.. لمحات من تاريخ السودان جنوباً وشمالاً بعد معاهدة 1972 الآمال، المواثيق، وتجدد المآسي


المنصور جعفر
2021 / 3 / 3 - 16:38     

يقدم هذا النص لمحات سلبية من التاريخ المشترك بين دولتي السودان الجنوبية والشمالية، وبعض الملامح قد تساعد في القضاء على بعض أسباب هذه السلبيات وآثارها. تبيناً لأمور التحرر الوطني والإستعمار الحديث بوقائع سياسات الإستقلال والوحدة الوطنية والتحرر من حالة الإستعمار الداخلي، وعوامل ساهمت في ترسيخها أوفي تفككها.


1.الصراعت الأولى
(أ) في خمسينيات وستينيات القرن العشرين تأججت في السودان الصراعات الطبقية والآيديولوجية حول طبيعة الإستقلال وطبيعة الحكم وصونه من التبعية للإمبريالية وتدخلاتها وتأثيراتها السلبية ضد الوحدة والتنمية، وضد الرؤية الثورية للقضية العربية وطبيعة تحرر إفريقيا من حالة الإستعمار الخارجي ومن حالة الإستعمار الداخلي، وفي خضم ذلك الصراع بدأت عام 1965 حالة جديدة منظومة ومدعومة من أنشطة الدوائر الإمبريالية والرجعية العربية والرجعية الإفريقية تمثلت في إزكاء الإستبداد الطاٍئفي والحرب العنصرية في السودان.

(ب) إنشغلت حكومات الإستبداد الطائفي بإطفاء حكومة ومطالب ثورة أكتوبر 1964 وبإلغاء مظاهر الحداثة والعقلانية السياسية بشعارات إسلامية معلنة إن هدفها إقامة حكم إسلامي. وعرفت تلك الفترة بحكم غاليتها في البرلمان بإسم "الديكتاتورية المدنية" وكانت ذروتها إصدار قرارات بمنع أنشطة الحزب الشيوعي السوداني والشروع في إقامة حكم إسلامي.

(ج) ضد تلك الديكتاتورية قام تنظيم الضباط الأحرار بصيغة تقدمية ذات إنقلاب عسكري بتولي أمور الحكم في حدث ويوم عرف بإسم "ثورة 25 مايو" 1969. ومن فوره حاول الحكم الجديد التخلص من إرث دولة الحرب العنصرية والديكتاتورية المدنية.


2. الإنقسام حول كيفية تحقيق السلام والوحدة:
(أ) في إطار هذا التخلص من حالة الحرب وكيفية تحقيق الوحدة الوطنية إنقسمت سياسات قادة تلك الثورة المدنية الأفكار والعسكرية القيادة في أول شهر لها إذ نشط مدنيوها إلى تحقيق "الوحدة الوطنية" وتبني خط الديموقراطية والتنمية والحكم الذاتي والوحدة في بناء [وتسيير] الدولة، بينما نشط عسكرها المشحون بمزق من الأفكار العروبية إلى محاولة وقف الحرب بأسلوب استمالة القادة الجنوبيين، وتوليتهم بعض المناصب العليا، وكانوا رافضين (((فوضى/هرولة))) المدنيين إلى السلام.

(ب) راد خط السلام بالعمل الجماهيري المدني مع مجموعة من مثقفي الجنوب والشمال البطل المناضل عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السودان ووزير شؤون الجنوب الأستاذ المحامي جوزيف قرنق الذي أستشهد بالإعدام في يوليو 1971 وقد عبر الشيوعيين عن ذلك الخط في بيان عرف بإسم "بيان 9 يونيو 1969".

(ج) في نفس الوقت نشاط المدنيين إلى السلام إتجهت الجهود العسكرية المتحكمة في السلطة السياسية ببعض القوميين العرب إلى عرقلة أنشطة التيار الثوري الوطني الديمقراطي المدني والعسكري الجماهير، بدعوى كسب الجماهير المتوترة من الأنشطة الشيوعية والمتعنصرة ضد وجود جنوبيين كثر في مناصب الدولة أي الجماهير الطائفية والعفوية.

