لينين المنظّر الماركسيّ والقائد الثّوريّ (2)

علي هيبي
2021 / 3 / 13 - 11:43     


لينين . . أسفار وأفكار وسجون:

في هذه الفترة ونقصد أواخر القرن التّاسع عشر سادت في روسيا القيصريّة وبعد بداية دخول الصّناعة إليها حالة من الفقر والجوع عانى النّاس البسطاء منها زيادة على القهر والظّلم وظروف العمل المتدنّية، فقد انعدمت شروط العمل الإنسانيّة وغابت العدالة الاجتماعيّة والحرّيّات. وقد تكون هذه الفترة هي بداية مسيرة "لينين" الكفاحيّة الّتي تتّسم ببدايات ميله إلى الفكر الماركسيّ والّذي من أبرز مبادئه رفض الظّلم الاجتماعيّ والمبنى الطّبقي واستعادة حقوق العمّال والفلّاحين وضرورة التّخلّص من حكم الاستبداد والاستعباد وتغيير نظام الحكم القيصريّ بنظام يقوم على العدالة والحرّيّة وسيطرة الدّولة على وسائل الإنتاج وضرورة إنهاء هذا التّفاوت الاجتماعيّ وحتميّة انتهاء الصّراع الطّبقيّ إلى حكم البروليتاريا (الشّغيلة) حكم الطّبقة العاملة.

"لينين" منذ سنة (1893) بدأ يدرس الحقوق في جامعة العاصمة حينذاك "سان بطرسبورغ" وتخرّج منها، صارت تحمل اسْم "لينينغراد" بعد انتصار الثّورة الاشتراكيّة سنة (1917) ثمّ عادت إلى اسمها الأصليّ بعد الانهيار السّوفييتيّ سنة (1891) ولعلّ الكتابة عن "لينين" كمكافح ثوريّ ضدّ نظام الحكم القيصريّ يأخذنا إلى بداية حكم سلالة "رومانوف" الّتي حكمت الإمبراطوريّة الرّوسيّة لمدّة ثلاثة قرون، كان أوّل قياصرتها "ميخائيل رومانوف" (1596 – 1645) وبدأ حكمه سنة (1612) وآخرهم "نيقولا الثّاني" (1868 – 1918) الّذي أقيل بعيد ثورة شباط سنة (1917) أو قبيل انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكيّة العظمى سنة (1917) والّتي قادها الزّعيم البلشفيّ العظيم "فلاديمير إيليتش لينين".

بدأ "لينين" منذ بداية العقد الأخير للقرن التّاسع عشر بقراءة الأعمال الأدبيّة الثّوريّة مثل مؤلّفات الكاتب "نيقولاي تشيرنيشفسكي" وأشهرها روايته "ما العمل" وقرأ الأعمال الفكريّة للماركسيّ الرّوسيّ "جورجي بليخانوف" (1856 – 1918) وكان "بليخانوف" أوّل من أدخل الفكر الماركسيّ إلى روسيا، ولكنّ نشاطه اقتصر على التّنظير ولم يسعَ ربّما للظّروف الموضوعيّة للممارسة والتّطبيق في أرض الواقع، ولم يتصرّف كقائد وهو الأمر الّذي تميّز به "لينين" لأنّ الظّروف كانت مواتية أكثر، وكان في "لينين" كلّ صفات المفكّر النّظريّ والقائد الميدانيّ كما سنرى فيما بعد. وقرأ أعمال "كارل ماركس" الفلسفيّة، ومن خلال تأثّره بها آمن بأنّ الطّبقة العاملة هي القادرة بكفاحها الدّؤوب أن تنقل المجتمع الإقطاعيّ إلى الرّأسماليّة ومن ثمّ إلى الاشتراكيّة، وليس الفلّاحون هم القادرين على فعل ذلك. في هذه الأثناء وبعد عدّة سنوات من تخرّجه بدأ عمله كمساعد قانونيّ في مدينة "سمارا"، ولكنّه سرعان ما عاد إلى العاصمة ليعمل محاميًا وفي هذه الفترة انضمّ إلى خليّة ثوريّة ماركسيّة، هي خليّة "الدّيمقراطيّين الاجتماعيّين"، وفي سنة (1989) أعلن عن نفسه ماركسيًّا، ومن هذه الحقيقة انطلق بالعمل الثّوريّ المنظّم على أساس الفكر الماركسيّ في تأسيس خلايا ثوريّة في المراكز الصّناعيّة، حتّى أصبح قائدًا لدائرة العمّال الماركسيّين في العاصمة "سان بطرسبورغ"، وفي هذه الأثناء وقبلها تكوّن حزب العمّال الاشتراكيّ الدّيمقراطيّ الرّوسيّ وتمّ اختيار "لينين" رئيسًا له ما بين السّنوات (1900 – 1905) وأطلق القائد نداءه المعبّر عن المطالب النّضاليّة الثّوريّة في هذه الفترة نظريًّا وعمليًّا "قدّموا لنا تنظيمًا من الثّوريّين وسنقلب لكم روسيا رأسًا على عقب". وقلب "لينين" روسيا من القيصريّة الإقطاعيّة والرّأسماليّة إلى الاشتراكيّة الأمميّة.

