ماركس الطبقي واوربا التحوليّة؟/9


عبدالامير الركابي
2021 / 3 / 13 - 15:15     

مع التحول الكبيرمن الانتاجيه اليدويه الى الاليه، تنتقل البشرية الى الطور الأخير، التحولي، بينما تأخذ الأحادية بالتراجع وصولا لمغادرة موقع الغلبه والهيمنه على الرؤية البشرية المجتمعيه، الا ان ذلك لن يحدث الا بعد فترة من الغلبه المضاعفة والقصوى تحوزها الأحادية مع الصعود الذي يتوفر عليه الغرب مع الآلة وعلى ضوء حضورها المصنعي الإنتاجي، والتمكن الراسمالي، ومايرافقه من حالة نهوض شامل، يظهر باعتباره قمة بشرية تاريخيه غير مسبوقة، تسعى اوربا مركز التحقق الالي البرجوازي الى تعظيمها لأقصى حد، والى استخدامها وسيله للسيادة على المعمورة، واخضاعها، مجددة من هذه الناحية مايفترض انه من الماضي المفترض تجاوزه بضوء مستجدات اللحظة، الامر الذي يجري الإصرار على تجاهله وتحاشي ملاحظته، ففي موضع الثورة المجتمعية الفكرية والنموذجيه الأحادية الذروة، لاتلمس ثورة من نسقها ومستواها على صعيد العلاقة بالاخر، وقواعد وطرائق التعامل بين الأمم والشعوب، في حين يجري إصرار محتدم على استعمال العلم وتطوره لخدمه أغراض الهيمنه، وضمان الغلبه والقوة باسم التقدم والعصر، في الوقت الذي تصير الحرب لازمه، وممارسة موصوله بالظاهرة الحداثية تحت طائلة الدمار الشامل، وابتكار الوسائل المؤهله لافناء الحياة على الكوكب الأرضي، وما ان اطل القرن العشرين حتى عرف العالم حربين كونيتين، ذهب بحصيلتهما اكثر من سبعين مليون كائن بشري، قابلها على الطرف الأخر من المحيط،حيث القارة الجديدة، والمجتمعية المفقسه خارج رحم التاريخ، حال افناء لمجتمع وحضارة بابادة عدد مقارب للعدد المفقود في الحربين المنوه عنهما.
وباحتساب الحروب الصغرى، والاستعمار وماينجم عنه من مآس، وتسييد مبدأ فرض إرادة القوة والهيمنه، وماعرفه صعود الغرب من شموليات، وأزمة فلسفية تجلت في الفاشية، وفي النظم المتحولة شموليا الآليا الى مايسمى "الاشتراكية"، تكون الظاهرة الغربيه قد أبدت وانطوت على ادنى مستوى من الارتقاء في التعامل بين الكائنات البشرية، قياسا لمراحل التاريخ الأسبق، بما يبيح القول بتاخر الغرب من هذه الناحية "حضاريا"، بغض النظر، وبرغم تقدمه في الميادين الحياتيه والمعرفيه العلمية المختلفة، والاهم في هذا، ان العالم، وبمقدمته الغرب لم يحدث ان انتبه لهذه الناحية، او وضعها بموضع ماتستحقه فعلا كمعامل قياس وحكم على المنجز الغربي، واستغل بهذه المناسبه حال انغلاق الأفق، وتعذر الرؤية او التصور البديل استغلالا دالا على "الانسايوانيه"، لا الانسانيه، برغم التأكيد على العكس، ماقد اظهر، لابل وضع الأغراض والدوافع المصلحية، دون الإنسانية، بموضع القوة الفعاله، والمحركة لاجمالي تاريخ الآلة والثورة البرجوازية الراسمالية الامبرياليه، مع اجمالي بنية الغرب(1).
الى جانب هذا الوجه من الظاهرة الغربيه، طمس أيضا ماهو اخطر، وماقد يصل لدرجة التهديد بافناء الظاهرة المجتمعية، الامر المتاتي من فعل الحاصل الموضوعي الناجم عن عملية الانتقال الى الإنتاج الالي، وماينجم عنها ويترتب عليها من اختلال أساس وخطير في بنية المجتمعات ومنتجيتها، بعلاقتها بالبيئة، وماكان ساريا من وحدة عضوية بيئية إنتاجية، ونمطيه يؤدي حضورالآله الى كسره لصالح الارادوية الواعيه للقوة المهيمنه اجتماعيا، مايترتب عليه اشاعة حالة من الخلل والاضطراب محله، لايكون العقل، ولا نوع الدوافع المقررة المحركة مهيئا ساعتها، وعند لحظة انبثاق الآله، ولا قادرا على تقدير مدى خطورتها واثارهاوماتنطوي عليه، في حين يأخذ را س المال جانب التكاثر والغزارة الإنتاجية كمكسب حري لوحدة بتركيز الاهتمام والنظر، وبالاجمال فان الكائن البشري الطبقي الأوربي، لم يكن في وضع، ولا هو في حال تؤهله، وان هو قد اجترح الانتقال الكبير الى الالة، ان يدرك نوع منطوياتها، ناهيك عن اخطارها الجمه التي تستمر في التراكم متعاظمة تحت طائلة التنافس والاصطراع بين مراكز الإنتاج والقوة، الامر الذي يسرع من تجلي النتائج المترتبه على المتغير الالي، ومايرافقه من اختلال مدمر للبنيه المجتمعية، وللوجود البشري والحياتي عموما على كوكب الأرض.
