مناقشة كتاب رأس المال في القرن الواحد والعشرين لتوماس بيكتي.


عبدالرحمن مصطفى
2021 / 3 / 8 - 01:07     

يتناول كتاب توماس بيكتي (رأس المال في القرن الواحد والعشرون) اللامساواة الاجتماعية ؛اللامساواة في الثروة والدخل،ويعتمد بيكتي على بيانات الإقرارات الضريبية من بداية القرن العشرين بعدما تبنت العديد من الدول الغنية ضريبة الدخل والتركات (بشكل منظم) وحتى 2010 ،والكتاب يغطي فترة القرن التاسع عشر والثامن عشر (نوعا ما)،يحلل بيكتي بيانات الدخل والثروة للاقتصاد الفرنسي بالدرجة الأولى ؛باعتباره فرنسياً ،ولسهولة الحصول على الإقرارات الضريبية للاقتصاد الفرنسي ،لأن فرنسا كانت من أول الدول التي اعتمدت ضريبة الدخل في القرن التاسع عشر ،لكن لم تكن تؤخذ بشكل منظم ولجميع الشرائح المجتمعية ،وايضا ضريبة التركات (كانت بحدود 1-2%) ،ويعود ذلك للثورة الفرنسية التي أنهت النظام الإقطاعي القديم ،وأبدلته بنظام برجوازي حديث وهذا لم ينشأ بصورة فجائية وفورية ،فسلطة المجالس الأولى بعد الثورة قامت بتوزيع الأراضي على الفلاحين (شبيه بما حدث بثورة أكتوبر 1917 في روسيا) وقامت بمصادرة أملاك الإقطاعيين ورجال الدين تدريجياً ؛لهذا أنهت فرنسا بشكل جذري النظام القديم وكل تبعاته ،ففرنسا كانت الدولة الأولى في التاريخ التي تتخلص من نظام القنانة والرق ،لهذا كان هناك بزوغ واضح لدور الدولة فيها ،مع تشكل نظام بيروقراطي حديث،لهذا يدرس بيكتي اللامساواة خلال التاريخ الفرنسي ،والاستنتاجات التاريخية والاجتماعية التي خلص اليها شملت دولاً غربية عدة بالإضافة الى فرنسا ،لأن الظروف التاريخية التي أثرت على اللامساواة في فرنسا ؛هي نفسها الظروف التي أثرت على امريكا دول أوروبا بل حتى دول العالم المختلفة ،لكن بيكتي يدرس اقتصادات الشمال بالدرجة الأولى (أمريكا وأوروبا واليابان) ولم يتناول اقتصادات العالم الثالث او دول الجنوب إلا عرضاً وبشكل بسيط ،وقد يكون هذا احدى أهم عيوب الكتاب ،فبيكتي لايهتم باللامساواة بين الدول ،ونمط العولمة الذي أنتج لامساواة بين المركز او دول الشمال من جهة ودول الجنوب من الجهة الأخرى ،على عكس مافعله مؤرخين وباحثين آخرين كإريك توسان مثلاً في كتاباته ،لهذا قد لايكون مناسباً العنوان مع المحتوى ،فرأس لمال في القرن الواحد والعشرين لابد أن يتناول مشكلة اللامساواة بين الدول والإستنزاف التي تتعرض له اقتصادات الجنوب بفعل نمط العولمة الغير متكافئ .