وبما أنّ النّضال الثّوريّ الماركسيّ لا ينحصر في قوميّة دون قوميّة، بل هو كفاح أمميّ يقوم على الصّراع الطّبقيّ فقد كان لا بدّ من أن ينسّق القائد "لينين" مع الماركسيّين الأوروبيّين، ولذلك كان كثير السّفر إلى خارج روسيا، فإلى سويسرا سافر سنة (1894) لتنظيم العلاقات مع الماركسيّين الرّوس المنفيّين بسبب نشاطهم الكفاحيّ، وفي فرنسا التقى بصهر "كارل ماركس" وزوج ابنته "لورا ماركس" (1845 – 1911) المدعو "بول لافارج" (1842 – 1911) وقد اتّفقا على موت انتحاريّ في الوقت نفسه. وفي "برلين" قابل النّاشط الماركسيّ الألمانيّ "فيلهلم ليبكنشت" (1871 – 1919) ولم يقتصر نشاطه على العمل الميدانيّ بل آمن بضرورة التّثقيف الثّوريّ للبسطاء عن طريق إدخال منشورات ثوريّة حملها معه من الخارج وعن طريق إصدار الجرائد، فقد أصدر جريدة "رابوتشي ديلو" الّتي كانت تدعو وتحرّض ضدّ السّلطة الحاكمة ممّا أدّى إلى اعتقاله بتهمة إثارة الفتن سنة (1896) ومن أروع مواقفه العظيمة وعناده عندما رفض التّهمة الموجّهة إليه ورفض الإفراج عنه بكفالة ماليّة، فمكث في السّجن عامًا كاملًا. "لينين" لا يهدأ عن التّفكير والثّورة فقضى عامه ذاك بالكتابة الّتي عبّر بها عن أفكاره في العمل والنّشاط الثّوريّ والميدانيّ.

