وحدة الهَّم الشعري في قصيدة - أوراق وخنادق - للشاعر العراقي البابلي أكرم بخيت


غانم عمران المعموري
2021 / 3 / 9 - 01:22     

ينبثق من بين ثنايا الحروف النازفه على بياض الورق ذلك الوجع والألم العراقي القابع بين الضلوع لذلك كان العنوان " أوراق وخنادق " يمثل حُقبة مُظلمة في التاريخ استطاع الناص بمشاعرة الحقيقية وأرتباطه الوثيق بأرض أجداده أن يُطرز لنا أجمل لوحة شعرية يُعري فيها الواقع الأسود ويرشق الاضطهاد بسهامٍ من نار فكانت العنونة بمثابة صورة ابداعية ومنصة أساسية للولوج إلى بُنية القصيدة النثرية وله دلالة مؤثرة على القارىء وهو المرآة العاكسة للنص وعن الباحث سعد الساعدي " ... تتجلى هنا غاية وقصد يريده الشاعر أو من يقوم بإرسال رسالته إلى المتلقي عبرعملية اتصال لا تحتاج إلى تشفير؛ بل أنها رسالة اعلامية واضحة المباني والمعاني قَصَدَ صاحبها إيصالها إلى جمهور خاص أو عام عبر كلمات قصيدته بما تحمل من إيحاءات وتشبيهات وصور بلاغية متنوعة بالوصف والتشبيه ونزف خلجات نفسية عميقة على سطح الورقة" 1.
وإني أرى العنونة الوهّج البصري الأول الّذي يستثير مُخيّلة القارىء ويوقظ شعوره من السبات إلى الحيّوية المفعمة بالتفكير والتأويل والتحليل ليّكون انطباعه الأولي على ما يُّمكن أن ترد عليه تفاصيل القصيدة وما تتضمنه من دلالات ومعاني واستعارات وانزياحات وتضادات..
يُمثل العنوان أوراق وخنادق حالة التساقط والتدني في ظل تقلبات اجتماعية واقتصادية وسياسية وضعف الرقابة وانتشار الفساد في الكثير من مفاصل الدوائر الحكومية والتي تسببت في تراجع البلد من حيث بُنيته التحتية وتدني فكري على مستوى التعليم وتراجع الخدمات حتى صار العراقي يتمجد بالماضي الذي لَمس فيه روح النظام والتآلف الاجتماعي والوحدة الفكرية كونه أحد أفراد الشعب الذي يلتقط كل صغيرة وكبيره بعين فنان مبدع فكان للظاهرة الإنعكاسية من السياقات الخارجية النفسية والاجتماعية والتاريخية الأثر البالغ على ذات الشاعر فتمخضت وانبعثت موهبته الجيّاشة التي حرص على صقلها فكرياً وثقافياً من خلال اطلاعه على الادب الغربي والعربي وتأثره بالشعراء الكبار الذين سبقوه فكانت قصائده تُمثل صرخة ضمير حيّ ضد كل مظاهر الفساد والظلم المجتمعي وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأنويته فيشّع من الصورة الواحدة صور شعرية منفتحة الفضاءات ومتشظية لكنها تصب في هدف واحد استطاع الشاعر عن طريق بث صور فنية مكنته من خلق نص يتصاعد في نموه تدريجياً ومتصلاً بالكيان الاجمالي للقصيدة نتيجة التفاعل الواعي بين مفردات النص الشعري وبين الذات الملتهبة والمتمردة حيث بدأ قصيدة ب لا الناهية كأن الشاعر لجأ إليها لكشف كل طاقات فعل الأمر بإعتباره الخبير بما يُحيط به من هموم ومشاكل بما يمتلكه من قدرة فنية ابداعية ورؤية مستقبله للامور والتي من شأنها أن ترسم أركان الصورة البصرية كاملة لإستقبال الألفاظ الداله عليها كما في :
لا تبكي
فالشوارع تنثرُ الحزنَ
وجرحُ ليس مندملاً
رشوا عليه الملح ...
فتحوا وطناً
كنتَ تريدُ له العافية
وطنٌ رسمتَ حروفهُ
بألوان الفراشات
كنتً تنفضُ عنه الغبار