بيكتي بالرغم من دراسته للاقتصاد (حصل على شهادة الدكتوراة في الاقتصاد في فرنسا وأصبح أستاذاً في معهد ماساتشوستس في أمريكا) لم يكن اقتصاديا بالمعنى المألوف ،بل هو كان رافضاً للمنهاج المستخدم في تدريس الاقتصاد في الجامعات ،فهو يقول مثلاً ؛ان عند تخرجه من الجامعة كان يعرف انه لايعرف اي شيء عن مشكلات العالم الاقتصادية ،وأن الاقتصاديين لايعرفون شيئاً عن أي شيء ولايتمتعون بسمعة طيبة في العالم الأكاديمي او لدى النخب السياسية والمالية ،ورأى ان ((علم)) الاقتصاد لابد ان يتخلص من شغفه الطفولي بالرياضيات الذي يكون على حساب الحقيقة ودراسة المسائل المهمة ،لهذا هو يرفض عزل علم الاقتصاد عن علم الاجتماع ،ذلك العزل الذي تم في نهاية القرن التاسع عشر مع ظهور مدرسة النيوكلاسيك التي تبنت فرضيات مبسطة وسطحية عن السلوك الإقتصادي كعقلانية المستهلكين والمنتجين او أن السوق يتضمن المنافسة الكاملة والأسعار تعكس عقلانية الأفراد ،او منهجية كالاعتماد حصراً على تحليل سلوك الأفراد .لهذا بيكتي يعتبر من الخارجين عن التيار السائد في الاقتصاد ورافضاً له،وهو يرى ان الاقتصاد السياسي الذي كان سائدا في القرن التاسع عشر (أعمال ريكاردو وأدم سميث او ناقديه ككارل ماركس) اكثر عقلانية ومقاربة للواقع من الاقتصاد الحديث ،لأن الإقتصاد السياسي لم يستخدم النماذج الرياضية المجردة الا في أضيق الحدود ولم يعزل تحليل الظاهرة الاقتصادية عن الظاهرة الاجتماعية العامة، بل اتخاذ هذا العلم لإسم (الإقتصاد السياسي) يعني ان هدف هذا العلم ليس وصفياً بحتاً بل قيمي او أخلاقي ايضاً.

كتاب بيكتي رأس المال في القرن الواحد والعشرون حديث تم اصدار الطبعة الأولى في 2013 ،والخلاصات العامة التي خلص اليها لم تكن معارضة للنظام الرأسمالي بذاته ،فهو يطالب بالإصلاح واعادة توزيع للثروة والدخل من خلال الضرائب التصاعدية وتوسيع دور الدولة أكبر في الاقتصاد خصوصا في قطاع الخدمات (التعليم والصحة بالدرجة الأولى) فمثلا يطالب بأن تكون الدراسات العليا عامة او متاحة للجميع ، في هذا يبلغ متوسط دخل أسر طلاب جامعة هارفرد 450000 وهذا ما يعادل متوسط دخل أغنى 2% من الأمريكيين ،وفي هذا تفنيد للدعاية الفارغة التي يرددها المدافعين عن النظام الرأسمالي ان دخول الأفراد تعود لإنتاجيتهم ،فاذا لم يكن التعليم متاحاً للجميع واذا كانت اللامساواة تشمل التعليم ايضاً ،فلا يعود لهذه الدعاية اي سند واقعي (هذا اذا فرضنا جدلاً ان ارتفاع الأجور يعود للإنتاجية بينما هذا وهم كما بين ذلك توماس بيتكي في كتابه،فاعتبارات أخرى مؤسساتية كالسيطرة ولقدرة المديرين على التأثير وسطوة الرأسماليين هي التي تعكس اللامساواة في الأجور).

في هذه المقالة؛سأتناول بعض الجوانب والتحليلات الاجتماعية الي اعتمدها بيكتي التي استخدمت لتفسير ارتفاع اللامساواة والخلاصات الختامية ،والإحصاءات عن اللامساواة في الدخل او الثروة متاحة في كتابه ،وهي نتاج لعمل احصائي وليس اقتصادي ،فبيانات الدخل القومي وحصة التعليم والصحة فيه او الأجور وعوائد رأس المال،وضريبة الدخل والثروة ،كل هذه البيانات هي بيانات إحصائية ،استخدمها بيكتي في تحليله لظاهرة اللامساواة ،والتفسير الذي اعتمده هو تفسير تاريخي اجتماعي لا علاقة له بترهات الاقتصاد القياسي ،الذي يستخدم منهجاً خاطئاً في التعامل مع الإحصاءات ،من خلال ربط المتغيرات بصورة فوضوية والتعامل مع الظواهر الاجتماعية كما لو كانت ظواهر فيزيائية ،وافتراض استقلال المتغيرات المستقلة عن بعضها بطريقة سطحية تعكس عدم الوعي بطبيعة الظاهرة الإجتماعية ،فمثلا ً يمكن قياس التغير الحادث على الأجر من خلال متغيرات مستقلة معينة ،كالتعليم والتدريب والخبرة الخ..الاقتصادي القياسي يفترض ان هذه المتغيرات مستقلة عن بعضها البعض ،كما انه لايهتم بأمور اخرى من قبيل نفوذ المديرين والمساهمين الكبار وسيطرة راس المال والصراع الطبقي وما ينتج عنه من تغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية.