لعل هدف أولئك العسكريين من تكرار وضع تلك العراقيل السياسية الأمنية والبيروقراطية كان منع تراكم وانتظام وتقدم الحركة الثورية وجماهير التيار التقدمي ضد إنفراد وعشواء وفظاظة القيادة العسكرية للحكم.


3. العملية العسكرية للتفاوض وبداية السلام:
(أ) تداخل إتجاه القيادة العسكرية المركزية لعرقلة جهود وتهميش نشاطات التيار الجماهيري مع نشاطات خفية [ذات صلة بالدوائر الامبريالية] شملت (1) إتصالات سرية غير مباشرة بين قائدي الجيشين المتحاربين اللواء جعفر نميري و اللواء جوزيف لاقو، (2) مبادرة من مجلس الكنائس العالمي عبر مجلس الكنائس الإفريقي [لعل قوى الكنيسة كانت تحاول العودة إلى الجنوب ومنع الحركة والثقافة الشيوعية من الإنتشار بين الجنوبيين] (3) اتصالات إثيوبية- يوغندية - كينية- بريطانية لوقف الحرب التي تسببت في انقلاب الجيش على حكم أصدقاءها زعماء الديكتاتورية المدنية/الطائفية، وكذا للتغلغل مستقبلاً في السلطة التقدمية والعروبية في مركز الدولة بعناصر جنوبية رجعية وليبرالية!

(ب) على ضوء إتجاه بيان 9 يونيو 1969 لتقوية السودان ووحدته بإجراءات تقدم وطني مشترك جنوبي - شمالي ضد النزعة الاستعمارية في الشمال وضد النزعة الانفصالية في الجنوب، بداية بتأسيس ديموقراطي لحكم ذاتي، بدأ التفاوض السري في "أديس أبابا" عاصمة إثيوبيا بين جانبي الحرب السودانية.

(ج) اشتركت القوى الامبريالية وبعض دوائرها الصهيونية والمسيحية والطائفية الاسلامية في دعم الإتجاه السوداني إلى السلام، كل بطريقته. لعل ذلك لتعويض خسارة تلك القوى والدوائر حكم أصدقاءها التقليديين في السودان، ومحاولتها العودة إلى تحريك سلمي أقوى لأوضاع البلدين من داخل التوافق البرجوازي الصغير الشمالي والجنوبي وتلبية الحاجات المالية لبناء مشروعات السلام.

(د) في صدد التدخل الأجنبي تجدر الإشارة في نطاق "الحرب الباردة ضد الشيوعية" إلى إن دوائر الإمبريالية كانت تدعم الطرف الشمالي الحاكم لمركز الدولة ونشاط بعض قواه الطائفية والعلمانية ضد الأنشطة الشيوعية وضد النفوذ الإشتراكي العربي المصري، وفي نفس الوقت كانت تدعم بالإعلام والمال والسلاح مقاومة/حرب الطرف الجنوبي ضد الحكم الشمالي.

(هـ) توافق التفاوض بين الطرفين الأقوى في الشمال والجنوب على شعار "وحدة السودان" وعلى تحقيق وجود مستقل استقلالية كبيرة (آنذاك) لإقليم الجنوب في الشؤون الإدارية [تعيين الموظفين وإصدار تراخيص وجمع الأموال وصرفها] لكنها كانت إستقلالية أقل من الفيدرالية، بل دولة واحدة بنظامين اداريين، وحكم رئاسي للمسائل العسكرية والخارجية والمالية الكبرى.

(و) تم ذاك التفاوض برعاية إمبراطور إثيوبيا هيلاسلاسي الذي كان واجهة افريقية لبعض نشاطات الدول الامبريالية، وكان الجانب الشمالي بقيادة القاضي والمحامي ووزير شؤون الجنوب، نائب رئيس الجمهورية أبيل ألير، وهو من جنوب السودان، ومعه اللواء محمد الباقر أحمد، بينما كان الجانب الجنوبي بقيادة مادينق دي قرنق ولورنس وول وول. وقد حفت ذلك التفاوض خبرة القانون الإداري العام البريطاني ومشاكله في إيرلاند وأسكوتلاند كخبرة مسهلة للطرفين تمثلت في حضور الدهقين الأوكسفوردي السير مايكل فووت العمالي الحزب والرأسمالي البريطاني والدولي النشاط .

