إِنَّ الحُـبَّ مُتَّهَـمٌ
بِالجَوْرِ
يَأْخُـذُ مِنَّـا فَوْقَ مَا وَهَبَـا
كَمْ شَيَّعَ الأَدَبُ المَفْجُوعُ مُحْتَضِرَاً
لَدَى العُيُونِ
وَعِنْدَ الصَّـدْرِ مُحْتَسَبَـا
صَرْعَى نَشَاوَى بِأَنّ الخَـوْدَ لُعْبَتُـهُمْ
حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظُـوا
كَانُوا هُمُ اللُعَبَـا
أَرَتْهُمُ خَيْرَ
مَا في السِّحْرِ مِنْ بُـدعٍ
وَأَضْمَرَتْ شَرَّ مَا قَدْ أَضْمَرَتْ عُقُبَـا
عَانَى لَظَى الحُـبِّ
بَشَّارٌ وَعُصْبَتُـهُ
فَهَلْ سِوَى أَنَّهُمْ كَانُـوا لَـهُ حَطَبَـا
وَهَلْ سِوَى أَنَّهُمْ رَاحُوا
وَقَدْ نَـذَرُوا
لِلْحُبِّ مَا لَمْ يَجِبْ مِنْهُمْ وَمَا وَجَبَـا
هَلْ كُنْتَ تَخْلُدُ إِذْ ذَابُوا
وَإذْ غَبَـرُوا
لَوْ لَمْ تَرُضْ مِنْ جِمَاحِ النَّفْسِ مَا صَعُبَا
تَأْبَى انْحِـلالاً
رِسَـالاتٌ مُقَدَّسَـةٌ
جَـاءَتْ تُقَـوِّمُ هَذَا العَالَمَ الخَرِبَـا
يا حَافِـرَ النَّبْـعِ
مَزْهُـوَّاً بِقُوَّتِـهِ
وَنَاصِـرَاً في مَجَالِي ضَعْفِـهِ الغَرَبَـا
وَشَاجِبَ الْمَوْتِ
مِنْ هَذَا بِأَسْهُمِـهِ
وَمُسْتَمِنَّـاً لِهَـذَا ظِلَّـهُ الرَّحِبَـا
وَمُحْرِجَ المُوسِـرِ الطَّاغِـي بِنِعْمَتِـهِ
أَنْ يُشْرِكَ الْمُعْسِـرَ
الخَاوي بِمَا نَهَبَـا
والتَّـاج إِذْ تَتَحَـدَّى رَأْسَ حَامِلِـهِ
بِأَيِّ حَـقٍّ وَإِجْمَـاعٍ بِـه اعْتَصَبَـا
وَهَـؤُلاء الدُّعَـاةُ العَاكِفُـونَ
عَلَى
أَوْهَامِهِمْ
صَنَمَـاً يُهْدُونَـهُ القُرَبَـا
الحَابِطُـونَ حَيَاةَ النَّاسِ
قَدْ مَسَـخُوا
مَا سَنَّ شَرْعٌ وَمَا بِالفِطْـرَةِ اكْتُسِبَـا
وَالفَاتِلُـونَ عَثَـانِينَـاً
مُهَـرَّأَةً
سَاءَتْ لِمُحْتَطِبٍ مَرْعَـىً وَمُحْتَطَبَـا
وَالْمُلْصِقُونَ بِعَـرْشِ اللهِ
مَا نَسَجَـتْ
أَطْمَاعُهُـمْ
بِدَعَ الأَهْـوَاءِ وَالرِّيَبَـا
وَالْحَاكِمُونَ بِمَا تُوحِـي مَطَامِعُهُـمْ
مُؤَوِّلِيـنَ عَلَيْهَـا
الجِـدَّ وَاللَّعِبَـا
عَلَى الجُلُودِ
مِنَ التَّدْلِيـسِ مَدْرَعَـةٌ
وَفِي العُيُونِ بَرِيقٌ يَخْطَـفُ الذَّهَبَـا
مَا كَانَ أَيُّ ضَـلالٍ جَالِبـاً أَبَـدَاً
هَذَا الشَّقَاء
الذِي بِاسْمِ الهُدَى جُلِبَـا
أَوْسَعْتَهُـمْ قَارِصَاتِ النَّقْـدِ لاذِعَـةً
وَقُلْتَ فِيهِمْ مَقَـالاً
صَادِقَـاً عَجبَـا
صَاحَ الغُرَابُ
وَصَاحَ الشَّيْخُ
فَالْتَبَسَتْ
مَسَالِـكُ الأَمْـرِ
أَيٌّ مُنْهُمَا نَعَبَـا
أَجْلَلْـتُ فِيكَ
مِنَ المِيزَاتِ خَالِـدَةً
حُرِّيَّـةَ الفِكْـرِ وَالحِرْمَانَ وَالغَضَبَـا
مَجْمُوعَـةً قَدْ وَجَدْنَاهُـنَّ مُفْـرَدَةً
لَـدَى سِـوَاكَ
فَمَا أَغْنَيْنَـنَا أَرَبَـا
فُـرُبَّ ثَاقِـبِ رَأْيِ حَـطَّ فِكْرَتَـهُ
غُنْمٌ فَسَفَّ
وَغَطَّى نُـورَهَا فَخَبَـا
وَأَثْقَلَـتْ مُتَـعُ الدُّنْيَـا
قَوَادِمَـهُ
فَمَا ارْتَقَى صُعُدَاً حَتَّى ادَّنَـى صَبَبَـا
بَدَا لَهُ الحَـقُّ
عُرْيَانَـاً فَلَـمْ يَـرَهُ
وَلاحَ مَقْتَـلُ ذِي بَغْـيٍ فَمَا ضَرَبَـا
وَإِنْ صَدَقْتُ
فَمَا فِي النَّاسِ مُرْتَكِبَـاً
مِثْلُ الأَدِيـبِ أَعَانَ الجَـوْرَ فَارْتكبَـا
هَذَا اليَرَاعُ
شـوَاظُ الحَـقِّ أَرْهَفَـهُ
سَيْفَـاً
وَخَانِـعُ رَأْيٍ رَدَّهُ خَشَبَـا
وَرُبَّ رَاضٍ
مِنَ الحِرْمَـانِ قِسْمَتـهُ
فَبَرَّرَ الصَّبـْرَ وَالحِرْمَـانَ وَالسَّغَبَـا
أَرْضَى
وَإِنْ لَمْ يَشَأْ
أَطْمَاحَ طَاغِيَـةٍ
وَحَالَ دُونَ سَوَادِ الشَّعْـبِ أَنْ يَثِبَـا
وَعَـوَّضَ النَّـاسَ
عَنْ ذُلٍّ وَمَتْرَبَـةٍ
مِنَ القَنَاعَـةِ كَنْزَاً مَائِجَـاً ذَهَبَـا
جَيْشٌ مِنَ الُْمُثُلِ الدُّنْيَـا
يَمُـدُّ بِـهِ
ذَوُو الْمَوَاهِبِ جَيْشَ القُـوَّةِ اللَّجَبَـا
آمَنْتُ بِالله
وَالنُّـورِ الذِي رِسَمَـتْ
بِهِ الشَّرَائِـعُ غُـرَّاً مَنْهَجَـاً لَحِبَـا
وُصْنْتُ كُلَّ دُعَاةِ الحَـقِّ
عَنْ زِيَـغٍ
وَالْمُصْلِحِينَ الهُدَاةَ
العُجْـمَ وَالعَرَبَـا
وَقَدْ حَمِدْتُ شَفِيعَاً لِي عَلَى رَشَـدِيَ
أُمّاَ وَجَدْتُ
عَلَى الإِسْـلامِ لِي وَأَبَـا
لَكِنَّ بِي جَنَفَـاً
عَنْ وَعْـيِ فَلْسَفَـةٍ
تَقْضِـي بِأَنَّ البَرَايَـا صُنِّفَتْ رُتَبَـا
وَأَنَّ مِنْ حِكْمَةٍ أَنْ يَجْتَبَـي الرُّطَبَـا
فَرْدٌ بِجَهْدِ أُلُـوفٍ
تَعْلِـكُ الكَرَبَـا