يتناول بيكتي في الباب الأول من كتابه بعض المصطلحات المفاهيمية ،والتفسيرات المختلفة للامساواة وأثرها على الاقتصاد في القرن التاسع عشر ،عندما كان الاقتصاد السياسي يدرس الثروة وتوزيعها والظواهر الإجتماعية المسببة لها ،ويتناول بيكتي تفسيرات مالتوس وديفيد ريكاردو وكارل ماركس ،واذا كانت تفسيرات ريكاردو ومالتوس تربط بين مشكلة الثروة والندرة النسبية (فائض السكان بالنسبة للموارد كما في تفسير مالتوس او انخفاض الإنتاج الزراعي بالنسبة لريكاردو) فمن الخطأ اعتبار ان كارل ماركس ساير هذه التفسيرات ،وهذا ما ارتآه توماس بيكتي في كتابه فوفقا لبيكتي ؛التفسير الماركسي يربط بين ثورة البروليتاريا المتوقعة وتناقص الإنتاجية في الاقتصاد ،وطبقا للإحصاءات التي وضعها بيكتي ،كان النمو الاقتصاد في حدود 0.1 % من 1700 -1820 و0.9 % من 1813 -1913 العالمي (مع خصم نسبة النمو السكاني من معدل النمو) ،وهكذا ندرة الموارد بالنسبة للنمو السكاني في امريكا واوروبا آنذاك كان علامة خطر بالنسبة للاقتصاديين السياسيين في القرن التاسع عشر (مالتوس) او الندرة النسبية للأرايضي الزراعية بالنسبة لريكاردو،وبيكتي اذ ينسب الى ماركس اعتبار ان الإنتاجية منخفضة بل بحدود الصفر (كما ذكر بيكتي) من خلال تحليله لظاهرة التراكم (اللانهائي) فهو لايلتفت لتحليلات ماركس في المجلد الثاني من رأس المال ،ففي فرضية تجديد الإنتاج الموسع والمبادلة بين قطاع السلع الإستهلاكية وقطاع السلع الإنتاجية وضح ماركس طبيعة التراكم الرأسمالي وانتاج فائض القيمة واعادة توظيف الفائض في الإنتاج وماينجم عن هذا من ارتفاع في فائض القيمة وارتفاع محدود في الأجور (لكن مع انخفاض قيمة قوة العمل بالنسبة للقيمة الفائضة) ،فمثلا في المبادلة بين قطاع أ (سلع انتاجية) وب (سلع استهلاكية) اذا كانت ث (رأس المال الثابت) وف (فائض القيمة) وج(أجر العامل) .
أ=3600 ث+1200 ف+1200ج
ب=1600ث+800ف+800ج
اذا تم مبادلة كامل أجر العمال من قطاع أ ونصف فائض القيمة من نفس القطاع لقاء ث من قطاع ب فهنا 1800 أجر وفائض قيمة من قطاع السلع الانتاجية تبادل لقاء 1600ث من قطاع أ ،ينبغي زيادة ث ب بمقدار 200 وهكذا يقتطع 200 من ف ب لزيادة المبلغ المرصود لوسائل الإنتاج ومع زيادة ج أ بمقدار 100 للتناسب بين المبلغ المرصود لراس الثابت وقوة العمل ،وهكذا تصبح ث ب 1800 وج ب 900 وف ب 500 ، اما قطاع أ (وسائل الانتاج) ، ف ال 600 الباقية من فائض القيمة ،تنفق على وسائل الإنتاج وقوة العمل في نفس القطاع ولغرض التناسب بين ث وج تنفق 450 على ث أ و150 على ج أ فتصبح المعادلة ؛أ=4050 ث+1450ج ،وهنا مع زيادة أجر العمال في قطاع أ يزداد الإنفاق على السلع الإسهلاكية في قطاع ب بمقدار 150 اضافية فيخصم من ب ف 150 لتزداد ب ث بمقدار 150 وب ج بمقدار 75 (لغرض التناسب مع ث أ) ،
بالمحصلة تصبح المعادلة بعد تجديد الإنتاج في القطاعين :

أ=ث4050+1350ج+600 ف
ب=1950 ث+975ج+275 ف
هنا كما أسلفنا تبادل ج وف من قطاع أ لقاء ث من قطاع ب ،وج وف من قطاع ب لقاء ث من قطاع أ والباقي من ث أ يعاد استهلاكه داخل القطاع لإنتاج وسائل الإنتاج (بعد ان كان 1600 أجر عمال وفائض قيمة من قطاع ب تبادل لقاء 1600 ث وسائل انتاج من قطاع أ ويبقى 2000 ل ث قطاع أ يعاد استهلاكها داخل نفس القطاع ،هنا يرتفع المبلغ المرصود لإعادة الإستهلاك داخل قطاع أ الى 2700 )..