(ز) في 27 فبراير 1972 أثمر ذلك التفاوض الجمعي الذي استمر أسبوعين عن تعاهد الجانبين على صيغة السلام بالحكم الذاتي، وتبعاً لذلك أصدر الحكم المركزي في الخرطوم "قانون الحكم الذاتي الإقليمي لجنوب السودان"، في 3 مارس 1972 وبه دخلت مواد المعاهدة في بنية قوانين السودان ثم لاحقاً في دستور السودان ذو الإتجاهين.


4. الآمال القديمة والآمال الجديدة وأوهامها:
(أ) كانت تلك المعاهدة بين الحكومة المركزية لدولة السودان والقوى الجنوبية المطالبة بالإستقلال (أو العدالة) تشبه بعض مطالب الإداريين الشباب في مؤتمر المديريات الشمالية أواخر الأربعينيات من حيث تخفيف القبضة المركزية وزيادة الاستقلالية الإدارية والمالية لمناطق السودان، لكنها مثل نتائج ذلك المؤتمر إكتفت بتفويض محدود للسلطات ولم تلغ "سلطة الحاكم العام" الإستعماري.

(ب) واشجت معاهدة "أديس أبابا" بين الجناحين الجنوبي والشمالي لبرجوازية شقي السودان خطوات سبقتها وأخرى تلتها لإعداد نظام سياسي ودستور لسودان موحد يأمل معدوه ومساندوه الألاف بمؤتمرات القوى الاشتراكية ولجان الميثاق في ان يغلقوا بهما المأساة السياسية والدستورية لفشل حكومات السودان، وكان ذلك الأمل طوباوية منهم إذ يستحيل لأي بلد إصلاح أموره السياسية والدستورية بشكل متكامل مستدام دون البداية بإنهاء المظالم الطبقية.


5. التخلص من الآيديولوجيا كسبب التناقض الدستوري وبداية فشل الإتفاقية:
(أ) لوقاية السودان من التدخل الإمبريالي سادت الخطاب الرسمية لغة البعد عن الإيديولوجيا الشيوعية ولمعت في الإعلام شعارات من نوع "الإشتراكية السودانية" "ووحدة الجماهير" و"البعد عن الصراعات الآيديولوجية"، و"الخرطوم ليست موسكو" و"البعد عن الصيغة السوفييتية" ! وبروح وتأثير هذه الشعارات الشعبوية إحتوت كل النصوص التأسيسية لذلك التحول على تناقضات منطقية إقتصادية طبقية وإدارية تسببت في تسميم الأهداف السياسية الإجتماعية لتلك النصوص وتخييب آمال وإنقسام الجماهير التي ساندتها:

(ب) إنعقدت معاهدة 1972 تحت تأثير ثلاثة أوهام سياسية هي:

1. وهم التخلص السريع من أوخم أشكال الصراع الداخلي دون إقتلاع كل جذوره،

2. وهم تحقيق السلام والمجد السياسي في بلد كثير الفئات باتفاق منفرد بين أقوى فئتين،

3. وهم اكتمال نجاح معاهدة السلام بقيام سلطة تشريعية ظنها الحكام شعبية خالية من التأثير الطائفي،


(ج) غذت كثير من الدوائر الإعلامية والأكاديمية والديبلوماسية والاقتصادية الإقليمية والعالمية هذه الصيغ ومجدتها. وتحت تأثير زخم "اللاآيديولوجيا" وصراع ترف فكري برجوازي حار حول إسلامية وعلمانية المجتمع والدولة، ولغط إضافي حول ما سمى مرجعية تشريع القوانين في المستقبل أصدر"مجلس الشعب" في عام 1973 "دستور السودان الدائم" .