في سنة (1897) حوكم مرّة أخرى وكان الحكم أشدّ قسوة، إذ نفي إلى "سيبيريا" لمدّة ثلاث سنوات، استغلّ "لينين" الفترة القصيرة قبل تنفيذ النّفي بلقاءات مع الاشتراكيّين الدّيمقراطيّين الّذين أطلقوا على أنفسهم "عصبة الكفاح من أجل تحرير الطّبقة العاملة" ورغم أنّ النّفي كان بقصد إبعاده كي لا يتمكّن من التّواصل مع الماركسيّين والثّوريّين إلّا أنّه بحنكته وحسن درايته الكفاحيّة استطاع أن يتواصل مع أهله ورفاقه. أنهى مدّة نفيه سنة (1900) وبعدها سافر إلى عدد من دول أوروبا الغربيّة، ومن سويسرا وبعد اجتماع مع الماركسيّين الرّوس تقرّر إطلاق "ورقة ميونيخ" لنشر الماركسيّة في روسيا، ولأوّل مرّة يتمّ تهريب الورقة وهو يحمل اسمه المستعار "لينين" سنة (1901) وفي هذه الأثناء طوّر أفكاره الّتـي كتبها في السّجن في كتابه الشّهير "ما العمل" سنة (1902) وفيه أبرز فكرة الحاجة إلى حزب سياسيّ من نوع جديد يقود الطّبقة العاملة. وفي منفاه في "سيبيريا" أنجز "لينين" مؤلّفه "تطوّر الرّأسماليّة في روسيا". الّذي صدر سنة (1889) وكان الكتاب بحثًا عمليًّا يتناول تطوّر روسيا الاقتصاديّ، وقد برهن "لينين" في هذا الكتاب استنادًا على المعطيات الثّابتة إنّ الرّأسماليّة في روسيا لم تتوطّد في الصّناعة وحسب، إنّما توطّدت أيضًا في الإنتاج الزّراعيّ. وبيّن فيه أنّ الطّبقة العاملة هي حفّار قبر الرّأسماليّة وبناة المجتمع الاشتراكيّ الجديد. كان "لينين" في منفاه يعمل بإجهاد للنّفس، لكنّه كان يحسن الرّاحة، ففي ساعات الفراغ كان يتزلّج وكان يقوم بجولات الصّيد، وكان يهيم بالطّبيعة في "سيبيريا" الغزيرة بجمالها الوقور، وكان عندما يلتقي الرّفاق المنفيّين يسهم في الغناء مع الجماعة، وكان يحبّ أكبر الحبّ الأغاني الثّوريّة: "أضناني الأسر القاسي" وَ "الأعاصير المعادية". وكان يراسل الأهل بانتظام، إذ كان قلبه يفيض حنانًا لأمّه الّتي أكنّ لها أكبر الحبّ. وفي المنفى البعيد كان "لينين" يتتبّع تطوّرات حركة العمّال بانتباه. ومن سويسرا إلى بريطانيا ولقاء هامّ مع رفيقه الماركسيّ "ليون تروتسكي" (1879 – 1940)

المؤتمرات الحزبيّة السّرّيّة:

المؤتمر الثّاني للماركسيّين الرّوس انعقد في سويسرا فعاد "لينين" إليها من بريطانيا، وفيه أكّد الحاجة إلى قيادة قويّة وصارمة وسيطرة كاملة على الحزب بعكس "يوليوس مارتوف" (1873 – 1923) الّذي آمن بضرورة أن يكون أعضاء الحزب قادرين على التّعبير عن أنفسهم بشكل مستقلّ عن القيادة وأصبح زعيمًا للمناشفة الّذين انشقّوا عن حزب البلاشفة. وانتصرت الأغلبيّة لفكرة "لينين"، وشهد الحزب أوّل انشقاق في تاريخه: البلاشفة وهم الأكثريّة والمناشفة وهم الأقليّة المنشقّة. كان "لينين" وخاصّة بعد أحداث "الأحد الدّامي" يحثّ البلاشفة على ضرورة القيام بدور أكبر وأخطر في الأحداث وذلك بتحريض العمّال والفقراء وتشجيعهم على التّمرّد العنيف والمسلّح أو ما سمّي بِ "الإرهاب الجماعيّ" وتحريض الفلّاحين على الاستيلاء على أراضي النّبلاء، لأنّ الثّورة برأيه لن تنجح دون أن تبني الطّبقة العاملة تحالفًا مع الفلّاحين من أجل الإطاحة بالقيصريّة الدّكتاتوريّة المستبدّة والظّالمة وإنشاء دكتاتوريّة مؤقّتة، ديمقراطيّة، ثوريّة وعادلة تعتمد على العمّال في المصانع والمدن وعلى الفلّاحين في الأرض والأرياف.