الواضح هنا ان الأجر المخصص للعمال يرتفع وكذلك المبلغ المرود لوسائل الإنتاج في كلا القطاعين ،أي من الخطأ اتهام ماركس انه أهم زيادة الإنتاجية في التراكم ،عدا عن أن ماركس ذكر في المجلد الثاني ايضا ،ان مع التراكم يرتفع توظيف العمال لكن مع تناقص النسبة (بالنسبة لرأس المال الثابت) وأيضا ما ذكره في المجلد حول الارتفاع النسبي لفائض وقت العمل الذي يترافق مع تجدد استخدام وسائل اكثر تقدما في الانتاج وما ينجم عن هذا من مضاعفة الإنتاج .لهذا ما ذكره بيكتي ليس صحيحاً ،كما أن مشكلة انخفاض معدل الربح في التفسير الماركسي لا علاقة لها بمشكلة الندرة النسبية او انخفاض الانتاجية كما في تفسير ريكاردو،انخفاض الربح في التفسير الماركسي يعود الى ارتفاع نسبة رأس المال العضوي (راس المال الثابت) بالنسبة لرأس المال المتغير (العمال) ،وسينعكس هذا على الأسباب التي ذكرها بيكتي لتراجع اللامساواة في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى ثمانينيات القرن.


وبيكتي لايعتبر العمل من ضمن رأس المال كنقيض لما درج عليه الإقتصاد السياسي والمعاصر ،وهذا مرده مفاهيمي واجرائي ،فهو يريد أن يحلل اللامساواة بين الأجور والعائد على رأس المال واللامساواة في الأجور أيضا لكن العمل هو رأس متغير وهو المنتج لفائض القيمة واعادة انتاج العمل تقتضي استهلاك العامل لأجره اي اعادة تجديد طاقته ليستعمل في عملية الإنتاج مرة أخرى ،اما بيكتي فيستبعد العمالة من رأس المال لأنها لاتُملك كالآلات او الاراضي او العقارات الخ..،لهذا هو يبحث في العائد على رأس المال الصناعي والعقاري ،لكن هذا يبدو لي ليس دقيقا ، لأن قوة العمل يعاد انتاجها كما ذكرت والعمال يستهلكون المنتوجات ليعاد استخدامهم في العملية الإنتاجية ،ولو فرضنا اراض بدون عمال او مصنع بمعداته والالاته بدون عمال فلن ينتج شيئاً ،لكن مع الذكاء الصناعي (الروبوتات مثلا) قد يؤدي استخدامها الى تقليص العمالة ،لكن سيبقى هناك عنصر بشري دائما لأغراض التنسيق وصنع هذه الروبوتات وبرمجتها الخ..لهذا قيمة المواد الأولية والآلات نقل الى السلع بينما العمل يقسم الى عمل ضروري وعمل فائض كما اوضح كارل ماركس ،على الأقل تثار مشكلة اعتبار ان العمل منتج للعائد الرأسمالي فقد يزيد وقت العمل او يتم تكثيف العمل دون اي مردود على الأجور ليزداد عائد رأس المال ،لهذا من الخطأ استبعاد العمل من رأس المال ..

الكتاب يقدم 3 قوانين او علاقات تكفي لدراسة ظاهرة اللامساواة وهي معدل العائد على رأس المال ،اي لو استخدمنا العائد السنوي ؛تكلفة أصل راسمالي عقار مثلا 100000 لو كان العائد 5000 ،هنا يكون معدل العائد على رأس المال 5% ،االمعادلة الثانية هي نسبة راس المال |الدخل (الدخل القومي) اي نسبة الاصول العقارية والمالية والصناعية الى الدخل القومي ومتوسط النسبة لكل دول العالم يعادل 450% في 2012 ،وقد كانت 700% بالنسبة لدول اوروبا في القرن التاسع عشر وحتى ما قبل الحرب العالمية الأولى ،لكنها انخفضت في كثير من الدول بعد هذه الحرب وانخفضت بصورة اكبر بعد الحرب العالمية الثانية لتصل الى 300-400 % في فرنسا والمانيا وبريطانيا ودول اوروبا قاطبة وامريكا ومعظم دول العالم وهي على المدى الطويل نسبة r الى g او نسبة العائد على راس المال الى النمو،و القانون الثالث نصيب راس المال من الدخل القومي = متوسط معدل العائد على راس المال ×نسبة راس المال |الدخل ،مثلا متوسط العائد لمختلف الأصول الرأسمالية 5%×450 =22.5% نصيب رأس المال من الدخل القومي ،من خلال هذه المعادلات الثلاث يرى بيكتي انه يمكننا من فهم ومقارنة ظاهرة اللامساواة ومعدلاتها والتغيرات التي تطرأ عليها من وقت الى آخر.