(د) جمع ذلك الدستور بشكل تلفيقي خطين فكريين نقيضين هما: خط الحكم المركزي والجمهورية الرئاسية وهو خط مرتبط بالثقافة الدستورية لوحدة السيادة والقيادة الفرنسية والأميركية والتقاليد الفرنسية والأميركية والشرقية والعربية والإفريقية في الرئاسة، وخط اللامركزية الإدارية المرتبط بتاريخ ومستقبل تطور نظم الإدارة العامة والحكومات المحلية في السودان والعالم.

(م) نشداً للشعبية حفلت مواثيق العهد الجديد بتناقضات إيديولوجية يتبنى كل منها ميسماً طبقياً في تشديد أو تخفيف أساليب الفرز الطبقي وربط الوحدة الشعبية بوحدة التنظيم الإقتصادي والسياسي وبنوعين نقيضين من الفاعلية في العلاقات الدولية! وبهذه التناقضات في "ميثاق الثورة" وفي دستور 1973 وفي عموم تحكم البرجوازية الصغيرة في الدولة ونشاطات المجتمع تجهجه تنفيذ "اتفاقية أديس أبابا" رغم النجاح النسبي لتلك الإتفاقية في تهدئة حالة الحرب ووقف نزيفها الدموي ونزيفها المالي.


6. جواهر أديس:
(أ) منذ توقيعها وبداية سريانها حملت معاهدة أديس أبابا بذور موتها رغم انها حقنت كثير من الدماء لفترة عشرة سنوات.

(ب) إستوت معاهدة أديس أبابا على أمرين ضد،
كان الأول المشهور هو فرز مناطق جنوب السودان كإقليم إداري منفرد يضم ثلاثة مديريات وتأسيس حكم ذاتي تشريعي ومالي في ذلك الاقليم، وأن يكون لهيئات التشريع والادارة في الإقليم الحق في اتخاذ قراراته الإدارية التنموية مع حق فيتو لهيئات الجنوبية يسمح لها بوقف أي قرارات مركزية ترفضها.

الأمر الثاني، الضد جاء في نفس اطار فرز السلطات حيث وكدت نفس المعاهدة استمرار توجيه السلطة المركزية لأمور الأمن والدفاع، الخارجية، الجنسية والهجرة، العمل، النقد، وتخطيط التنمية الإقتصادية، ومنهج التربية والتعليم، في داخل الإقليم الجنوبي، وبموجب الدستور الذي أصدر بعد شهور من عقد المعاهدة صار لرئيس الجمهورية حق النقض (الفيتو) ضد أي قرار جنوبي يتعارض مع وحدة السيادة السياسية ونشاطاتها. وبذا صار انفاذ المعاهدة والحكم الذاتي محكوماً عند الإختلاف بمعادلة صفرية.


7. نقطة الضعف:
تمثلت نقطة ضعف معاهدة أديس في قيامها على طرفين من حيث التكوين بينما إعتمد انفاذها على نوايا وإرادة الطرف المسيطر على مركز الدولة وسلطاتها وإمكاناتها.

تمثلت سيطرة مركز الدولة على عمليات إنفاذ المعاهدة في ثلاثة جوانب: الجانب السياسي، والجانب الإقتصادي، والجانب الإعلامي والمعرفي، وذلك بالتفصيل الآتي:

(أ) تمثلت السيطرة السياسية في ان المعاهدة صدرت بقانون من المركز في مارس 1972 وبذلك هيمن المركز على زكوتها السياسية أكثر من الطرف الجنوبي ومن ذلك أن تكوين المجلس التنفيذي العالي لجنوب السودان حق لرئيس الدولة (الشمالي) يفوضه لجنوبي يرشحه المجلس الإقليمي. فبحكم اسبقية تعيين الرئيس وتحكمه النسبي في طبيعة الانتخابات داخل الجنوب صارت له الكلمة العليا في كثير من شؤون المعاهدة والقانون، لدرجة قد تحول منصب رئيس المجلس التنفيذي إلى أزمة في حالة إختلاف الرئيس معه حول فعالية وجوده في المنصب، أو حول أي قرار كبير لا يوافق عليه أحدهما، كما حدث وتكرر منذ أواخر السبعينيات.