وتحملُ عن سهولِه
ألم العابرين بالسرقات
على كتفيك ... وأنت تغني

قسم الشاعر قصيدته إلى مقاطع مكثفة ومركزة تفصلها لا الناهية وهي حرف جزم تدخل على الفعل المضارع مع معنى الاستقبال, ولكن بأسلوب بلاغي مترابط ومتناسق بين مقطع وآخر من حيث وحدة الهدف والموضوع بأسلوب غير مألوف يغلب عليه التمرد والرفض بلغة ذاتية تعطي الأطر الشكلية للقصيدة وبنيتها الفنية من حيث المحتوى والأسلوب الذي يمثل انعكاساً لشخصية الناص حيث أن الشعر يُعبر عن العقل والعاطفة ويضمن للقصيدة بُنيتها الإيقاعية المتولده من رحم اللغة ذاتها وذلك من خلال التنوع والتمايز في بؤر الإيقاع والتنغيم خارج حدود الوزن والقافية حيث أن الشاعر ابتدأ قصيدته بانزياح تصدر النص بصيغة المخاطب " لا تبكي " فإنه يُخاطب العراق بأسلوب دل عليه بالشطر الذي تلاه " فالشوارع تنثرُ الحزنَ " وبنمو تدريجي أضفى على نصه نغمة مؤلمة تتسرب بهدوء إلى قلب المتلقي وبمفارقة رائعة جمع بين البكاء في مطلع قصيدته وبين الغناء في أخر المقطع " على كتفيك ... وأنت تغني " ..
استطاع الناص من خلال التضاد بين البكاء والغناء وهوخلق نوع من إثارة انفعال المتلقي وخلخلة توقعاته ودفعه إلى التأمل والتحليل والتأويل حتى انتقل إلى المقطع الثاني الذي تكرر كما في المقطع الأول :


لا تبكي
رفاقك حطّموا الأسوارَ
وحين لم يبقَ طفلٌ في مدينتنا
كتبوا آخر النشيد في خنادقِ القصيدة .....
الغرباء خلّفوا وطناً غارقاً بالدمِ والنواجِ
لم يذعنوا لموتكَ قبل الصباح
فانظر لهذا الأنقلاب .....

