من هو الماركسي


محمد علي مقلد
2021 / 3 / 8 - 11:02     

من هو الماركسي؟
هذا البحث(الكتاب) يستكمل النصوص الأخرى لأنه يشبهها أيضاً في وقوعه في منزلة بين المنزلتين. فلا هو كتاب في الفلسفة ولا هو كتاب في السياسة. لا هو في النظرية ولا هو في تطبيقاتها )الممارسة (السياسية، بل هو في التطبيق النظري للنظرية، أي «الممارسة النظرية». وهذا مصطلح اقتبسته من استاذي ورفيقي وصديقي مهدي عامل (حسن حمدان)، الذي ستشكل أفكاره جزءاً من مادة هذا الكتاب النقدية. لقد اتبعت هذا النهج في جميع كتاباتي، ما جعل الصحافية منها خاصة، أي المقالة، تنطلق من الحدث اليومي، أي الحدث السياسي، من غير أن تنحبس فيه ومن غير أن تحلق في التجريد الفلسفي، فتظل، بذلك، محافظة على راهنيتها، مهما ابتعدت في الزمن عن تاريخ نشرها (كان موقع الفيسبوك يذكرني بمقالات منشورة منذ سنوات فأعيد نشرها وكأنها مكتوبة للتو، من غير أي تعديل عليها).
بين ثنائية النظرية والتطبيق(الممارسة، البراكسيس) ماذا تعني الممارسة النظرية؟ هناك ثلاث فئات تعمل في حقل الثقافة، فئة تهتم بإنتاج الأفكار والنظريات، كالعالم أو الفنان أو الفيلسوف، وأخرى بتطبيقها كالطبيب أو المحامي أو المهندس، كل في مجال اختصاصه، أو كالحزب في المجال السياسي، وثالثة بنشرها، كالناشطين الحزبيين أوالعاملين في حقلي الاعلام والتعليم. الفئة الرابعة التي ينتمي إليها أهل «الممارسة النظرية» هي تلك التي تبحث في العلاقة بين الحقول الثقافية الثلاثة، مسترشدة بالفكر النقدي منهجاً، وإلا فهي لا تعدو كونها جزءاً من الفئة التي تهتم بنشر الأفكار أو الترويج لها فحسب.
لقد أتاحت لي تجربتي، في السنوات الأولى من حياتي الحزبية، أن أكون واحداً من الناشطين في الفئة الثالثة، التي تهتم بالترويج لخط الحزب، بالكتابة أو في الاجتماعات الداخلية أو بالخطابة في المناسبات الحزبية والمهرجانات، وتعرضت خلالها لما كان يتعرض له «أهل الممارسة التطبيقية» من المناضلين، وأصابتني شظايا العدوان الاسرائيلي عندما كنت أقوم بمهمة سياسية في مدينة صور من الجنوب اللبناني. مع نهاية السنوات العشر الأولى من هذه التجربة، أخذت تتفاعل أزمة الحزب والصراعات في صفوف القيادة وبصورة صامتة في البداية، قبل أن تظهر إلى العلن في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، غير أن التوازنات الداخلية استمرت تمنحني فرصة تجديد عضويتي في القيادة، من مؤتمر إلى مؤتمر، لكن، من غير مهمات، على امتداد خمسة وعشرين عاماً، ما أبقاني على مسافة من «الممارسة السياسية» اليومية، قادراً على نقدها وقراءتها عن بعد، من غير أن أكون خارجها، أي أن أكون في موقع وسط بين المناضل والمراقب، بين من يبشر بالأفكار ومن يقرأها بعين نقدية.
«المنزلة بين المنزلتين» تعني أن الممارسة النظرية ليست «التجريد الفلسفي» ولا هي «التطبيق» العملي المادي الملموس للنظرية الفلسفية، بل هي تطبيقات نظرية على النظرية، أو معادلات واشتقاقات منها أو قراءات وتأويلات وشروحات متنوعة لها. استناداً إلى هذا التعريف، لا يدعي النص الانتماء إلى باب الفكر الفلسفي، كما أنه، في المقابل، يسعى إلى النأي بنفسه عن مناورات الممارسة السياسية اليومية ومتاهاتها وتعقيداتها ومماحكاتها وكرّها وفرّها بين سلطة ومعارضة، ولهذا فهو يستدعي ما يناسبه من مصطلحات تخص هذا الحقل من النشاط الفكري، ويستخدم لغة تسعى إلى التعبير عن جهد نظري أعلى درجة من الانخراط الحماسي في العمل السياسي المباشر وأدنى درجة من التجريد الفلسفي المحايد.