وبعد عودة أخرى إلى روسيا، إلى العاصمة "سان بطرسبورغ" أصدر فيها جريدة "الحياة الجديدة" بثّ فيها القضايا المحدقة والملحّة الّتي على الحزب الدّيمقراطيّ الاشتراكيّ أن يواجهها، ومن أبرزها توسيع صفوفه بأعضاء جدد وتصعيد المواجهة العنيفة مع الحكومة القيصريّة، ولأنّ الحزب كان محظورًا وسرّيًّا عاد "لينين" إلى "ستوكهولم" في العام نفسه لحضور المؤتمر الرّابع للماركسيّين، وفي سنة (1907) شارك في أعمال المؤتمر الخامس في "لندن"، أمّا المؤتمر السّادس فقد انعقد في "باريس" سنة (1908) بعد نقل مقرّ الحزب إليها، واستقرّ فيها بعد مشاركته في العام نفسه بمؤتمر الاشتراكيّين في "كوبنهاجن". عند اندلاع الحرب العالميّة الأولى كان "لينين" في هنغاريا، وهناك اعتقلته السّلطات المجريّة لأنّه روسيّ، وكانت روسيا في حالة حرب مع الإمبراطوريّة الهنغاريّة النّمساويّة، فسجن لفترة قصيرة وتمّ الإفراج عنه لأنّ السّلطات المجريّة عرفت أنّه يعارض سياسة القيصر الرّوسيّ التّوسّعيّة.



حروب متواصلة وعبوديّة بائسة:

أعتقد إنّ دولة تعلن عن كونها إمبراطوريّة لن تكتفي بحدود رقعتها الجغرافيّة، بل ستتعدّى هذه الرّقعة بهدف الاستيلاء على أراضي الغير، ولن يكون هذا التّمدّد والتّوسّع الجغرافيّ غاية بحدّ ذاته بل هو وسيلة للهيمنة على الثّروات فتنهبها وعلى الشّعوب لاستعبادها، باغية من كلّ ذلك جني الأرباح المادّيّة والأطماع الاقتصاديّة من خلال الحرب والاحتلال والاستيطان والاضطهاد. وعندما تحقّق الإمبراطوريّة ذلك فإنّها لا تفعل ذلك لخير شعبها وازدهار أمّتها، بل هي وسيلة لزيادة أرباح الإقطاعيّين والرّأسماليّين من الحكّام الظّالمين والنّخبة الحاكمة والطّبقة الأرستقراطيّة المتذيّلة للسّلطة السّياسيّة، وهؤلاء قد لا يشكّلون من الأمّة إلّا نسبة قليلة لا تتعدّى ال 10%، والمصالح بين السّياسة والسّياسيّين والعسكر والعسكريّين والاقتصاد والاقتصاديّين متبادلة ومتعادلة، أمّا الضّحية لهذه الحروب والاحتلال والاضطهاد والمصالح والأرباح فهم السّواد الأعظم من الطّبقات الشّعبيّة من الأقنان والعبيد والفلّاحين المسخّرين والأجيرين المسحوقين من الأمم جميعًا المحتلّة (اسم فاعل) والمحتلّة (اسم مفعول) وهم يقاربون بنسبتهم السّكّانيّة ال 90% من النّاس. هذه الأكثريّة هي الّتي قام من أجلها الفكر الماركسيّ، ومصالحها هي الّتي أشغلت بال القائد الثّوريّ "لينين"، ومن أجلها أقام الطّليعة الثّوريّة وحزب "البلاشفة" (الأكثريّة) الّذي صار الحزب الشّيوعيّ فيما بعد، وقاد الثّورة الاشتراكيّة المنتصرة في أكتوبر سنة (1917) وأنهى بذلك النّظام القيصريّ الإمبراطوريّ الّذي يقوم على الشّموليّة والاستبداد وكافة ملحقاته الظّالمة.

