قراءة في كتاب:الماركسية والجزائر


إبراهيم مشارة
2021 / 3 / 4 - 01:14     

هذه نصوص مهمة صدرت عن دار الطليعة ببيروت في آب 1978 نقلها إلى العربية وقدم لها جورج طرابيشي وتأتي أهميتها في أنها لم تنقل من قبل إلى اللغة العربية وما نقل إلى الإنجليزية أو الروسية وصدر في موسكو حذفت منه فقرات فهي نصوص محرجة والذين لم يقرؤوها من قبل كاملة سيصابون بالدهشة الشديدة حين يقرأون عن موقف ماركس وإنجلز من قضايا الاستعمار في شمال إفريقيا حيث كانت الجزائر ومنذ 1830 إحدى ضحايا التوسع الإمبريالي ورغم المقاومة الشعبية إلا أن القوة الاستعمارية استطاعت توطيد أركانها في البلد حتى أزفت ساعة الحرب الشاملة في 01 نوفمبر 1954 لتستمر تلك الحرب أو الثورة الباهرة سبع سنوات ونصف كللت بإعلان النصر على الاستعمار وحلفائه.
صورة ماركس وإنجلزا صاحبا البيان الشيوعي عام 1848في هذه النصوص صورة صادمة لأنهما زكيا الاستعمار الفرنسي للجزائر باعتباره شكلا من أشكال الهجرات التي تنقل التمدين والتحضر إلى شعوب شبه بدائية أو شعوب متخلفة – بدو على حد تعبيرهما- وغير متحضرة مثل الهجرات الأوروبية إلى أمريكا وأستراليا حيث تطورت الحياة هناك بسرعة وأدى ذلك إلى بروز الحضارة والتصنيع والتقدم في هاتين القارتين الجديدتين بفضل الهجرة الأوروبية .
نظر ماركس وإنجلز إلى الاستعمار من وجهة نظر اقتصادية بحتة حيث بدأت الثورة الصناعية وتضخم رأس المال واحتاجت هذه الصناعة إلى العمال والموارد الأولية والأسواق فبدأت تبحث عن حلول جدية لانتعاش الرأسمالية ونموها فكانت الهجرات التي لا ينظر إليها المفكران الاشتراكيان إلا من وجهة نظر اقتصادية ، مهملين الطابع الإجرامي لتلك الهجرات ومستعملين كلمة غير مصطلحية لحقيقة ذلك الإجرام كونه استعمارا يقوم على القتل والنفي والتشريد والمصادرة للأملاك ، وإن أدانا شيئا من جرائم الاستعمار فقد أدانا فقط القوة المفرطة والجشع المفرط .
لاشك أن ماركس وإنجلز رأيا أن تلك الشعوب المتخلفة عاجزة عن إحداث الطفرة الصناعية والعلمية والاقتصادية ومن ثم فإن الهجرة الأوروبية كافية لإحداث ذلك وسوف تصبح تلك الدول قادرة على المرور إلى المرحلة الاشتراكية تحت مظلة مستعمريها فلكي تصير اشتراكية لابد أن تصبح رأسمالية وتعرف أزمات الرأسمالية ولا يمكن أن تعرف الرأسمالية إلا تحت جناح الاستعمار حيث لا يسمياه كذلك وإنما بكلمات أقل حدة ودلالة على المعنى الحقيقي.
يقول جورج طرابيشي: "ولأن الصورة المكونة عن ماركس وإنجلز كانت إيديولوجية أكثر منها تاريخية وعقلانية فقد ألبسا وهما ابنا القرن التاسع عشر ثوبا جرى تفصيله في القرن العشرين على يد لينين منظر عصر الإمبريالية وممذهب الماركسية وصانع شموليتها " ويسهب طرابيشي في تبرير الموقف الذي اتخذه ماركس وإنجلز من الاستعمار وعدم إدانته صراحة في كونهما كتبا هذه النصوص قبل الإمبريالية وبروز مسألة التحرير من منظور قومي .
فتصور ماركس للاستعمار عفا عليه الزمن فالاستعمار هو استيطان المعمرين وهو مظهر من مظاهر الهجرات الأوروبية إلى أمريكا مثلا.
إن تأويل ماركس للاستعمار هو اقتصادي صرف يتعلق باستغلال الموارد الأولية والموارد الزراعية المواكب لتوسع الرأسمالية ، ومن ثمة فإن ما يدان في الاستعمار الجشع المفرط والاستعمال المفرط للقوة ،فإذا قتل فرد من الأهالي معمرا وقامت السلطات الاستعمارية بقتل دزينة من العرب الأبرياء لقاء ذلك المعمر فالإدانة تتمثل في شجب نفسية الثأر والانتقام عند السلطات الاستعمارية والقتل المفرط للأهالي فقط ، وتظل الكلمات التي تدور عند مثقفي القرن التاسع عشر ومنهم ماركس وإنجلز عن الأهالي هي : البدو، قطاع الطرق، اللصوص مع تعاطف بسيط مع الضحايا بكلمات مثل المساكين.