على ضوء هذا المنهج في تناول القضايا لن يهتم هذا الكتاب لا بنقاش الأساس الفلسفي لنظرية ماركس عن الصراع الطبقي ولا بترجماتها العملية التطبيقية على أرض الواقع في النضال اليومي الذي تخوضه أحزاب «الطبقة العاملة»، بل سيحصر اهتمامه بقراءات «تزعم» أنتماءها إلى الماركسية وبتأويلات وتفسيرات وتحليلات وجهود فكرية بذلها بعض أتباع ماركس ومريديه لنقل النظرية من مستواها الفلسفي إلى حيز التطبيق في النضال الحزبي.
هذا الكتاب، «يزعم» أن «تحويمه» في فضاء الفكر الماركسي لا يمنح صاحبه حق تصنيف نفسه منتمياً انتماءً قطعياً إلى هذا الفكر، مع أنه غرف من معين أساتذة كبار في الفكر الماركسي، من أمثال سمير أمين ومهدي عامل وحسين مروة والطيب تيزيني، غير أنه يدين في بعض ما يعرفه عن الماركسية إلى مفكرين لم يدّعوا الانتماء إلى هذه المدرسة الفكرية، من أمثال محمد عابد الجابري، كما إلى نصوص من خارج حقل السياسة تمحورت حول قضايا الفن والشعر والأدب، كان أولها كتاب «الفن والمجتمع عبر التاريخ» للألماني أرنولد هاوزر. هذا الزعم نابع من الاعتقاد بأن التصريح بالانتماء إلى منظومة فكرية معينة لا يكفي لتأكيد صحة هذا الانتماء. وقد تعزز اقتناعي بأن التصنيف القطعي أمر صعب ومعقد، بعد اطلاعي على نصوص رائعة، منها كتاب لمهدي عامل نشرته دار الفارابي بعد اغتياله، عنوانه، في نقد الفكر اليومي، حاول أن يثبت فيه كيف أن بعض العلمانيين، وهو يقصد بالتحديد الشاعر أدونيس، «يمارسون» التفكير الديني فيما هم يزعمون انتماءهم إلى العلمانية، وكيف أن آخرين «يمارسون» التفكير الغيبي، وهؤلاء كثر في الأحزاب الشيوعية، فيما هم يزعمون انتماءهم إلى الماركسية؛ ومنها كتاب لصادق جلال العظم، من منشورات دار الفارابي عنوانه دفاعاً عن المادية والتاريخ، يقول فيه أن أدونيس "يظهر في كتاباته بمظهر التقدمي الداعي بقوة للتحديث والحداثة بمفهوم "المودرنيتي" في حين أنه لا يدعو حقاً إلا للطروحات الأكثر رجعية وارتدادية وأصولية في حداثة "المودرنيزم" المعادية للحداثة بمعناها الآخر"(ص 229)؛ ومنها فصل من كتاب لحسن قبيسي، المتن والهامش(المركز الثقافي العربي، 1997) من المفيد أن نورد منه اقتباساً طويلاً، وهو جزء من جوابه على سؤال: لماذا غادرت الماركسية؟ يقول فيه:
«...فيما كنا منهمكين حتى الشوشة بتغيير هذا العالم وبتفجير طاقات شعبنا، مكرسين جل قراءاتنا لخدمة هاتين المهمتين الشريفتين، جاءنا إسحق دويتشر، وهو من جملة الذين تفقهنا عليهم في معرفة اللينينية والثورة الروسية، ليروي لنا تجربته الشخصية، وهو المؤرخ اللينيني الكبير، في قراءة رأس المال. يقول الرجل: «إن طريقة ماركس في عرض المشكلات كانت تبدو لي على جانب كبير من البطء والدقة، خاصة بالنسبة لشخص مثلي يتشوق بفارغ الصبر لفهم العالم وتغييره بالسرعة القصوى. لكنني ما لبثت أن وجدت بعض العزاء حين علمت إن إينياس دازيفسكي، وهو نائبنا الشهير ورائد الاشتراكية والخطيب المفوه الذي تنشد أسماع برلمانات فيينا إلى بنات شفتيه، كان يعترف بأنه وجد رأس المال عسيراً على الفهم، فكان يقول، وكأنما هو يتباهى بقولته، الحقيقة أنني لم أقرأ رأس المال، لكن