يقول الطيب صالح في مقاله المنشور:
رحم الله فيلسوف المعرّة، لقد وقفت على قبره في معرّة النعمان في طريقي إلى حلب الشهباء مدينة المتنبي، تذكرت قول أبي الطيب في رثاء محمد بن اسحاق التنوخي:

ما كنتُ أحسبُ قبل دفنك في الثرى
أن الكواكب في التّراب تغور

وأي كوكب غار في ذلك الثرى، كأنه عنى فيلسوف المعرة الذي كان أيضاً من تنوخ، وتلك من عجائب الصدف، أن يرثي السابق من لا يزال في طيات الغيب. حين سمع فيلسوف المعرّة قول المتنبي:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صممُ

قال: ما أظنه إلا أنه تمناني بقوله هذا. كان الأثر جميلاً، بقدر ما تكون الآثار جميلة، حوله زرع وأزهار في باحة مبلّطة بالرّخام المنقوش. كان الضّريح مسجّداً، فيما علمت، ثم جعلوه ملتقى للشّباب ومكتبة. ما لفيلسوف المعرّة والشباب؟ وأي عزاء له في ذلك؟ لقد فرّ من الناس وأخلد إلى داره وأفكاره يهجو الحياة ويغازل الموت:

فلما مضى العمرُ إلا الأقلُّ
وقاربت الروحُ تركَ الجسدْ

لو عاش فيلسوف المعرّة اليوم، لأعجبه حاكم المعرة الحالي-عام 1990- رجل حسن الخلق، عالي الهمّة، عميق الثّقافة، محب للأدب والأدباء والعلم والعلماء. مسرور بأنه يصرّف شؤون ذلك الاقليم العريق وفي عهدته رفات ذلك الإنسان الجليل. سألته إن كانوا قد اختاروه عن قصد لذلك المنصب فابتسم ولم يقل شيئاً.