الطبيعة البشرية ليست عائقًا أمام التحول إلى الاشتراكية

مصطفى عبد الغني
2021 / 3 / 9 - 23:40     

ترجمة مصطفى عبد الغني

أثارت صور الناس أثناء شراء كميات كبيرة من المناديل الورقية أكبر قدر من الغضب، من بين كل الأحداث التي تستحق الغضب أثناء الجائحة مثل سياسات الحكومات التي أعطت الأولوية للأرباح، وحالة الإهمال للقطاع الصحي، والأزمة البيئية التي تسببت في الكارثة من الأساس. مجرد بضعة مشاهد غير لائقة في ممرات المحلات أثارت جدلًا ونقدًا لاذعًا عن مدى سوء البشر.

يتقبَّل الكثيرون منا هذا النقد ويردِّدونه، لأن هذه الإثارة تعزز الحكمة السائدة عن الطبيعة البشرية، تلك الحكمة بأن الإنسان بطبعه طماع وأناني، وخوفنا من السجن فقط هو ما يقف بيننا وبين إخراج أسوأ غرائزنا. في الوقت نفسه، لا يعتقد أغلبنا حقًا أن هذا ينطبق علينا أو على عائلاتنا أو أصدقائنا، رغم أنه إذا حاولت التفكير في ذلك فإنه يجب أن يشملنا، وهذا يدعونا للتساؤل عن مدى مصداقية تلك النظرية.

إذًا تعبَّر تلك النظرة للطبيعة البشرية عن رؤيتنا للمجتمع وليس رؤيتنا لأنفسنا. إنها تطبِّع وتعمِّم قيمًا وسلوكياتٍ تتوافق مع المنطق الاقتصادي للرأسمالية الحديثة. أشار كارل ماركس وفريدريك إنجلز إلى ذلك منذ أكثر من 170 عام حين كتبا في البيان الشيوعي أن الطبقة البرجوازية “تحوِّل علاقات إنتاجها وملكیتها، من علاقات تاریخیة عابرة في مجرى الإنتاج إلى قوانين أبدیة ثابتة للطبیعة والعقل”.

يظهر هذا جليًا اليوم في التفسير القائل بأن الطمع والأنانية صفاتٌ موجودة في كل البشر حول العالم ولها جذور في علم الأحياء. وينبع من ذلك أيضًا الترويج لطرق التصنيف الاجتماعي المبنية على التسلسل الهرمي والمنافسة على أنها شيء طبيعي. لم تكن تلك النظرة للطبيعة البشرية أمرًا رائجًا في المجتمع الإقطاعي (قبل بزوغ الرأسمالية)، فالفكرة السائدة آنذاك هي أن الله قد خلقنا فلاحين أو سادة واستيلاء السادة الفاحش على نتاج عمل الفلاحين هو إرادة الله. لم تكن طبيعة الأفراد عاملًا في المعادلة؛ فطاعة السيد الإقطاعي من طاعة الله.

تختلف الرأسمالية عن ذلك؛ فكلنا أحرار وسواسية أمام القانون، ولا يوجد سببٌ للظلم أو عدم المساواة. استبدل المنطق والعلم في الرأسمالية الصناعية إرادة الله وتقلبات العالم الطبيعي في المجتمعات السابقة.
كيف يمكن إذًا تفسير أن بعض الأشخاص يتمتعون بامتيازاتٍ وثراءٍ فاحش في حين يكافح آخرون للبقاء على حد الكفاف في مجتمع قائم على الحرية والمساواة والإخاء؟ أو لماذا ندمِّر الكوكب الذي نعيش عليه بشكل واعي مع أنه من المفروض أننا عقلانيون؟ التفسير السهل الذي يستخدمه المدافعون عن النظام هو الطبيعة البشرية.

هذه الرؤية لا تُقدَّم كإعادة صياغة لفكرة الخطيئة الأولى في المسيحية، بل يجري الاحتيال باسم العلم دفاعًا عن النظرية. يقولون إن حمضنا النووي هو الذي يجعلنا أنانيين ومستعدين للتقدم على حساب الآخرين وبالطبع هو المسئول عن رغبتنا في الحصول على أكثر من نصيبنا العادل في المناديل الورقية في وقت الأزمات.