كارس كاوتسكي قرأه ووضع تلخيصاً أقرب إلى الأفهام. غير أني لم أقرأ تلخيص كاوتسكي هو الآخر، بل إن كليس كراوس، منظّر حزبنا، قرأ كاوتسكي ولخص تلخيصه، وأنا لم أقرأ تلخيص كليس كراوس، لكن ذلك اليهودي الذكي هرمان ديامند، خبيرنا المالي، قرأ كليس كراوس وأخبرني بكل ما ينبغي أن أعرفه حول هذا الموضوع...» ويعلق حسن قبيسي قائلًا: «هكذا كان اطلاعنا على بعض كتابات ماركس ونقاشنا لها... إن كثيراً من الموبقات، على صعيد الفكر والسلطات، تبرر باسم النظرية الماركسية والحزب الماركسي والحكم الماركسي، مما يحدو بالعاقل إلى التهيب والتحفظ وأحياناً إلى النفور» (ص250-248)
لن يكون من بين هموم الكتاب تحليل المضمون الطبقي للصراعات القومية ولا البحث في الأسس النظرية والعوامل التي تنهض عليها قضايا الأمة العربية الموجزة بالثالوث المقدس، الوحدة والحرية والاشتراكية، بل سيركّز على الطرق والوسائل والأساليب التي استخدمتها الأحزاب لتوظيف هذه الأسس وتلك العوامل في عملية التعبئة الحزبية وفي رسم خطوط المواجهة بين جبهة الأعداء وجبهة الأصدقاء. وكذلك الأمر في ما يتعلق بمسائل الفقه والمعتقدات الدينية التي لن يتناول هذا الكتاب أسسها الفلسفية واللاهوتية، بل سيتوقف عند الحلقة الوسيطة، حلقة التأويل والتفسير والاجتهاد. لن يكون موضوعه الدين بل الفكر الديني، أي تجسيدات الوعي الديني في عقول شراح ومعممين ومبشرين لا يبتغون من شرح العقيدة للمؤمنين توجيههم لممارسة طقوس الإيمان بطريقة «شرعية»، بقدر سعيهم إلى إعداد جنود في جيش الاستيلاء على السلطة السياسية.
الفكر النقدي جعلنا نتجرأ، لا على الممارسة السياسية المستلهمة من الماركسية فحسب، التي نزعم التحويم في فضائها، بل على»الممارسة السياسية» في كل المنظومات الفكرية الأخرى، ولاسيما الدينية. بيد أن هذه النزعة النقدية هي صيغة متطورة من منهج الشك الديكارتي التي تأسست في وعينا من خلال اطلاعنا على مناهج البحث العلمي، ثم رسّخها حضور طه حسين في ثقافتنا الحديثة؛ وهي بذرة يعود الفضل في رعايتها إلى أبوين كانا يمارسان طقوس الإيمان من غير تزمت، وإلى بيئة قروية(جرجوع في جنوب لبنان) متحررة دينياً، يتبادل المسيحيون والمسلمون فيها طقوس الفرح والحزن والأعياد الدينية ويتجاور فيها الجامع والكنيسة، وإلى ظروف مرحلة من عمر الوطن نشأنا فيها(المرحلة الشهابية) وتربينا على التسامح وعلى أن التعصب الطائفي والديني آفة تفتك بالوحدة الوطنية وبالوحدة الدينية على حد سواء.
في كل منظومة فكرية نسخة من «إسحق دويتشر». لكنها، في الأديان، ظاهرة معمّمة، لأن منهج اكتساب المعرفة لدى المتدين- السياسي يعتمد على تلقي الأجوبة الجاهزة، تطبيقاً للحديث الشريف، «أول العلم الصمت والثاني حسن الإستماع والثالث حفظه والرابع العمل به ...». من الطبيعي ألا يشكل هذا المنهج أي حافز لطرح الأسئلة، وألا يساور من «يصمت ويستمع ويحفظ» أي نوع من الشك في ما يتلقاه عن طريق السمع، وهو أكثر مصادر المعرفة ضعفاً وهشاشة، لأنه عرضة للتزوير والتحريف، كما كل الثقافة الشفوية غير المكتوبة، ومنها الأحاديث المعنعنة.
من مقدمة كتاب ، أحزاب الله، الصادر عن دار غوايات