خلق لنا الناص من خلال التكرار " لا تبكي " تيمة حزن وأسى تُرافق الكلمات التي تتدفق من ذات واحدة تتحدد في البؤرة التي يدور النص حولها لإعطاء دلالة معينة وموحدة فيكون التكرار له أثر نفسي على المتلقي ولاسيما عندما " يتجاوز استخدام الشاعر للفعل مهمة نقل الحدث المرتبط بزمن معين. وذلك حين يتحول الفعل إلى لبنة أساسية في بنية النص الشعري، بحيث يولد طاقات تعبيرية هائلة وانبثاقات دلالية مدهشة”2.
نستطيع أن نُسمي هذه القصيدة بالوجع العراقي لما تضمنته من صور شعرية منفتحة إلى فضاءات واسعة من تعدد المواقف المؤلمة التي رافقت الانسان العراقي من خلال الديمقراطية المُزيفة التي راح ضحيتها الكثير من أبنائه وذلك حسب تعبير الشاعر :" الغرباء خلّفوا وطناً غارقاً بالدمِ والنواجِ "
نتيجة الويلات والحروب الطائفية المقيتة التي أكلت اليابس والأخضر ووحش الأرهاب الذي لا يعرف الرحمة ولا الإنسانية حتى شمل الوجع العراقي كل الأطياف وكل المذاهب ..
حتى انتقل لنا إلى مقطع متناغم إيقاعياً وموسيقياً بتراجيديا حزينة كما في :
نشتري الخبزَ للصدى الذي ظل يجوبُ الزوايا
كي يبقى يجوب
لعن الله الجيوب
لعن الله الدروب
لجأ الناص إلى التوازي اللفظي مما أعطى لنصه نغماً إيقاعياً صارخاً يوحي بالضجر والتصدي لكل مظاهر الفساد والظلم الذي يتحسسه الشاعر باعتباره عنصراً فعالاً مُساهماً في المنظومة الانسانية ..
حتى ينهي الناص قصيدة يبدأ المقطع الأخير بتكرار " لا تبكي " لكن
يعود بنا إلى الأمل الذي ينشده كل العراقين بتطهير الأرض من الأنجاس والمجرمين على يد الأبطال والمحبين لبلدهم كما في :
إلى نصرٍ قريب
أسودٌ رفعوا نشيدك عند ساريةٍ
غُرست بهذي الأرض وانطلقوا
عبر الجسر
إلى الضفاف
وينشدون ... سنقطف الليمون
سنحرث الأرضَ
إلى الأجيال.
تتجسد قصيدة الشاعر أكرم بخيت من خلال الارتباط الوجداني العميق بين الذات المولعة بالشعر والمتمردة على المألوف والموضوع وعمق الرسالة الإنسانية التي ينشدها من خلال أبيات خرجت بكل احساس وضمير عراقي حيّ ينزف ألماً ويخط أجمل الكلمات بلغة نسيجية ووحدة إيحاء ودلالة وفق نص يتضمن فكرة تنمو وتتصاعد مع الشهيق والزفير وتنطلق في فضاءها الدلالي فيتجاوز حدود المألوف ومغاليق النص ويشير إلى الوجع العراقي الشامل.
أتمنى للشاعر التقدم في كل المجالات

وإليكم نص القصيدة :" أوراق وخنادق "
لا تبكي
فالشوارع تنثرُ الحزنَ
وجرحُ ليس مندملاً
رشوا عليه الملح ...
فتحوا وطناً
كنتَ تريدُ له العافية
وطنٌ رسمتَ حروفهُ
بألوان الفراشات
كنتً تنفضُ عنه الغبار
وتحملُ عن سهولِه
ألم العابرين بالسرقات
على كتفيك ... وأنت تغني
لا تبكي
رفاقك حطّموا الأسوارَ
وحين لم يبقَ طفلٌ في مدينتنا
كتبوا آخر النشيد في خنادقِ القصيدة .....
الغرباء خلّفوا وطناً غارقاً بالدمِ والنواجِ
لم يذعنوا لموتكَ قبل الصباح
فانظر لهذا الأنقلاب .....
البحرُ يشعرُ بالدوارِ
والأرض ُ تلفظُ نعناعها
تضاجع رائحة الدخان
من فمِ الجواسيس
الباب موصدةٌ كانت
ونحن الذين احصينا قتلانا
كانوا شواهيناً
أكفانهم من نسيج الجفون
وكافورهم من خليط القُبل
لم نفتح الباب
فالانفلونزا قد تدخل مع الريح
وحين استفقنا
تسللوا الينا
فكان الشقاء .......
المتشردون قد تركوك
بين جدران البيوت
وعلى رفوف المكتبات
كنتً تقاوم المتسللين
نشتري الخبزَ للصدى الذي ظل يجوبُ الزوايا
كي يبقى يجوب
لعن الله الجيوب
لعن الله الدروب
فما مشاها عاشقان
الا وأمسيا ماضٍ سحيق
لا تبكي
فهذي الروابي ليلها شهدَ المخاض
حيث استشاطت أسودٌ
فقد وضعوا تعاويذا في سواعده
إلى نصرٍ قريب
أسودٌ رفعوا نشيدك عند ساريةٍ
غُرست بهذي الأرض وانطلقوا
عبر الجسر
إلى الضفاف
وينشدون ... سنقطف الليمون
سنحرث الأرضَ
إلى الأجيال.



المصادر
1- سعد الساعدي , نظرية التحليل والارتقاء , مدرسة النقد التجديدية , دار المتن 2020 , ص158
2- ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،ص307