يُستخدَم هذا التفسير حتى نغض الطرف عن أنه في معظم التاريخ البشري تعايشنا معًا بدون وجود أسلحة نووية أو سجون أو مصافي بترولية. في الحقيقة، وعلى مدار آلاف السنين، استطاع البشر النجاة فقط عن طريق التعاون في الصيد وجمع الثمار وإنتاج احتياجاتنا الأساسية. كان هذا نمط إنتاج يتطلب قواعد اجتماعية تعطي الأولوية للمساواة والتعاون والتواضع. وتلك القواعد هي ما سمحت لحمضنا النووي بالنجاة لما يقارب الـ 200 ألف سنة، وهي فترة أطول بكثير مما تستطيع الرأسمالية الوصول إليه.

يُستخدَم هذا التفسير أيضًا حتى لا نتساءل لماذا فكرة “الطبيعة البشرية هي ما تجعلنا نصارع بعضنا البعض” متوافقة تمامًا مع الصفات التي يجري الترويج لها عن مشاهير رواد الأعمال الطموحين ومدراء الشركات ذوي العزم والإرادة للنجاح. هذا التفسير يجعلنا نعتقد أنه بطريقة ما امتدت المعايير التي تحدد النجاح إلى كل البشر من عالم طبقة الرأسماليين، ذلك العالم القائم على المنافسة والتراكم والتناحر مع بعضهم البعض كأنهم في سباقٍ على استخراج أكبر قدر من الثروة من استغلال البشر وموارد الكوكب بأقل تكلفة ممكنة.

إن تسييد تلك المعايير التي تتغذى عليها الطبقة الحاكمة بيننا يساعد على خلق إحساس بمسئوليتنا جميعًا عن عواقب سلوكهم المدمر والمهدد لحياة البشر. رغم أنه في الحقيقة، مصالح معظم الناس مختلفة عنهم.

ليس بيد الأشخاص غير المالكين لرأس المال أو السلطة -وهم السواد الأعظم من أبناء الطبقة العاملة- أي حيلة لتغيير قدرهم بأنفسهم. وأفضل تعبير عن مصالح هؤلاء هو اتحادهم واستخدام قوتهم الجماعية، لأنهم هم من ينتجون ثروة المجتمع، بغرض انتزاع مزيد من الحقوق ممن يتحكمون في هذه المصالح.

يفسر هذا سبب أن النقابات العمالية لا تزال أكبر منظمات تطوعية في معظم الدول، حيث لا يزال مسموحًا قانونيًا إنشاؤها، فهي تعبر عن وعي العمال بالحاجة إلى التضامن والعمل الجماعي لتحسين أحوالهم المعيشية، وليس الأنانية والتناحر فيما بينهم.

تعكس شعارات الحركة العمالية، مثل “الاتحاد قوة” و”العمال المتحدون لا يمكن هزيمتهم”، الحاجة إلى التضامن بين العمال. وتُعد قيمٌ مثل التعاطف والاحترام المتبادل والوعي بالقضايا المشتركة هي المعيار الحقيقي لتأسيس حركات منظمة ذات وعي طبقي في مواقع العمل.

ولكن العمال أيضًا نشأوا منذ الصغر على احترام رؤسائهم في العمل وتقبُّل مجتمع لا يقررون مصائرهم فيه بأنفسهم.

هناك دائمًا ضغوط تنافسية لتقبل مجتمع تنافسي ومحاولة التكيُّف مع واقع قائم على رأسمالية فردية، وفي الوقت نفسه هناك حاجة ملحة للتعاون والتضامن والوعي الجمعي لأنها صفات أساسية في معظم حياة الناس.

وحتى في أوقات الانفتاح السياسي، تختلف القصة تمامًا عندما يحاول العمال استخدام قوتهم، ليس لانتزاع تنازلاتٍ من أصحاب العمل فقط، ولكن لتحدي بنية وتنظيم المجتمع الذي يضطهدهم. يصف ماركس تلك العملية في كتاب “الأيديولوجيا الألمانية” في عام 1846 حيث يقول: “لكي تنجح الاشتراكية، يجب أن يحدث تغييرٌ على نطاق واسع، تغييرٌ لا يمكن أن يحدث إلا في حركة عملية؛ في ثورة. تلك الثورة ليست ضروريةً فقط لأن الطبقة الحاكمة لا يمكن التخلص منها بطريقةٍ أخرى، ولكن لأن الطبقة التي ستتخلص من الطبقة الحاكمة تحتاج إلى ثورة أيضًا لتنفض الغبار الذي تراكم عليها على مر العصور ولكي تصبح مستعدةً لخلق مجتمع جديد”.