خاضت الإمبراطوريّة الرّوسيّة وعلى مدى قرون طويلة العديد من الحروب مع إمبراطوريّات أخرى، فعلى سبيل المثال خاضت مع الإمبراطوريّة العثمانيّة منذ (1568 – 1918) ثلاث عشرة حربًا، وخاضت مع غيرها مثل المجريّة والنّمساويّة والألمانية حروبًا كثيرة أخرى. وبما أنّ الإمبراطوريّات لها ذات الدّوافع والأطماع فلا بدّ من أن تكون الحروب بينها تحصيلًا حاصلًا، لأنّ الحرب تعتبر امتدادًا وانعكاسًا لأفكار سياسيّة أو لأطماع اقتصاديّة أو لأحوال اجتماعيّة. والبشريّة كلّها تعاني من ويلات الحروب، وإذا كانت الأنظمة الحاكمة هي الوقود الّذي يشعلها فإنّ الشّعوب ببسطائها ومسحوقيها وعبيدها وأقنانها وعمّالها الفقراء وفلّاحيها المعوزين هم الحطب الّذي يحترق بها، وهم الّذين تفقدهم الحرب كلّ أمل في الحياة والتّطوّر والثّورة والتّحرّر. لذلك كانت الحرب هي العدو الرّئيس للاشتراكيّة الماركسيّة الّتي حمل لواءها "لينين" على مدى أربعة عقود، هذه العقود الأربعة هي تاريخ مسيرته الكفاحيّة والفكريّة الخالدة. ومن هذه المسيرة تكوّنت عظمته كمفكّر ثوريّ أمميّ ومناضل ثوريّ ميدانيّ في ساحات الكفاح اليوميّ من أجل المسحوقين الرّوس وفقراء العالم، ومن أجل تحقيق حكم الطّبقة العاملة الّذي ينهي الحروب والاستعباد بين الأمم ويلغى استعباد الإنسان لأخيه الإنسان ويضمن وفقًا لمشروعه الثّوريّ فكرًا وتطبيقًا السّلام العالميّ والاشتراكيّة الأمميّة والحرّيّة والعدالة الاجتماعيّة وسعادة البشر. ولذلك أنهى "لينين" بشجاعة لم تُفهم في حينه دور روسيا في الحرب العالميّة الأولى في نيسان سنة (1918) وأخرجها من الصّراع الدّولي وفقًا لبنود معاهدة السّلام مع ألمانيا وحلفائها من دول المركز، فيما عُرف بمعاهدة "بريست ليتو فيسك". الّتي سنأتي على ذكرها فيما بعد.

من الأحداث الفاصلة في تاريخ الإمبراطوريّة الرّوسيّة إلغاء نظام القِنانة الّذي نفّذه القيصر "إلكسندر الثّاني" (1818 – 1881) بنفسه ليس حبًّا بالأقنان أو اعترافًا أو إيمانًا بحقوقهم بل تحت ضغط الرّأي العامّ ودعوات الحركات الإنسانيّة العالميّة لإلغاء العبوديّة، وخوفًا من ثورة العبيد وهروبًا من الفشل الّذي منيت به روسيا بقيادة القيصر "نيقولا الأوّل" أمام تحالف كبير جمع قوّات الإمبراطوريّة الفرنسيّة والبريطانيّة والعثمانيّة ومملكة سردينيا فيما عرف بحرب "القرم"، فقد لاقت فيها روسيا هزيمة نكراء بسبب ضعف جيشها برَّا وبحرًا، وكانت أكثر الحروب إذلالًا ومهانة للإمبراطوريّة الرّوسيّة.



القِنانة:

كان إلغاء القنانة سنة (1861) تاريخًا فاصلًا في تاريخ روسيا القيصريّة، لأنّه شكّل بداية انتهاء احتكار الطّبقة الأرستقراطيّة للسّلطة، وحدا بالأقنان خاصّة أقنان الأرض بالنّزوح إلى المدن ممّا أدّى إلى بداية النّمو الصناعيّ، وإلى زيادة حجم الطّبقة الوسطى (البرجوازيّة) وتحوّل هؤلاء الفلّاحون إلى عمّال في المصانع، وهذا يشكّل بداية لنمو الطّبقة العاملة "الشّغيلة" (البروليتاريا) والّتي هي ركيزة الصّراع الطّبقيّ وتغيير النّظام القيصريّ الأرستقراطيّ ومن ثَمّ البرجوازيّ بالكفاح الثّوريّ المسلّح لبناء المجتمع الاشتراكيّ الّذي ستحكمه تلك الطّبقة، وهذا هو التّطبيق العمليّ للنّظريّة الّتي آمن بها "لينين" بالاعتماد على الأفكار الاشتراكيّة الماركسيّة والأمميّة والشّيوعيّة، أو ما سمّيت به النّظريّة العلميّة المعتمدة على شقّيْن: المادّيّة التّاريخيّة والمادّيّة الجدليّة. (الدّيالكتيكيّة) المستمدّة من تفسير "لينين" النّظريّ للماركسيّة وتطبيقه على أرض الواقع الرّوسيّ أوّلًا.