بالإمكان لابل من الواجب القول، بان نهضة الغرب، هي في الوقت نفسه لحظة ازمة النمط الغربي الأحادي، الدالة على حدوده، وعلى مآلاته، برغم ارتقائه سلم المنجز وضخامة مامتحقق منه، بما يجعل من ازمته ازمة شامله، تقع على اجمالي نمط الأحادية بما هي ظاهرة اجتماعية، ظلت تتمتع على مر تاريخ الظاهرة المجتمعية من بداياتها، بالغلبة النموذجيه والمفهوميه، مقارنه بالمجتمعية الازدواجية التحولية، التي وان كانت تحتل موقع الابتداء المجتمعي، وأول تمظهرات اكتمال الظاهرة المجتمعية وتبلورها بحسب مقاصدها والمستهدف منها، تظل منذ ظهورها عصية على الادراك، خارجه عن القدرة العقلية المتاحة، تنتظر ترقي العقل واكتماله الضروري، قبل ان يماط اللثام عنها، وتصير وقتذاك هي المجتمعية، وكما حصل هنا ابتداء مع تبلور المجتمعية الأولى التحولية، يتكرر اليوم شكل شبيه من اشكال القصورية العقليه والعجز عن الاستيعاب العقلي، يطبع العلاقة بالظاهرة الالية وماينجم عنها، والقدرة المتاحة على ادراك كنهها، الامر الذي يعيد تكرارا، ولو من خلال حالة انتقال اقل أهمية من تلك الابتدائية، شكل جديد من تجلي ظاهرة التفارق العقلي المجتمعي، الملازمة لعلاقة العقل بالمجتمعية.
توجد الالة حين توجد وتنبثق بصفتها منجز الأحادية المجتمعية وازمتها الأخطر على المجتمعات البشرية التي لاافق لها ضمن الأحادية وداخلها، ولا مخرج ممكنا يتوقع او ينتظر منها، يمكن ان يجنب المجتمعات مسار الاختلال المتعاظم، وصولا الى غلبة مبدا "العيش على حافة الفناء" وشموله الكوكب الأرضي، يوم تبدا ازمات الاختلال تنتقل، من الاقتصاد ومناحي الحياة المختلفة، الى مقومات الوجود ومايضمن التوازن الطبيعي الإنتاجي، ومن ثم الحياتي، الى ان تصير متواتره، وتغدو الكوارث ومختلف اشكال الجوائج الآخذة بالتوالد، خارج القدرة المتاحه على السيطرة، وبما يكشف عن ضعف الوسائل الحمائية المتوفرة، دالا على نوعها، ونوع العوامل الأغراض المباشرة التي تأسست بناء عليها، ما هو اقل قدره بما لايقاس من ان يجاري حال الكرة الأرضية والمجتمعبة المستجد، والمتفافم بمتواليات ودرجة توالد خارج ماهو متوفر، وما يمكن توفره من وسائل وأدوات معالجة واستشعار وتوقع بشري او آلي.
لاوجود لماركس والماركسية وسط مسارات كهذه، مخالفه كليا للاجواء والاشتراطات الابتدائية الراسمالية المصنعية للقرن التاسع عشر، المحاطة والمكتنفه بكل انواع الثقه الاطلاقية بسلامة وعظمة المنجز الغربي الحديث، مع الايمان البديهي الذي لاترد على البال مناقشته، المتاتي من الق حضور الالة وماتعد وتوحي به، ماكان من شانه جعل ماركس واثقا ثقة مطلقه بسلامه العملية الانتاجيه، واستمراريتها، قياسا لالذاتها او كينونتها الراهنه والمستقبلية الممكن توقعها، بل بالاحاله الى ماضي المنتجيه اليدوية المستعمله كقاعدة وبداهة، مايضع ماركس بالاصل خارج لحظته التي هو منها، فبينما كان عليه كما على امثاله من العقول الكبيرة، ان يجعل من اللحظة الاليه موضوعه بذاتها، تستحق المزيد من البحث الفاحص والانكباب، بما انها لحظة انقلاب تاريخي نوعي، اعتبرها من نوع ماقبلها،متفوقة عليها، (2) فلم يخطر له لاسباب قصورية عقليه عمومية، واحادية، مجرد احتمال، ان يكون ماقد حدث في اوربا، هو عصر اخر على مستوى الإنتاج واستمراريته وشروطه، قبل الذهاب لرسم سيناريوات إنتاجية يدوية الأصل والقياسات، ومن ثم للصراع الطبقي ومآلاته المستجده كما تصورها منظر الصراع الطبقي، الذي لم يتسن له في النتيجة، سوى ان يقدم سلاحا نظريا، ووسيله ضرورية ولازمه لتبرير الانتقالات الالية من دون طبقة برجوازية، كما حدث في مثالي روسيا والصين كظاهرتين كبريين،مع اللينينيه والماوية، عدا غيرهما من تجارب ومشروعات اصغر.