صحيح ان تعديل نصوص المعاهدة يتطلب موافقة ثلاثة أرباع "مجلس الشعب القومي" مع موافقة أغلبية ثلثي مواطني إقليم جنوب السودان في استفتاء عام يجري في الإقليم، إلا أن هذه الشروط القانونية القوية اللازمة لتعديل نصوص المعاهدة، لم تمنع منذ البداية حدوث الاختلافات الجنوبية- الشمالية، والجنوبية -الجنوبية، والشمالية- الشمالية التي أدت بأشكال مختلفة إلى موات المعاهدة.

(ب) أما السيطرة الإقتصادية فتمثلت بتبعية ميزانية الإقليم كله لتقدير وقرارات وزارة المالية المركزية، وفي أمر "الثروة القومية" !

(ج) تمثلت السيطرة الإعلامية والمعرفية في ان كل وسائط الإعلام والتعليم كانت خالصة للحكم المركزي في الشمال، وبهذا مٌنع الجنوب من الاسهام في صوغ ذهن مواطنيه، بينما يواصل الإعلام والتعليم المركزي تجاهل نشاطات وصراعات ومطالب الجنوبيين وثقافاتهم. كما حرم الجنوب ككتلة وطنية من الإسهام في وضع أو تنمية مناهج تعليم مواد الفنون والتاريخ والجغرافيا والعلوم والرياضيات التي تدرس في الجنوب.


8..نقض العهود والمواثيق:
إرتبطت معاهدة أديس ميثاقها وقانونها ودستورها بتفويض السلطات المركزية بشكل معين إلى كيان اقليمي يهتم بتنمية الجنوب، لكن بعد إكتشاف النفط قام الحكم المركزي في عام 1979 بنقض عهد وميثاق أديس أبابا بأربعة ضربات بعضها مجرد تصورات وبعضها ذات شكل متوافق مع قانون الحكم الذاتي لكنه نقيض لحساسية التوازن بين كل أو بعض المجموعات الحزبية، والعشائرية والثقافية في الجنوب، وتمثلت هذه الضربات الأربعة التي أخلت بتوازنات الوضع الجنوبي في:

1. إمكان تغيير حدود الإقليم بقرار منفرد، لإخراج منطقة ثروة نفطية منه،

2. تقسيم الجنوب،

3. تغيير رئيس الإقليم الجنوبي عبر نفوذ في حركة/انتخاب،

4. نهب أو تهميش حقوق الإقليم في الثروة النفطية.

لم يكن أي من هذه الأمور قاطعاً متكاملاً لكنه لو كان ايها فعلاً بين شخصين لفسره القانون الجنائي بأنه شروع في القتل. ما بالك ان يتكرر هذا الشروع عدة مرات في فترة سنوات قليلة، جعلت الجنوبيين وبرجوازيتهم في وضع بين الخيبة والتمزق والدفاع، بينما كان البطش والغطش صولجان الحكم المركزي في الشمال ضد الجنوبيين في جنوبهم وضد غالبية الشماليين.


9. القمع والحرب:
(أ) بعد ان قامت ويلات الديكتاتورية على معيشة وحريات الشمال والجنوب بإفاقة كثير من الناس من آمال تحقيق السلام والوهم بنجاحه بمجرد اقامة مجلسين تشريعيين وإصدار وثائق قانونية وسياسية كبرى، وضح فشل كل هذا الكلام وان لا مخرج من أزمات الوضع العام للدولة والمجتمع إلا بمواجهة أخطاءه.