والقنانة شكل من أشكال العبوديّة أو الاسترقاق كما كان نظام الإمبراطوريّة الرّومانيّة القديمة قبل الميلاد، وها نحن في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر بعد الميلاد وما زال النّظام والعبوديّة هي ذات النّظام والعبوديّة. لا إمبراطوريّة قديمة أو حديثة بلا استرقاق أو عبوديّة أو قِنانة لأنها تشكّل ركيزة لظلم حكّامها واضطهادهم واستعبادهم للبشر وركيزة لحروبها وهيمنتها وأطماعها واستيلائها على ممتلكات الغير وتكديس الثّروات الهائلة لأفراد طغمهم وطبقاتهم المقرّبة. والقِنانة حالة اجتماعيّة واقتصاديّة للفلّاحين تحت ظلّ نظام الإقطاع، والقِن أو العبد يعمل بحمايته وتأمين لقمته المغموسة بالذّلّ، وأقنان الأرض العاملون بالفلاحة هم الطّبقة الاجتماعيّة الدّنيا في المجتمع، والقن يباع ويشترى مع الأرض فينتقل من سيّد إلى سيّد، هذا هو التّاريخ منذ الإمبراطوريّات في التّاريخ القديم حتّى الإمبراطوريّات في التّاريخ الحديث. ومن المؤلم والمؤسف والمقزّز من أولئك الأسياد والإمبراطوريّات أنّ العبد يكسب حرّيّته فقط بإحدى أربع طرق أبرزها الموت أو بالخدمة العسكريّة أو بالشّراء بالمال أو بإعتاقه، ويكفي أن نعلم أنّه كان في الإمبراطوريّة الرّوسيّة حتّى منتصف القرن التّاسع عشر 23 مليون من الأقنان، كانوا محرومين من الأراضي والمنازل وحتّى من الزّواج دون إذن أسيادهم، وحين منحوا قليلًا من الأراضي بعد الإصلاح سنة (1861) أثقلوا بالضّرائب واضطروا للتّخلّي عنها وتركوها فنزحوا كما ذكرنا إلى المدن. بعد الثّورة سنة (1917) استطاعت الدّولة السّوفييتيّة الاشتراكيّة استبدال هذا النّظام الظّالم من القنانة والاستغلال في عهد القيصريّة بنقائض لكلّ تلك البنى الزّراعيّة البائدة، وكذلك بعكس الزّراعة الفرديّة والعائليّة، وهي "الكولخوزات" التّابعة لمجموعة من الفلّاحين وتحت رعايتهم وَ "السّوفخوزات" التّابعة لملكيّة الدّولة وقد نجحت هذه البدائل الزّراعيّة التّعاونيّة في زيادة الإنتاج الزراعيّ العامّ، خاصّة بعد أن تطوّرت الصّناعة أيضًا وصارت الدّولة قادرة على توجيه الفلّاحين في تنظيم مجالات الزّراعة وإرشادهم وإمدادهم بالآلات الحديثة والوسائل العلميّة.



حرب البلقان مقدّمة فقط:

لقد أنشأت معاهدة "سان ستيفانو" الّتي أبرمت بين الإمبراطوريّة الرّوسيّة المنتصرة وبين الدّولة العثمانيّة المهزومة سنة (1878) بعد سلسلة طويلة من الحروب منذ سنة (1568 – 1918) ظروفًا جديدة مهّدت الطّريق أمام انهيار الإمبراطوريّتيْن في النّهاية، ولكنّ تلك الحروب شكّلت مسرحًا أوسع للقوى الاستعماريّة الدّوليّة كبريطانيا وفرنسا وألمانيا والدّول النّاشئة مثل بلغاريا واليونان وصربيا في البلقان. لقد كانت تلك الصّراعات والحروب حتّى حروب البلقان تمهيدًا لأوّل صراع عالميّ بين الدّول وأطماعها هو الحرب العالميّة الأولى، الّتي اندلعت على عدّة جبهات الأولى منها سنة (1914) ودامت لخمس سنوات حتّى سنة (1919). خرج العالم كلّه منها خاسرًا وفقًا للمفهوم الرّوحانيّ والإنسانيّ والحضاريّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ، أمّا وفقًا للمفاهيم المقابلة وموازين القوى السّياسيّة والأطماع والأرباح المادّيّة والمكاسب الاقتصاديّة، فلكلّ دولة حساباتها الخاصّة. لقد قدّرت الخسائر البشريّة فقط بثلاثين مليون إنسان بين قتيل وجريح ومفقود ومشوّه.

