نظريات المعني بين التصور والاستخدام


محمد دوير
2021 / 3 / 10 - 20:55     

يبحث موضوع المقال هنا في "المعني"، وفي الشروط الواجب توافرها حتي يكون للكلمات والجمل معني. وموضوع المعني من أهم مباحث فلسفة اللغة، فماذا عنه؟ وما هو المقصود حينما نقول أن للفظ ما أو لعبارة ما معني ؟ وكيف نميز بين العبارات التي لها معني والعبارات الخلو من المعني ؟ وهل لكل كلمة معني محدد، أم أن معناها يتغير بحسب السياق الذي توجد فيه ؟ وما العلاقة بين الكلمة والشيء الذي تشير إليه والمعني؟ ثم كيف أسهم الفلاسفة والمناطقة في الإجابة عن تلك التساؤلات؟ وهل توصلوا إلي نتائج مرضية في هذا الموضوع ؟

إن الحديث هنا يجب أن يقتصر علي فترة زمنية محددة ، ذلك لأننا لو أطلقنا العنان وفتحنا الباب علي مصراعيه لتكشف لنا أن لكل فيلسوف مصطلحاته الفلسفية الخاصة به والتي خلق دلالتها بنفسه، ومن ثم كان لزاما أن نضبط البحث ويتم هذا من خلال أمرين، الأول، أن نلتزم في بحثنا بأهم النظريات التي تناولت" المعني"، أي سنحاول– قدر الإمكان– الابتعاد عن الآراء الفردية لبعض الفلاسفة، التي تناولت رؤاها خارج إطار التصنيف المدرسي للمدارس التي تناولت المعني كإشكالية.والثاني،هو الاقتصار علي القرن العشرين وأواخر القرن التاسع عشر مع مراعاة أن يكون هناك مدخلا تمهيديا يعرض للمشكلة باعتبارها قضية فلسفية بالدرجة الأولي.

ما هي الشروط التي يجب توافرها في الكلمات أو الجمل أو العبارات أو القضايا لكي يتحقق لها المعني؟ يختلف الفلاسفة والمناطقة في تحديد هذه الشروط وفي تناولهم لهذا الموضوع، وهنا تنشأ عدة نظريات في المعني.ولكن سبل تحديد وتصنيف النظريات اختلفت باختلاف المدارس الفلسفية فهناك من يقوم تصنيفه علي أن نظريات المعني تندرج تحت ثلاث، كما يري محمود فهمي زيدان هي:

أ‌- النظرية الإشارية Referential Theory وتذهب إلي القول بأن كل قضية مؤلفة من أسماء، وأن معني الاسم هو مسماه ذاته، عند بعض أنصار هذه النظرية، بينما يري البعض الآخر في النظرية الإشارية إلي وجود فارق بين الاسم ومسماه، ولذلك يطلق عليها أحيانا النظرية الاسمية في المعني Naming Theory of meaning . ولكننا نلاحظ اختلافا بينا هنا بين أنصارها.
ب‌- النظرية الفكرية: وتذهب إلي أن هناك تقابل بين الكلمة والفكرة في الذهن، وان هذه الفكرة هي معني الكلمة، فالمعني تصور ذهني، ونحن حينما نطلق الكلمات فإننا نعبر بذلك عن أفكارنا، ومن أنصار هذه النظرية جون لوك وجورج مور
جـ- نظرية المنبه والاستجابة: وتقول بأن معني الجملة هو الموقف الذي ينطق فيه المتكلم جملة ما وتعقبه استجابة لدي السامع. أو أن المعني هو المنبه الذي يثير استجابة لفظية معينة ومن روادها ليونارد بلومفيد.

بيد أن هناك تصنيف أخر لدي علماء اللغة فيما يخص نظريات المعني، ونجده أكثر شمولا ودقة، لان التصنيف السابق قد أهمل مدارس فلسفية كبيرة وهامة قدمت إسهامات جديرة التناول في هذا الموضوع. إضافة إلي أن هذه النظريات التي سبق ذكرها ليست كافية لشمول القضية التي نبحث فيها، فالمعني يختلف من فيلسوف إلي أخر بما يعني أننا قد نجد عدد لا حصر له من تعريف المعني وتأسيس نظرية فيه. ولكن يجب أن ننظر إلي الأمر بصورة أكثر ضبطا بمعني أننا سنلتزم بالإجابة علي السؤال التالي في تحديد نظريات المعني وهو ما الشروط الواجب توافرها في عبارة أو كلمة لكي يكون لها معني ؟ وهنا سوف نعرض لأربع نظريات – سنتناول هنا معنيين فقط منهم- وهي:
• المعني تصور، وتحليل التصور هو تحقيق الترادف " مور– كواين"
• معني الكلمة هو استخدامها المألوف " فتجنشتين"
• المعني والإشارة " فريجه"
• معني القضية هو صدقها " الوضعية المنطقية"