(ب) تبعاً لضرورة حل الأزمات بداية ببعض أسبابها عارض المثقفين في الجنوب والشمال التدخل المركزي في شؤون الجنوب. وإزاء هذه المعارضة العقلانية الهادئة ذات النصائح والبيانات وبعض التظاهرات، إستعمل الحكم المركزي الغلظة السياسية والإعلامية والبطش الأمني ضد أي إنتقاد وضد المنتقدين أنفسهم، ونتيجة لحماقة وعنجهية الحكم وسده إمكانات الإنتقاد والإصلاح النقابية والحزبية والسياسية والإعلامية تحول السخط والتهاوش العسكري المحدود في الجنوب إلى حالة حرب تقضي في كل عام على آلاف الجنود والمدنيين والمعدات وآلاف الأطنان من الذخائروتلتهم بلا عائد بلايين الدولارات، مدمرة معيشة ملايين البؤساء.

(ج) بعد إشتعال الحرب عام 1983 لجأ الحكم المركزي لجمع الأدلجة الإسلامية والتجييش الحربي الشامل للدولة، داخلاً بهم في حرب لا يملك فيها حقاً ولامالاً أو ذكاءاً وإنتهت الجولة الأولى بزوال حكم المشير جعفر نميري ثم إنتهت الجولة الثانية بزوال الحكم الطائفي الذي جاء بعده ثم إنتهت الجولة الثالثة بموات الحكم الإسلامي الذي جاء بعدهما.

(د) تحقق نجاح الجنوبيين التكتيكي والإستراتيجي مع توقيع بروتوكول مشاكوس في 20 يوليو 2002 وعقد إتفاق نيفاشا في 9 يناير 2005 وإعتراف الحكم المركزي بحق الجنوبيين في الحكم الذاتي وحقهم المشاركة في الحكم المركزي، وحقهم في تقرير مصيرهم في إستفتاء مستقل.

(هـ) بعد موقعة ماشاكوس الديبلوماسية انسحبت أو سرحت غالبية القوات الشمالية التي كانت تحارب في جنوب السودان ودخلت قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان إلى عاصمة الجنوب "جوبا" التي كانت محاصرة منذ عام 1983 ومن ثم منذ عام 2005 بدأ تأسيس جديد لوضع جديد أسبغت عليه في البلدين أوهام النصر وشبه الكمال بينما كان في جوهره الإقتصادي السياسي مجرد انتقال برجوازي وإمبريالي بشعوب السودان إلى مرحلة أخرى من التدهور والنزاعات الدموية ذات الأنانية السياسية والتجارية.


10. الهبوط الناعم:
(أ) أدى اتفاق نيفاشا المعلن في 9 يناير 2005 لإحداث دستور توافقي دولي الصياغة أصدر في يونيو عام 2005. وكحالة كل الدساتير السودانية التي ولدت قبله في مشافي البرجوازية سمح هذا الدستور بمشاركة الجنوبيين والشماليين في هيئة التشريع، وفي الحكم المركزي، دون تغيير العلاقة الطبقية الإثنية التي تهمشهم. وبظروف التنازع الوطني والتنازع الحزبي إلخ اتجه ذلك الدستور لخلق "تحول ديموقراطي" و"عقل منظوم لمعالم الحكم القديم" عرف بشعاره الساخر أو المسخرة "الهبوط الناعم" وتضمن هذا التحول المنشود مع أمور أخرى قيام الحكم المركزي والمعارضين له بتحقيق ستة أمور هي:

1. إحترام الحقوق والحريات الفردية والنقابية والحزبية والسياسية،

2. وقف الأعمال العدائية السياسية والاعلامية والحربية والأمنية بين الخصوم،

3. تعديل القوانين المعادية للحريات،

4. تحقيق وتوطيد السلام في مناطق النزاعات،

5. إجراء انتخابات رئاسية،

6. إجراء إستفتاء للجنوبيين حول تقرير مصيرهم...