في حرب البلقان الأولى سنة (1912) تمرّدت الشّعوب والقوميّات السّلافيّة ضدّ الحكم العثمانيّ الّذي تعامل مع ثوراتهم بقمع ووحشيّة أثارت من جديد النّزعة الرّوسيّة للحرب ضدّ الأتراك بحجّة الوحشيّة التّركيّة، ودعمت تلك الثّورات. في هذه الفترة تسلّم الحكم في روسيا القيصر "ألكسندر الثّالث" كان رجعيًّا وتراجع عن الإصلاحات الّتي نفّذها سلفه "ألكسندر الثّاني" وأراد إعادة روسيا وفقًا لمفهوم جدّه القيصر "نيقولا الأوّل" وكان شعاره جعل روسيا دولة أرثودكسيّة وأوتوقراطيّة ووطنيّة، وضيّق في الدّاخل الخناق على الحرّيّات عامّة وعلى حرّيّة التّعبير والصّحافة وبثّ في المجتمع الرّوسيّ دعايته في خطورة الدّيمقراطيّة والدّستور والبرلمان. وقد عمل بسياسة القمع والقتل ضدّ الثّوريّين، أمّا في الخارج فقد تحالف مع فرنسا لصدّ أطماع ألمانيا المتنامية، فسيطرت روسيا على آسيا الوسطى وأجزاء من الصّين.

كلّ هذه الأحداث أعادت الصّراعات الحربيّة إلى السّطح في روسيا، فقد تسلّم الحكم بعد "ألكسندر الثّالث" (1845 – 1894) ابنه القيصر "نيقولا الثّاني" (1894 – 1917) في عهده وتحت ظلّ هذه الأوضاع والتّوترات ومع بداية نمو طبقة العمّال في المدن بدأت الصّناعة الرّوسيّة تنمو وعرفت هذه النّقلة الاجتماعيّة والاقتصاديّة بالثّورة الصّناعيّة في الإمبراطوريّة الرّوسيّة. لقد بدأ مع تكوّن الرّأسمال الصّناعيّ التّخوّف على المصالح الاقتصاديّة للطّبقة الأرستقراطيّة من النّبلاء وأصحاب الرّساميل فقاموا بإصلاح اجتماعيّ سلميّ وشكّلوا الحزب الدّستوريّ الدّيمقراطيّ، لإدراكهم أنّ الظّروف تغيّرت والأوضاع لم تعد هي الأوضاع نفسها، وعمّال المصانع ليسوا هم أقنان الأرض وعبيد الإقطاعيّين ملّاك الأرض، لقد أدركوا أن لا بدّ من امتصاص الغضب العمّاليّ والنّقمة الاجتماعيّة، وكان "لينين" يراقب ويرسم وينظّم ويتهيّأ لكفاح ثوريّ من طراز جديد في ذلك الصّراع الطّويل.



لينين وطراز جديد من الصّراع:

لم يرد "لينين" أن تنجرّ روسيا ولا أن تشارك بكلّ تلك الحروب مع الأمم الأخرى أو الإمبراطوريّات، فالحرب بمنظوره دمار ماحق للغاية، وهي السّلام والاشتراكيّة وماحق للوسيلة لتحقيقهما، وهو النّضال الثّوريّ والصّراع الطّبقيّ الّذي يجب أن تقوده الطّبقة العاملة بتنظيم طليعتها وقيادتها، الحزب البلشفيّ (الشّيوعيّ الأمميّ الماركسيّ) إنّه حزب مختلف ومن طراز جديد.