1- المعني تصور وبحث عن الترادف .. ويمثل هذه النظرية الفيلسوف الانجليزي جورج مور والمنطقي الأمريكي كواين، وعلي الرغم من أن منهجها الفلسفي لم يكن متفقا إلي حد بعيد الا أن أسباب الجمع بينهما هنا يرجع بالأساس إلي فكرة الترادف، هذا من ناحية، ومن ناحية أخري فإنهما توصلا إلي نتيجة واحدة تقريبا من عملية البحث والدراسة في المعني.
أ‌- جورج مور: ينتمي مور إلي الاتجاه التحليلي المعاصر، بل يعتبر من أعلامه فيما يعرف باتجاه مدرسة كمبريدج، ويمكن لنا إضافة إلي أعلام آخرين مثلوا تلك الفلسفة التحليلية آنذاك أمثال " رسل " و " برود" . وقد اهتم مور بصفة خاصة في فلسفته بأن جعل " الفهم المشترك" أساسا لها، فمن خلال هذا الفهم المشترك ندرك الصدق بالبداهة، وبه أيضا نعرف أن العالم المادي موجود ، ومن ثم- فيما يري زكي نجيب محمود- " فخير ما تشغل الفلسفة نفسها به هو أن تحلل عبارة المتكلم التي يصدر فيها عن فهم مشترك أو عن بحث علمي، تحليلا يبين علي وجه الدقة ما يراد بها من معني حتي يصح لها أن تكون عبارة صادقة". وقد اهتم مور بتحليل التصورات والقضايا وما تدل عليه من وقائع وأشياء ولم يقم بتحليل الألفاظ، ويذهب إلي أن للتحليل خطوتان هما التقسيم والتمييز، ومعيار هو التكافؤ المنطقي بين التحليل وما يراد تحليله. والتقسيم هنا يعني تحليل التصور المركب إلي تصورات بسيطة، أما التكافؤ المنطقي فقد رآه علي صور ثلاث هي الترجمة والتكافؤ المنطقي والترادف.وقد ارتبطت تلك الصور الثلاث في ذهنه وكأنها موضوع واحد أو معيار واحد. بمعني أن التحليل هو ترجمة من تصور مركب إلي تصورات بسيطة، بحيث يحدث تكافؤ بينهما فيتحقق الترادف، وبذلك نصل إلي هوية المعني. ولكن مور توقف قليلا عند عملية التحليل فتشكك في إمكان الوصول إلي تحليل بعض الكلمات لما هو ابسط منها، وكذلك رأي أن لكلمة ما قد يكون هناك أكثر من معني وما يوحد هذه المعاني عنصر مشترك الذي يصعب في كثير من الأحيان العثور عليه. فإننا قد نجد صعوبة في تحديد الخاصة التي تميز كلمة " لون" مثلا عن بقية الكلمات الأخري. ولكن تبقي المشكلة الأهم عند مور وهي أنه يري أن التصور معني، وحينما نحاول ان نبحث عن معاني او معني كلمة، فإننا في واقع الأمر نبحث عن تصورات أخري أيضا.فتعدد التصورات يعني تعدد المعاني. وهنا يقع مور في إشكالية كبري تنتهي به إلي الاعتراف بصعوبة التوصل إلي حل لها.

ب‌- كواين: وهو منطقي أمريكي تتلمذ علي يد كارناب، وبحث في المعني علي نفس نهج جورج مور، وتوصل أيضا إلي صعوبة التماس نتائج حاسمة حول المعني، فرأي ان معني الكلمة أو التصور هو الإتيان بتصورات أخري تكافئه أو ترادفه منطقيا وهنا وقع في نفس المشكلة التي قابلها مور، إلا أنه زاد البحث في الترادف، وذهب إلي أن هناك معنيين للترادف من الناحية المنطقية: المعني الأول: أن المعني استبدال كلمة بأخري دون أن يتغير المعني، وينتج عن هذا مشكلات منطقية كبيرة ، فمثلا كلمة"أعزب" ترادف" غير متزوج" ولكن الأولي اقل من خمسة حروف والثانية أكبر من خمسة حروف. إذن لا يوج تكافؤ بينهما. وهنا يثور السؤال هل الترادف يعتمد علي المعني أم العكس، يعتمد المعني علي الترادف ؟المعني الثاني: إن لجملتين نفس المعني إذا كان ما صدقاتهما واحدة.وكأنه يقول هنا لا تبحث عن الكلمة ولكن عن ماصدقاتها. كأن نقول" تلميذ أفلاطون"و" معلم الإسكندر الأكبر". وهنا نجد أن فريجه قد اثبت خطأ هذه النظرية حين ميز بين اسم العلم ومسماه. ومثال أخر" مخلوق بكليتين"و" مخلوق بقلب واحد" ماصدقاتهما واحدة ولكنهما مختلفان وغير مترادفين. لقد انتهي الأمر بكواين للاعتراف بصعوبة التوصل إلي نتائج حاسمة في المعني.