فإدانة الاستعمار هي إدانة أخلاقية فقط فلا وجود للاستعمار كمشكلة سياسية لأن الحركات القومية والتحررية لم تظهر إلا في القرن العشرين، وكأن الإبادة للبشر وتدمير البنى الزراعية ونمط الإنتاج ناهيك عن تدمير ثقافة بأكملها لا يهم مادام الاستعمار هو حركة تعمير في أرض مفتوحة .
وقد انتظر العالم حسب طرابيشي حتى عصر لينين وروزا لوكسمبورغ ليكتب لينين مقاله عام 1913عن " أوروبا المتأخرة وآسيا المتقدمة"لتبرز فكرة القوميات وضرورة التحرر من الاستعمار .
هذه النصوص عربها طرابيشي نقلا عن الفرنسية وقد ترجمها من قبل إلى هذه اللغة رينيه غاليسو وجلبير باديا وهما من كبار الاختصاصيين في شمال إفريقيا.
والكتاب يضم بين دفتيه المقالات التالية:
- مقالة إنجلز عن الأمير عبد القادر
- مقالة إنجلز عن الجزائر
- مقالة إنجلز: الجزائر مدرسة عسكرية
- مقالة ماركس عن الجنرال بيجو
- تعليقات ماركس على كتاب كوفاليفسكي : " الملكية الجماعية للأرض أسباب انحلالها وتاريخه ونتائجها " ومنه الفصل المتعلق بنظام ملكية الأرض في الجزائر
- رسائل ماركس من الجزائر
فالمقالة الأولى عن الأمير عبد القادر لإنجلز كتبها بطلب من جريدة نورثرن ستار" نجمة الشمال " وقد كان وقتها مقيما في باريس عام 1848 يقول فيها "إن رأينا بالإجمال هو أنه من حسن التوفيق الكبير أن يكون الزعيم العربي قد أسر فقد كان صراع البدو بلا أمل وعلى الرغم من أن الكيفية التي أدار بها الحرب جنود أفظاظ من أمثال بوجو تستأهل الإدانة الشديدة فإن فتح الجزائر واقعة مهمة وموائمة لتقدم الحضارة".
شيء غريب ما ورد في هذه المقالة فالغزو صار فتحا والأهالي الأبرياء المدافعون عن أرضهم وعرضهم ووطنهم صاروا شعبا من اللصوص وهم بدو لا حظ لهم من حضارة ورقي ومفردات إنجلز عن الأهالي هي :همجي، قاطع طريق، إقطاعي والعذر الذي هو أقبح من ذنب أنه باحتلال الجزائر كما يرى إنجلز توقفت القرصنة في عرض البحر المتوسط وكأن الأوروبيين لم يمارسوا القرصنة في عرض البحر بل إن روما ذاتها تاريخها كله استعماري ولكن هذه هي حكاية الذئب الذي قال للخروف إنك تعكر الماء علي. قال الخروف:كيف ذلك وأنت تشرب أولا ثم يصل إلي الماء قال الذئب: إن لم تعكره أنت فقد عكره أبوك. والمغزى من الحكاية أن الانتهاك والجريمة مخطط لهما وبقيت الحجة أو التبرير وهنا يقع إنجلز على تبرير واه "القرصنة" وهو عذر أقبح من ذنب، والغريب حقا أن يلوذ إنجلز بالمسيحية وهو المتنكر للدين برمته فيلوذ بمصطلحات كفرسان مالطة، الروح المسيحية....
وجدير بالذكر أن كثيرا من المقاطع المحرجة تم حذفها في الطبعة التي ظهرت في موسكو وهكذا لم يجد النظام الشمولي السوفيتي إلا عملية الحجب والإلغاء والإخفاء لمداراة هذه الفضيحة الفكرية وكأن الحجب سيمتد إلى الأبد فمصير الحقيقة أنها سوف تظهر .
وأما المقالة الثانية فقد كانت عن الجزائر كتبها إنجلز عام 1857 بتكليف من الموسوعة الأمريكية الجديدة ومعظم ما جاء فيها من معلومات جغرافية اقتبسه من معجم ويغانذ الصادرفي ليبزغ وفي هذا المقال المنشور في موسكو حذفت مقاطع أو فقرات كاملة لأنها تشكل إحراجا للفكر الاشتراكي الذي يدعو إلى الإنسانية ويدين الظلم والاستغلال والطبقية ويناصر الحركات التحررية ويدعمها فإذا بماركس وإنجلز يزكيان الاستعمار ويدينان الأهالي فهذا إنجلز ينتصر لبيجو على عبد القادر رمز الكفاح في شمال إفريقيا يقول إنجلز:" ولقد ثابر الفرنسيون على اللجوء إلى هذا الأسلوب الحربي الهمجي إلي ضرب عرض الحائط بما توصي به الإنسانية والحضارة والديانة المسيحية ".