في الباب الثاني يتناول بيكتي قوى التباعد والتقارب في اللامساوة؛قوى تقلص اللامساواة واخرى تزيدها ،بالنسبة للأخيرة يضع بيكتي ارتفاع نسبة r الى g ،فهنا ارتفع معدل العائد على رأس المال بالنسبة للنمو يؤدي الى زيادة اللامساواة على المدى الطويل ،وكذا ارتفاع نسبة رأس المال |الدخل ،اما قوى التقارب فيرى بيكتي بالدرجة الاولى ؛انتشار المعرفة والتعليم هي العوامل الأهم في تقلص اللامساواة ،لكن هذا التفسير ذاته يحتاج الى تفسير! فارتفاع نسبة التعليم وانتشار المعرفة ينبغي ان تعتمد على أمور أخرى من قبيل مشاركة الطبقات الدنيا بصورة اكبر في العملية السياسية وفي توزيع الدخل ،وبيكتي عندما يلوم ماركس انه أغفل زيادة النمو والإنتاجية وبالتالي تفادي (الإنهيار الحتمي للرأسمالية) ينسى ان ماركس لايقبل بالقوانين الأبدية للاقتصاد السياسي ،وان توزيع الدخل يرجع للصراع الطبقي ومدى نفوذ الطبقات الدنيا في النظام السياسي والإقتصادي للمجتمع ،لهذا مع الحرب العالمية الأولى ومع انتشار الأحزاب الشيوعية (في روسيا مع الثورة البلشفية التي وضعت حداً لمشاركة القياصرة في الحرب العالمية الأولى وكذا حركات الشيوعيين في يطاليا والمانيا وفرنسا واسبانيا) ،إن لهذا الأثر اي الثورات الاشتراكية ومطالبات العمال الأثر الأهم على تراجع اللامساواة في منتصف القرن العشرين ،وبيكتي يعزو تراجع اللامساواة في منتصف القرن العشرين الى الحروب وما تتطلبه من تدخل اكبر للدولة ،فالحرب العالمية الأولى والثانية أسهمت في تراجع حصة رأس المال من الدخل القومي نتيجة للدمار الذي اصاب الأصول الراسمالية من الحرب وانخفاض معدل الإدخار وبيع الأصول للإنفاق على الحرب (شراء الأسلحة ومواد التموين الخ من امريكا بالنسبة لبريطانيا وفرنسا) ،عدا عن تأميم الأصول الاوروبية في دول الجنوب بعد انتصار حركات التحرر الوطني،عدا عن إنخفاض أسعار الأصول بفعل تأميم الحكومات للأصول الراسمالي (تأميم كلي وجزئي خصوصا ما حدث في فرنسا وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية) وكذلك إخضاع الإستثمار الرأس مالي للمتطلبات الاجتماعية والبيئية ،لكن بيكتي يرى ان انتشار المعرفة والتقدم التقني بالنسبة لألمانيا واليابان في النصف الثاني من القرن العشرين هو العامل الأهم في ارتفاع النمو في هذه الدول عن الدول الراسمالية العتيدة كأمريكا وبريطانيا ،وعند وصول التقنية والمعرفة لمستوى معين فسيتراجع النمو ،لهذا حركة المحافظين التي ظهر في امريكا وبريطانيا مع ريغن وتاتشر في الثمانينيات كانت رداً على تفوق المانيا واليابان في معدل نمو الناتج المحي ،لكن عند وصل التقني الى مسوى معين في اليابان وألمانيا تراجع معدل النمو في هذه الدول ،وبيكتي يرى ان الهند والصين اللتان تشهدان معدلات نمو مرتفعة حاليا سيراجع معدل النمو في هذه الدول عندما تصل الى مستوى امريكا واليابان واوروبا في التقنية المستخدمة في النتاج والمعرفة،وبيكتي يرى ان انخراط هذه الدول في العولمة التجارية (يرفض العولمة المالية) سيسهل من انتقال التقنية الى هذه الدول ومن لحاقها لأمريكا واوروبا واليابان كما حدث بالنسبة للعديد من دول جنوب شرق اسيا مثل كوريا الجنوبية او ماليزيا او سنغافورة ،لكن بيكتي ينسى ان هذه الدول كانت الحكومات منخرطة في اقتصاداتها خلال فترة الخمسينيات والسيتينيات حتى الثمانينيات ،اي هذه الدول استطاعت ان تحقق نوعاً من الحمائية حتى تستطيع ان تطور صناعاتها المحلية (وهو ماتفعله ماليزيا الى الآن من ناحية حماية صناعاتها المحلية كفرضها لقيود على صناعة السيارات في ماليزيا من قبيل ادخال نسبة من المنتج المحلي في هذه الصناعة كذلك باقي دول النمور الآسيوية) ،بل حتى امريكا وبريطانيا (جزئيا بالنسبة للسلع الزراعية حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومعارضة ريكاردو الشهيرة لقانون الذرة) وألمانيا وفرنسا واليابان والاتحاد السوفيتي الخ،جميع هذه الدول المتقدمة فرضت سياسات حمائية حتى تطور صناعتها المحلية ،المانيا استمرت على حمائيتها حتى الحرب العالمية الاولى ومع وصول الحزب النازي في الثلاثينيات واستطاعت خلالها ان تتفوق على بريطانيا في مجالات التعدين والصناعات الثقيلة ،الأمر ذاته بالنسبة لأمريكا حتى بداية القرن العشرين،وبالمحصلة كيف ستتطور الصناعة المحلية طالما أن التجارة غير مقيدة ؟ فسيغدو استيراد السيارات والطائرات ومعدات الإنتاج والوسائل التقنية والالكترونية الحديثة أكثر ضماناً مما لو تم الشروع في الصناعة المحلية ،لهذا يفتقر تفسير بيكتي هذا للدقة في التحليل ..