ولكن

(ب) مثلما إستبد الحكم المركزي (الشمالي) منذ أواخر السبعينيات بأمور الجنوب بمبرر وحدة السياسة والحكم ثم بمبرر الشريعة الإسلامية، فكذلك بنفس مبررات وحدة السلطة الأعلى و"الحاكمية الإسلامية" رفض الحكم المركزي القائم في الألفينات بقيادة المشير عمر البشير ومجموعة "المؤتمر الوطني" تنفيذ البنود الجوهرية للإتفاقات مع الجنوبيين وعطل تنفيذ مواد الدستور المرتبطة بالحريات والسلام والعدالة السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية والجنائية، كما رفض بروح عنصرية تولية أي جنوبي لوزارة المالية أو لوزارة النفط [والأخيرة حتى اسبوعين قبل إعلان استقلال الجنوب] وكانتا وزارتين مهمتين لتحقيق المساواة في توزيع الموارد داخل الدولة السودانية،

(ج) من ثم إتخذ الجنوبيين باستفتاء تقرير المصير في يناير 2011 قرار الإستقلال عن دولة السودان بغالبية حوالى 99% من جملة تعداد المصوتين. وقبلت كل القوى السياسية الشمالية هذا القرار وهنأت قادة الجنوب عليه قبل وبعد تنفيذه في 9 يوليو 2011.


11. تكرار الفشل:
لم تتغير كثيراً حالة الدولتين بعد إستقلال الجنوب وتحوله دولة مستقلة حيث بقى تدهور مستويات الاقتصاد والمعيشة والأمن وضعف تماسك المجتمع والحكومة في الدولتين وذلك بحكم:

1. نقص إستقلال الدولتين ومصالحهما عن السيطرة التجارية الداخلية وعن السيطرة التجارية الامبريالية،

2. خضوع البلدين لشروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومن ثم زيادة ضعف التنمية، وزيادة ضعف هيكل وعلاقات الإنتاج، وزيادة الاستوراد، وتوالد الأعمال الطفيلية وكل أنواع البؤس، وزيادة كل أنواع التفاوت،

3. سيطرة تحالف كبراء الدولة وتماسيح السوق على معيشة الناس في كل بلد من البلدين، مع انحصار جهد غالبية أهل المدن في أعمال مضنية وفي تخفيض الجوع، وزيادة البؤس في الأرياف وحالات النزوح، ضمن زيادتين متداخلتين: زيادة التفاوت الطبقي بين أقلية تزيد ثراء ورغداً وبطشاً، وغالبية تفقد كل يوم كرامتها، وزيادة التفاوت بين مركز تزيد سيطرته على كل شيء وأقاليم تقدم كل شيء وتحصل على فتات،

4. تبعية سياسة الحكومتين الإقتصادية والأمنية لمصالح الفئات الأقوى في السوق ولنهج لتمويل الخارجي رغم ثراء البلدين الداخلي بالموارد، وتوفر امكانات تنمية متوازنة،

5. إشتراك الدولتين النسبي في إستخراج ونقل وتصدير الجزء الأكبر من نفط الجنوب،

6. التنافر بين تعدد تنوعات المجتمع والسياسة وإنفرادية الحكم الرئاسي،

7. تشابه تباينات "المركز والأقاليم"،

8. التباين بين الفئات المتحكمة والفئات المحكومة [غالباً تناغم العناصر السياسية لأقوى شرائح البرجوازية الصغيرة (عسكريين + تكنوقراط) مع أقوى شرائح البرجوازية الكبيرة (غالباً تماسيح التجارة الخارجية) مع بعض زعماء العشائر في الأرياف]

9. "تأنيث الفقر" + ضعف الوجود النسائي في أعلى بنية الدولة (إنخفاض عدد النساء في قيادة النشاط الأمني، وفي النشاط التجاري، وفي هيئات التحرير الاعلامي، وفي هيئات قيادة الأحزاب، وفي هيئات الديبلوماسية، والقضاء، والحكم)،

10. النزاعات الداخلية المسلحة في الدولتين، وتشابه الصيغة العسكرية للتحكم السياسي،

11. النزعة الحربية بين الدولتين ضد بعضهما، وداخلياً ضد بعض المناطق وعشائرها، وظاهرة الدعم الخارجي من واحدة من دول الجيران لأحد حكومتي الدولتين أو من إحداهما لبعض الثائرين ضد الحكومة الأخرى،

12. وحدة السياسة التعليمية والإعلامية التي تشكل ذهنية التفكير الجزئي، الخالي من التنوع والتفاعل، ومن الجذور والمستقبل، ومن الحساب الإجتماعي لأصول وتأثيرات السياسة والإقتصاد والعلاقات الدولية وتغييراتها.