نسجل اعتراض انجلز على ظاهرة الثأر عند الفرنسيين بعد قتل واحد منهم ورد المعمرين بقتل دزينة كاملة من الأهالي ويقر إنجلز بفشل سياسة الاستيطان ويشيد ببسالة الشعب الجزائري في مقاومته فقد انتزعت المقاومة اعترافه لكن في ذات الوقت يبارك التعمير على حد وصفه وقد حكم عليه بالفشل مستقبلا فأي تناقض هذا؟ ويصادق إنجلز على حادثة احتلال الجزائر لخلاف مع الداي ويؤكد طرابيشي على أن حادثة المروحة مفتعلة فالغرض استعمار ونهب وتخطيط قديم.
أما مقالة بيجو لكارل ماركس: فقد كتبها لصالح الموسوعة الأمريكية الجديدة ونشرت في تشرين الثاني عام 1857 وصف ماركس شعر بيجو بالطفح الشعري وقد بدأ الجنرال بيجو حياته يحاول كتابة الشعر لكنه يبدو أنه كان بعيدا جدا عن حقيقة الشعر وإلهامه ولذا كان شعره مصدر سخرية ماركس وفي المقالة تقزيم للجهاد الجزائري في الحديث عبد القادر وتزكية لمقولة الجنرال بيجو وسائر المعمرين أن فتح الجزائر تم بالسيف والمحراث
أي التعمير والبناء وقد نصب تمثال للجنرال بيجو في شارع" اسلي" سابقا العربي بن مهيدي اليوم ونقشت في قاعدته هذه العبارة "بالسيف والمحراث" لكن عقب الاستقلال تم إزالة تمثال الجنرال ونصب تمثال للأمير عبد القادر.
ثم ترد في الكتاب مقالة :الجزائر مدرسة عسكرية لإنجلز كتبها عام 1860 وفيها إشارة إلى حمل العرب على قتال العرب وهي استراتيجيا عسكرية لجأ إليها الجنرالات الفرنسيون عقب انتشار المقاومات المسلحة وعدم خضوع الجزائريين للاستعمار كحتمية نهائية وهذه الفكرة هي التي كانت وراء إنشاء فيلق الزواويين .Zouaves
وأما المقالة الأخيرة فهي هواش ماركس على كتاب كوفاليفسكي" الملكية الجماعية للأرض أسباب انحلالها وتاريخه ونتائجها " نشر في موسكو عام 1879 وهي الواقع ملاحظات ماركس على فصل خاص بالجزائر ،وقد دافع كوفاليفسكي عن كون الملكية الجماعية هي نمط في الإنتاج الزراعي أدخله العرب ويبدو هذا الأمر مجاف للحقيقة فالملكية الجماعية للأرض نمط كان معروفا لدى القبائل الأمازيغية قبل الفتح الإسلامي حيث تقوم الرابطة الاجتماعية على الدم (القرابة ) ويقر ماركس أن الملكية الجماعية (المشاعية ) شجعت الميول الشيوعية في التفكير ولا ندري هل هي شيوعية ماركس أم شيوعية من قبيل آخر؟
وأهم ما في الفصل المتعلق بالجزائر في هذا الكتاب تبيان الكيفية التي دمرت بها فرنسا الاستعمارية البنى الزراعية والاجتماعية ونمط الإنتاج لدى الشعب الجزائري بنزع الملكيات الأسرية والجماعية وتشجيع الملكيات الفردية وأغلبها للمعمرين وعملائهم وهكذا شتت صلة الفلاح بالأرض وفتت الروابط الأسرية والاجتماعية . وقد علق ماركس على ذلك بأنها لصوصية سافرة مسميا المعمرين ببنات آوى . وهذا الموقف يحسب له في فضح نوايا الاستعمار لكنه في ذات الوقت يطرح تناقض الفكر الماركسي وازدواجية المقولات الماركسية.
إن الجنرال نييل لاحظ في عام 1879أن المجتمع الجزائري قائم على الدم( القرابة ) وعليه وعن طريق تحويل الملكية العقارية إلى ملكية فردية يتم بالضربة نفسها بلوغ الهدف السياسي بتدمير أسس ذلك المجتمع بالذات.
الفصل الأخير هو عبارة عن رسائل ماركس التي كتبها وأرسلها من الجزائر فقد حل بها للاستشفاء في 20 شباط من عام 1882 وغادرها يوم 02 أيار من نفس العام لكن حالته الصحية لم تتحسن كثيرا فقد كان يعاني من التهاب القصبة التنفسية وذات الجنب وقد نصحه أطباؤه ورفاقه بمن فيهم إنجلز بالتعرض لشمس شمال إفريقيا وهوائها المعتدل ونفذ رغبتهم لكن الجو في ذلك العام كان باردا وممطرا ومتلبدا واستثنائيا فأقام على مضض ولم يتحسن كثيرا وقد حرر 16 رسالة إلى ابنتيه لورا وجيني ورفيقه إنجلز يشكو فيها من تفاقم حاله ويعبر عن رغبته في العودة إلى أوروبا التي عاد إليها ليموت بعد ذلك بأشهر قليلة.