بتعبيرٍ آخر، فإن نضال العمال لاستعادة السيطرة على حياتهم يتطلب تغييرًا؛ تغييرًا يمكِّنهم من التغلب على الانقسامات التي منعت تحقيق وحدتهم في المقام الأول، وللتغلب على الانحيازات التي غرسها المجتمع القائم على عدم المساواة والسلبية الناتجة عن العجز.

يظهر تغير الأشخاص بشكل كبير أثناء تصاعد الصراع الطبقي وفي أوقات الثورة، وتتغير وقتها النظرة السائدة للطبيعة البشرية أيضًا. على سبيل المثال أثناء انتفاضات الربيع العربي في 2011، نظم الثوار في ميدان التحرير في مصر مساعداتٍ طبية بشكل جماعي، وقاموا بتنظيف الميدان، وفي الوقت نفسه قامت مجموعات أخرى بحماية الأقليات الدينية من هجوم البلطجية والنظام. كان الحافز الأساسي لهذا التعاون هو حماية وبناء وتوطيد المقاومة لإسقاط نظام مبارك المقيت، ولتحقيق ذلك الهدف كان على الشعب أن يتعاون ويدعم بعضه بعضًا بدلًا من استغلال بعضهم البعض لتحقيق أهداف فردية.

لذا فالبشر ليسوا خيرًا وشرًا بشكل مطلق. نحن كائناتٌ معقدة لديها القدرة على أن تكون أنانية ومعطاءة، طيبة وقاسية. ويؤثر شكل المجتمع الذي نعيش فيه على طريقة تعبيرنا عن تلك الصفات. يقول ماركس: “إن جوهر الإنسان ليس تجريدًا متأصلًا في كل فرد، في الحقيقة هو مجموع العلاقات الاجتماعية”.

تقوم قوة الطبقة الرأسمالية جزئيًا من خلال انتشار قيمها وتماهينا مع هذه القيم في حياتنا اليومية. نحن مضطرون للتنافس مع بعضنا البعض للحصول على المؤهلات والوظائف أو حتى المسكن، مما يجعل تلك التنافسية تبدو كأنها شيء طبيعي ولا غنى عنه. تعزز حالة المراقبة والإشراف التي لا تنتهي فكرة أنه لا يمكن الوثوق بالبشر للقيام بما هو صائب. وغياب العدالة الاجتماعية تجعل فرص نجاتنا معتمدة بشكل أساسي على مواردنا الفردية.

سنكون أشخاصًا مختلفين في مجتمعٍ تحكمه الطبقة العاملة المسئولة عن الإنتاج بشكل ديمقراطي. مجتمع يشجع الإحساس بالمسئولية، وفهم كل فرد دوره في نسيج هذا المجتمع القائم على العمل، لا الإكراه الجسدي والاقتصادي. مجتمع لا يضطهد البشر ولا يحرضهم ضد بعضهم البعض.

ما هو ثابت على مر التاريخ هو أن البشر كائنات اجتماعية وأن نجاتنا الفردية تعتمد على أفعال الكثيرين غيرنا. يمكنكم ملاحظة ذلك من مجرد النظر إلى أي مستشفى حديث، أو العمل المبذول في إنتاج السلع والخدمات التي نعتمد عليها في حياتنا اليومية.

جادل إنجلز، في كتاباته عام 1876، أن قدرتنا الجماعية على التخطيط والتنفيذ كانت في قلب التنمية البشرية حينما كتب: “العمل هو الشرط الأساسي الأول لكل حياة إنسانية، وهو كذلك لدرجة أنه يترتب علينا أن نقول بمعنى ما إن العمل قد خلق الإنسان بالذات”.

في ظل الرأسمالية، تتحكم أقليةٌ في قوة عملنا لجني الأرباح. هذا ليس أمرًا غير عادل فقط، بل أيضًا إهانة لإنسانيتنا. إن النضال من أجل تحقيق الاشتراكية يتعلق باستعادة إنسانيتنا، وأثناء قيامنا بذلك، نخلق مجتمعًا نستطيع فيه التعبير عن طبيعتنا الجماعية.

* هذا الموضوع بقلم لويز أوشي – موقع العلم الأحمر الأسترالي