بالنسبة لتحليل الطابع الاجتماعي لظاهرة اللامساواة يخلص بيكتي الى احدى الحقائق المهمة ،ان اللامساواة الحديثة تعكس ارتفاعا في أجور المديرين بدلا من اصحاب الريع ،فأجور المديرين كانت أقل في بداية القرن العشرين واستمرت بالانخفاض بصورة اكبر من منتصف القرن العشرين ،حتى الثمانينيات مع صعود التيار المحافظ وما ترافق من سياسات تحابي الأثرياء على حساب الطبقات الوسطى والدنيا ،بالمقابل انخفضت نسبة رأس المال|الدخل وانخفض العائد على رأس المال عما كان عليه الحال في بداية القرن العشرين لكنه عاود الارتفاع انطلاقا من الثمانينيات حتى ارتفعت نسبة رأس المال من الدخل القومي في بريطانيا من 12 % في السبعينيات الى اكثر من 30% في 2010 ،وفي فرنسا من 15% في بداية الثمانيات (مع صعود ميتران والحزب الاشتراكي) الى مايقرب ال 30 % في 2010 .

وكذلك بالنسبة للميراث كانت نسبة الميراث الى الدخل القومي ما يعادل 20-25 % في اوروبا وامريكا قبل الحرب الأولى ،لكنها انخفضت الى 5-10% في النصف الثاني من القرن العشرين ومع الثمانينيات عاودت الإرتفاع حى وصلت الى مايقرب ال 20 % في 2010 .

ونسبة معدل العائد على رأس المال بالنسبة للضريبة ،كانت مرتفعة لصالح العائد على رأس المال ،لكنها عن معدلات الضريبة على رأس المال مع النصف الثاني للقرن العشرين ،وعاودت الإرتفاع مع الثمانينيات حتى عادت لصالح العائد على رأس المال مع العقد الثاني للقرن الواحد والعشرين.