2- معني الكلمة: هو استخدامها.
ويمثلها لودفيج فتجنشتين، الذي يعد رائد فلسفة اللغة بحق، اللغة العادية التي يتكلم بها الناس في حياتهم اليومية.وقد اهتم فتجنشتين باللغة منذ اللحظات الأولي في منهجه الفلسفي، واعتبر أن اللغة ليست حسابا منطقيا دقيقا، لكل كلمة معني محدد ولكل جملة معني محدد أو أن للعبارات وظائف محددة، ولكن المعاني تتعدد بتعدد استخدامنا للكلمات أو الجمل وبحسب السياق الذي تذكر فيه.وقد كان فتجنشتين من القائلين بالنظرية الاسمية في أول أمره، تلك التي قال بها أفلاطون ومن بعده القديس أوغسطين وهوبز. ولكنه ما لبث أن اعترض عليها وقدم نقده لها، ذلك لأن هذه النظرية – كما يري محمود فهمي زيدان "تخلط بين معني الاسم وحامله، فمعني الاسم ليس مسماه، وإنما نسمي هذا المسمي حامل الاسم.أما معني الاسم فشيء مختلف،لأنه مجموعة استخدامات الاسم في اللغة فللاسم معني حتي في غياب مسماه" أو حامله"، بل للاسم معني حتي بعد موت صاحبه وإلا لما استطعت أن أقول أن فلانا قد مات ويكون لعبارتي معني لدي السامع".
ويذهب فتجنشتين في معرض نقده للنظرية الاسمية في المعني إلي "أن الكلمات في اللغة ليست أسماء فقط لأشياء وإنما باللغة كلمات لا تشير إلي شيء واحد بعينه وان للكلمات وظائف أخري كثيرة غير التسمية، حتي الكلمة التي نعتبرها اسما: لها معني غير ما أو من تشير إليه". هذا عن موقف فتجنشتين من النظرية الاسمية التي اعتقد فيها في صدر شبابه ، أما عن فلسفته بصفة عامة – كما يري عزمي إسلام- فإنه يمكننا القول مع ماكسويل: أننا يمكننا أن نتكلم لأول مرة بطريقة صحيحة عن وجود فلسفة للتحليل حينما نتكلم عن فلسفة فتجنشتين"، فالتحليل إذن هو سمة فلسفته بشكل عام ومن ثم يمكننا أن ننتظر أن تتسم علاقته باللغة بهذه السمة أيضا ولا سيما وأن التحليل عنده ليس غاية في ذاته وإنما منهج. منهج يستهدف الوصول لفهم أعمق واصدق عن العالم والكشف عن ما هو أصيل وحقيقي أو لغو فارغ في داخل هذا العالم أو بين العبارات التي نستخدمها
إن الفلسفة عنده – في فهم عزمي إسلام له - عبارة عن تحليل اللغة " وقد ترتب علي هذا أن أصبح مفهوم الفلسفة لديه هو أنها مجرد توضيح للأفكار عن طريق تحليل العبارات التي تصاغ فيها هذه الأفكار". وبذلك نجد مفهوم الفلسفة لديه قد تغير معارضا بذلك معظم الفلاسفة السابقين عليه فصار عنده موضوع الفلسفة" هو التوضيح المنطقي للأفكار، فالفلسفة ليست نظرية من النظريات، بل هي فاعلية،ولذا يتكون العمل الفلسفي أساسا من توضيحات، ولا يكون نتيجة الفلسفة عددا من القضايا الفلسفية وإنما توضيح للقضايا". وقد غيرت هذه النظرية الجديدة كثيرا من مجري النهر الفلسفي ورؤية الأشياء والموقف منها، انه حقا كما قال ماكس بلانك" إن فتجنشتين قد قدم لنا طريقة جديدة ذات اثر بالغ للنظر الي المشكلات الفلسفية القديمة.