في أواخر القرن التّاسع عشر دعا الثّوريّون الاجتماعيّون إلى توزيع الأراضي على الفلّاحين الّذين يعملون فيها، لأنّ الإصلاحات السّابقة الّتي كانت تحت شعار إلغاء القنانة لم تضمن لهم ذلك، وكان مع هذه المجموعة الحزب الاشتراكيّ الدّيمقراطيّ وهو من دعاة الماركسيّة، حيث دعوا إلى استكمال الثّورة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة، ولكنّ هذا الحزب انقسم سنة (1903) إلى قسميْن نتيجة الاختلاف في التّوجّه الكفاحيّ والثّوريّ لإدارة الصّراع: المناشفة وهم المعتدلون رأوا بأنّ الاشتراكيّة في روسيا سوف تنمو تدريجيًّا بشكل سلميّ، وذلك بتحويل النّظام القيصريّ إلى نظام جمهوريّ، من خلال التّعاون بين الأحزاب الاشتراكيّة واللّيبراليّة البرجوازيّة على بناء الوطن. أمّا البلاشفة بزعامة "لينين" وهم "المتطرّفون" فقد دعوا إلى تشكيل نخبة من الثّوريّين تخضع لانضباط حزبيّ قويّ وصارم، لتكون هذه النّخبة الثّوريّة هي طليعة الطّبقة الكادحة من أجل الاستيلاء على السّلطة بالقوّة والسّلاح.

كانت الضّربات تتوالى مع بداية القرن العشرين على النّظام القيصريّ، وأبرزها خسارة روسيا وهزيمتها في الحرب مع اليابان (1904 – 1905) ولقد كانت هذه الهزيمة إنذارًا لحدوث القلاقل والثّورات، وصلت أوجها في أحداث "الأحد الدّامي" سنة (1905) حيث قاد الأب "جورجي غابون" (1870 – 1906) النّاس لتقديم عريضة احتجاج أمام "قصر الشّتاء"، وكان حشدًا هائلًا في العاصمة "سان بطرسبورغ" أطلق الجنود القوزاق النّار على المتظاهرين فقُتل المئات. تتراكم الأحداث والمعاناة الشّعبيّة حدثًا وراء حدث ومعاناة تلو أخرى، لقد كان لهذه المجزرة صدى جماهيريّ واسع، ولذلك خرجت تهتف وتطالب هذه الجماهير بإسقاط القيصريّة والإعلان عن الجمهوريّة. ولكنّ القيصر لمّا يسقط، أمّا الأحداث الدّامية وسلسلة الحروب المرهقة والمذلّة فكانت بداية ومقدّمة للثّورة الرّوسيّة سنة (1905) ولمّا تسقِط هذه الثّورة القيصر أيضًا. ولكنّ القيصر "نيقولا الثّاني" ونتيجة لضغط النّشاط الثّوريّ بعد تكوّن مجالس العمّال (السّوفييتات) الّتي قادت الكفاح الثّوريّ ووحّدت النّاس، إذ ظلّت الحكومة عاجزة ولم تستطع أن تقدّم حلولًا للأوضاع المزرية على كافّة الأصعدة. اضطرّ القيصر على مضض إلى الإعلان عن "بيان أكتوبر" الّذي تضمّن الموافقة على إنشاء البرلمان الوطنيّ (الدّوما) والّذي كان يهدف إلى إرضاء المجموعات المعتدلة. هذه التّنازلات الّتي قدّمت لامتصاص نقمة الجماهير المسحوقة رفضها الاشتراكيّون الثّوريّون بقيادة "لينين" لأنّها لا تفي بالمطالب العادلة، فنظّموا الإضرابات من جديد، وفي الوقت ذاته الّذي كان فيه الاشتراكيّون يكافحون ضدّ الإجراءات القيصريّة البائسة كان انقسام الإصلاحيّين وابتعادهم عن الكفاح سببًا من أسباب تعزيز قوّة القيصر ونظامه الفاسد. ولمّا يسقط القيصر.