هذا فضلا عن اللامساواة في الثروات فالفئة ال 1 % الأعلى من ناحية امتلاكها للثروات في امريكا تملك اكثر من الطبقة الوسطى (40% في امريكا او اي دولة في العالم بالنسبة لبيكتي) والطبقة ال 50 % الأفقر في امريكا فالواحد في المئة الأعلى تبلغ حصتها من الاصول المالية والعقارية والصناعية 35% من اجمالي ثروات الأمريكيين ،بينما الطبقة والوسطى والطبقة الأفقر تملكان 30% من اجمالي ثروات الأمريكيين ،اي 1% يملكون اكثر من 90 % في امريكا! وشهدت حصة ال 10 الاثرى من ناحية املاك الثروات ارتفاعا عما كان عليه الحال في النصف الثاني من القرن العشرين ،
لهذا ظهور طبقة المديرين لاتعني ان اصحاب الريع اختفوا ،بل اصحاب الريع هم أنفسهم المديرين في الشركات العملاقة ،وبيكتي يفند أوهام الاقتصاد النيوكلاسيك عن الإنتاجية الحدية وان عائد كل عنصر بشري في العملية الانتاجية يرجع لإنتاجيته الحدية هو!
فارتفاع نصيب ال 10 %الأعلى من الدخل في امريكا يساوي اكثر من ثلاثة أرباع النمو خلال فترة الثمانينيات وحتى العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ،بل أن نصيب الواحد بالألف من اصحاب الدخول الأعلى في امريكا يمثل قرابة النصف للإرتفاع الذي شهدته دخول الفئة 10% الأولى من ناحية ارتفاع الدخل في امريكا ..،بل أن هذا الإرتفاع ترافق مع انخفاض الحد الأدنى للأجر في امريكا مع وصول ريغن! فكانت اكثر من 10 دولار في بداية السبعينيات لكنها انخفضت الى 6 دولار عام 1988 مع انتهاء ولاية ريغن وارتفعت قليلا الى 7.3 دولار في 2013 ،فهنا مع معدل النمو المنخفض 1.5% من فترة الثمانينات وحتى 2012 بينما كانت 1.9% من الخمسينيات وحتى السبعينيات في امريكا،ارتفعت دخول الشرائح العليا في المجتمع من الدخل القومي دون ان تشهد الطبقات الوسطى والدنيا اي ارتفاع في مداخيلها ،ويعود هذا لنفوذ المديرين وسطوتهم كما أن تحديد انتاجية الأجر يخضع لقرارات رؤساء الشركات والمساهمين (حيث ان المساهمين الأقوى هم من أصحاب الدخول والأجور المرتفعة وكذا المديرين يقيسون انتاجية أنفسهم!!!) ،فضلا عن أن من المستحيل قياس انتاجية المديرين يقول بيكتي ،ربما من الأسهل قياس انتاجية النادل في مطعم او عامل على خط انتاج ،لكن الوظائف الادارية والفنية والخدمية يصعب قياس انتاجيتها ،بل النادل او العامل على خط الإنتاج لايمكن قياس انتاجيته بدقة ويقين لأن التوظيف يكون جماعي أولاً وايضا ليس من السهل معرفة مدى مشاركة العامل او النادل في مضاعفة الإنتاج لو حدث في منشئته ،هذا عدا عن انه من الصعب معرفة دور عناصر الانتاج البشري لأن العوامل الخارجية كمنافسة الشركات او انخفاض اسعار المواد الأولية او الظروف السياسية والاجتماعية الخ..تلعب الدور الأهم في زيادة انتاجية شركة معينة بالأخص مع بزوغ ظاهرة الاحتكار على نحو أكبر من سبيعينيات القرن الماضي.
اضافة الى أن فكرة الحد الأدنى للأجر المتبعة في امريكا وبريطانيا وفرنسا ومعظم دول اوروبا والعالم تفترض توقعاً مسبقاً لانتاجية مجموعة من العمال او الموظفين لأنه يستحيل تحديد انتاجية العامل او الموظف الواحد في الشركة،لهذا لاقيمة للهراء النيوكلاسيكي الذي يدرس في كليات الاعمال في الجامعات!


من كل هذه الحقائق يخلص بيكتي ان تاريخ اللامساواة هو تاريخ سياسي اجتماعي وان اي محاولة قياسية او رياضية هي عبث وعدم فهم للاقتصاد والظواهر الاجتماعية ،فالحروب العالمية وما نجم عنها ضاعف من دور الحكومات وانخراطها في تنظيم الاقتصاد لكن بيكتي الذي يعزو تراجع اللامساواة الى زيادة المعرفة وتقدم التكنولوجيا ،يعود وويصور ان انتشار المعرفة وتقدم التكنولوجيا يعود الى المغيرات الاجتماعية والسياسية! فهو يطالب بتعميم التعليم الجامعي والدراسات العليا ويرى ان هذه هي الأكثر قدرة على ردم الفجوة بين الطبقات لأنها ترفع من انتاجية العمال او الموظفين ،لكن كما وضحنا التاريخ السياسي وما يشهده من صراع طبقي او صراع بين الأمم والدول هو الأكثر تأثيرا على توزيع الدخول والثروات الخ..