13.. تأثير الضغوط والإغراءات والتدخلات الامبريالية المباشرة وغير المباشرة على بعض القوى الحزبية والإجتماعية والمدنية في البلدين،

14. تكرار الصيغ الفكرية والتحالفات والسياسات الفاشلة + تجنب الإنحياز إلى الأفكار والسياسات الإشتراكية + تكرار زلف الوعود الفارغة والتحجج بأعذار واهية وتبريرات مضللة + تكرار نقض المواثيق والعهود في حالة ملخصها تبديل أصفار قديمة بأصفار جديدة.


12 . الخلاصة:
يرتبط ضعف التماسك بين المجتمع والدولة والقصور في الوحدة الوطنية وفشل اتفاقات السلام والمواثيق الداخلية بتناقضات طبقية وإدارية في المجتمعات وبتحكم إمبريالي في شؤون الدولة الإقتصادية والسياسية، ومن ثم تموت الأعمال التي تحاول تجاوز هذه الحقيقة أو كما تقول الحكمة الشائعة: ((لايستقيم الظل والعود أعوج)).


13. ملامح الحل:
يجب أن يرتبط تعزيز أمور الوحدة الوطنية بمنظومة ديموقراطية متكاملة في المجالات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والثقافية وهي منطومة تسمى "الديمقراطية الشعبية" وتختلف عن "الديموقراطية الليبرالية" القائمة على الأنانية التجارية وتحكم تماسيح السوق في معيشة الناس، بكونها منظومة تربط السيادة والوحدة الوطنية بالسيادة الشعبية على الإقتصاد والدولة لا بالإحتكارات والتمييزات الإثنوإقتصادية.

. ..........................................................■ ■......................................................
1
peacemaker.un.org/sites/peacemaker.un.org/files/SD_720312_Addis_Ababa_Agreement_on_the_Problem_of_South_Sudan.pdf

2
britannica.com/place/Sudan/The-Addis-Ababa-Agreement

3.
الاتصالات، الشخصيات والمفاوضات،
moqatel.com/openshare/Behoth/Siasia2/Sudan/SEC04.DOC_cvt.htm

4.
en.m.wikipedia.org/wiki/Dingle_Foot

5.
rienner.com/uploads/55bfbb90085b6.pdf

reliefweb.int/sites/reliefweb.int/files/resources/Peace_agreements_in_Africa_Fina_Version.pdf

wsws.org/en/articles/2017/07/26/suda-j26.html

ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC1122271/

e-ir.info/pdf/47570

marxist.com/what-interests-lie-behind-the-sudan-south-sudan-conflict.htm

carnegieendowment.org/2012/05/16/sudan-from-conflict-to-conflict-pub-48140

dspace.iua.edu.sd/bitstream/123456789/2790/1/%d9%85%d9%84%d8%ad%d9%82%20%d8%b1%d9%82%d9%85%209.pdf

researchgate.net/profile/Indra-Soysa/publication/235967567_Does_the_IMF_cause_civil_war_A_comment/links/00463514f1c05d0374000000/Does-the-IMF-cause-civil-war-A-comment.pdf

cadtm.org/New-capitalist-domination-and

Michael Mousseau
- Capitalist Development and Civil War. International Studies Quarterly, 2012
- Coming to Terms with the Capitalist Peace (2010)

cmi.no/publications/file/3645-sudan-peace-agreements.pdf

marxist.com/congo-conflict-capitalism091098.htm

elibrary.imf.org/view/IMF071/05359-9781589062528/05359-9781589062528/ch04.xml?re-dir-ect=true

m.ahewar.org/s.asp?aid=394652&r=0

بلد الألف إتفاقية سلام، مدونات قناة الجزيرة.
6.
sudaneseonline.com/earticle2005/mar11-55341.html

mafhoum.com/press7/212P2.htm