ليس الانقلاب الطبقي الى الاشتراكيه والشيوعيه كما بشر بها ماركس، هو مايطابق الانتقال الالي، الذي لن يلبث ان يتحول الى اختلال شامل، تتعاظم مظاهر تجليه منذ اخريات القرن المنصرم متزايده اطرادا، فعملية كسر التناغم الإنتاجي المجتعمي المتولد عن الاله وحضورها، ومايرافقها وينبعث عن تضخم الإنتاج الذي تتسبب فيه، ليس بالحالة الشامله المطلقه على مستوى المعموره، ولا هو بقادر بالمطلق على الحاق العالم برمته بازمته التي يصرمواصلا تعميمها على العالم، ومن حسن الحظ، لابل مما يستدعي الرجوع للتوقف امام الحكمه المنطوية بين تضاعيف الظاهرة المجتمعية، ومايبدو من تطابق استثنائي منفرد ـ بالضبط كما وجد بالاصل، وكما ظل منفردا على مستوى المعمورة ـ بين حالة ونموذج "الازدواج المجتمعي التحولي الرافديني"، وبين الالة، مع تغير الممكنات والاغراض القابلة للولادة عن لقاء العنصرين، المستجد الالي، والمجتمعي الازدواجي، بما يجعل من الوسيله الجديده بمثابة منجز متحقق لاداء مهمته الموكوله له، خارج ارض انبثاقه.
ففي ارض الرافدين حيث الازدواج التحولي البنيوي، تصل الآلة الى هنا من الناحية المبدئية باعتبارهاعنصرا ماديا ضروريا مكملا، استمرت ارض الرافدين تنتظره على مدى دورتين من تاريخها، وهوماظل ينقصها فيمنع تحققها اللازم، وإمكان ذهابها للتحول المطابق لكينونتها، وبنيتها الأساس، كمتغير موضوعي، وحال منتظرتحققه، مع ان الوجه الذي يتبدى من الحضور الغربي، يتخذ عند تجليه المباشر منعكسا على ارض الرافدين، صيغة الاحتمالية الافنائية، تلقي بثقلها على ارض التحولية المجتمعية كما لم يسبق ان حدث يوما، فتنتقل الأحادية الذروة الاوربية نموذجا ومفهوما هو الأعلى والاكمل ضمن نمطه وتاريخه، باعتبارها حالة فبركه، مفهوميه نموذجيه اكراهية، متلبسة شكل الكيان والدولة، يجري فرضهما بما هما، وبما يطابق مواصفات المنشأ الجاهزه، الامر الذي لم يسبق لكيانية ومجتمعية الازدواج ان عرفت مايماثله على مر تاريخها بدورتيه الاثنتين السالفتين الكبريين: السومرية البابلية الابراهيمه، والعباسية القرمطية الانتظارية.
ـ يتبع ـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من الاجحاف القول بكليه غياب بعض الدالات على فقدان الثقة او الامل بالمشروع الغربي، او اعلان "غروب الغرب" كما فعل شبنغلر وغيره من الفلاسفة والمؤرخين، الا ان أي نهج له طابع إعادة النظرالشامل، او تحري البديل، لم يظهر، وفي أحوال نادره فقط، جرت محاولات أولية تحليليه تنفي مايدعى من كمال او عظمة الظاهرة الغربيه، لتضعها في باب الوهم، من هذا الصنف من المقاربات يذكر كتاب جوزيف وودكرتش / الانسان الحديث : دراسة في مزاجه وقضاياه/ ترجمه للعربيه، بكر عباس/ وصدر عن "دار الكتاب العربي"/ بيروت ـ بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين للطباعه والنشر ـ 1965 .
(2) في مركز بومبيدو في باريس ترفع لوحة ضخمه في ابرز نقطه منظورة في المركز الهائل، تحمل نصا بتوقيع ماركس باعتباره الأهم في مدح الطبقة البرجوازية ومنجزها الثوري العظيم، واثرها على الإنتاج والاقتصاد، ومن ثم اجمالي الحياة والتقدم.