ختاماً

يطالب بيكتي بإصلاحات اقتصادية من قبيل اعتماد الضريبة التصاعدية على الدخول والمواريث والاصول الراسمالية والميراث ،والواضح ان صعود نسبة الميراث الى الدخل القومي تكذب حجة الجدارة التي يتلقفها المدافعون عن الرأسمالية دائماً،ويطالب بيكتي كما أسلفنا بتعميم التعميم الجامعي لردم الفجوات بين الطبقات،وهو يرى أن من الصعب ان تشرع دولة بمفردها لتبني الضريبة التصاعدية ،فعدا عن الدول الاسكندنافية التي تملك اكبر نسبة من الضريبة التصاعدية في اوروبا وربما في العالم ،تحاول باقي الدول ان تجعل اقتصاداتها منافسة من ناحية جذب الاستثمارات ،لهذا التنافس الضريبي يحول دون تحقيق هذه الغاية ،لهذا يطالب بيكتي ببرلمان اوروبي مع صلاحيات أكبر وتقرير للميزانية ونسبة الضرائب من الدخل القومي جماعيا من خلال هذا البرلمان ،وإقرار سياسات نقدية ضريبية مشتركة ،وهو يعارض سياسات الإتحاد الاوروبي الحالية التي تهدف الى كبح التضخم! دون اعتبار لأثر ذلك على توزيع الدخول او مكافحة مشكلة الدين العام ،

وبالنسبة للدين العام ،يمكن تقليص الدين العام من خلال ثلاثة وسائل ،1-التقشف 2-التضخم 3-الضرائب التصاعدية ،بيتكي يرفض التقشف رفضا حاسماً والتقشف هو الكليشيهة المعتادة للبنك الدولي والتي ثبتت فشلها ويمكن مراجعة ارتفاع نسبة الديون بالنسبة لدول الجنوب بعد تبنيها سياسات البنك الدولي الرجعية (معظم دول الجنوب) ،التضخم هو ما لجأت اليه فرنسا والمانيا ومعظم دول اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وكان وسيلة فعالة في مكافحة الدين ،فأسعار الفائدة الإسمية لم تكن تساوي شيئاً بالنسبة للتضخم ،لكن بيكتي يرى ان هذا قد يأتي باثار سلبية على المدخرين الصغار لهذا يطالب برفع التضخم بنسب محدودة ،اما الوسيلة الأهم لمكافحة الدين العام هي الضرائب التصاعدية وهذا ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية ،وهذه الضرائب يجب ان تشمل الأصول المالية وليس فقط الحسابات البنكية (كما حدث في قبرص فلقد استطاع المدخرون ان يهربوا اموالهم للأصول المالية عندما رفعت الضرائب على الحسابات البنكية)،

أخيراً

من الواضح ان خلاصات بيكتي السياسية تفترض حسن النية تجاه النظام الرأسمالي ،لكن من الواضح ان اصلاح هذا النظام هو وهم ،لأن الرأسماليين لا يتنازلون الا بفعل قوة الطبقات العمالية والطبقات الوسطى ومدى حضورها على المستوى السياسي والإقتصادي وهذا ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية،فالحكومات الغربية لم تصلح انظمتها الابعد تنامي قوة الطبقة العاملة وتهديدها للنظام الرأسمالي خصوصا مع اندلاع الثورات الاشتراكية والشيوعية في مختلف دول العالم ،لهذا قد يكون للسياسات التي تتبعها دول الجنوب وبالأخص الصين (الرافضة للنظام النيوليبرالي المالي ولهيمنة دول الشمال على العالم) اكبر أثر على توزيع الدخول والثروات في اوروبا ،في المحصلة لايمكن ان يصلح الرأسماليون نظامهم من تلقاء أنفسهم وهذا ما أظهره التاريخ ،وبيكتي يعود ويطالب باشتراكية تشاركية في كتابه الاخير راس المال والايدولوجيا الذي