من شروط بناء الإنسان


حسن مدن
2021 / 3 / 3 - 13:40     

عند تعيينه وزيراً للثقافة، قال الرئيس جمال عبد الناصر للأديب والناقد ثروت عكاشة: «وتذكّر أن بناء المصانع أسهل.. بناء الإنسان صعب جداً»، ولكن يبقى السؤال: "وكيف يبنى الإنسان"؟ .
سؤال بسيط ومعقد في آن؛ بل إنه محور كل شيء في الحياة، أليست الغاية في المجتمعات، السوية منها على الأقل، هي بناء الإنسان؟
فلن يستوي بناء المجتمع إن لم يتم بناء الأفراد، الذين يشكلون في مجموعهم المجتمع المعني، ولن يستوي بالمقابل بناء الإنسان إن لم تحدد التدابير اللازمة لذلك، والأهم أن تكون هذه التدابير موجهة نحو الغايات السامية التي يتعين أن يكون هذا الإنسان محورها.
بشكل عفوي أجبتُ بالتالي: بالتعليم، والثقافة، والحياة الحرة الكريمة. ولا أعلم إن كان جوابي هذا كافياً، أو يغطي جوانب من الإجابة المطلوبة عما وصفناه بالسؤال السهل والمعقد في الآن ذاته.
السؤال سهل في ظاهره، فما أكثر القيم النبيلة التي تخطر على بالنا، حين نسمع سؤالاً مثل هذا، لكن دون ذلك صعوبات لا تحصى، هي نفسها التي شغلت الفلاسفة والمفكرين، لا في عصرنا الراهن فقط، وإنما عبر العصور.
في مطلق الأحوال لا يمكن بناء الإنسان بدون الشروط الثلاثة المذكورة: التعليم، الثقافة، الحياة الحرة الكريمة. فالإنسان لا يبني إذا ساد الجهل، وتفشت الأمية، وغابت المدارس والمعاهد والجامعات، وهذا ما تدل عليه تجارب كل الأمم، بمن فيها نحن العرب، ولم يعد التعليم امتيازاً للنخب، وإنما هو حق للجميع دون استثناء، تكفله السنن والشرائع الدولية، ويزداد تقدّم الشعوب كلما علا مستوى التعليم وجودته، وكان القائمون عليه من أهل الاختصاص فعلاً، وتتدهور حين يتدهور مستوى التعليم وتغيب جودته، ويعهد أمره لمن هم ليسوا أهلاً للمهمة.
والتعليم والثقافة متلازمان. ما أكثر المواهب التي طمرت وضاعت لأن أصحابها لم يتوفر لهم التعليم الحديث، وحين يسود التعليم تتفتح المواهب وتزدهر ويشيع الوعي الثقافي، وترّشد الذائقة وتعلو، ويُحدّ من سطوة الخرافات والخزعبلات، وكما في التعليم، لن تنهض الثقافة إلا بتولية من أهم أهل لها، على رأس الوزارات والهيئات المعنية بها، الذين يُدركون أن التنمية الثقافية لا تقوم إلا بوجود بناها التحتية، الأشبه بالصناعة الثقيلة، من مكتبات ومسارح ومعاهد متخصصة وغيرها.
ومع أن التعليم والثقافة طريقان لا بد منهما لتأمين الحياة الحرة الكريمة للناس، لكن لهذه الأخيرة شروطاً أخرى، بدونها لن يتحقق بناء الإنسان المرجوّ، والحياة الحرة الكريمة هي شرط وغاية في الآن ذاته، بمعنى أن بناء الإنسان لن يتم بالصورة المنشودة إن لم تتحقق له الحياة الكريمة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن بناء الإنسان غايته تحقيق الحياة الكريمة له.
التعليم وحده، على سبيل المثال، حتى لو كان جيداً، لن يحقق الهدف منه بشكل تلقائي، إن لم يجد خريجو الجامعات والمعاهد فرصاً للعمل، وظلوا عاطلين لسنوات تمتد طويلاً، أو مضطرين للعمل في مجالات أبعد ما تكون عن التخصصات التي أنفقوا أحلى سنوات شبابهم في التحصل على المعارف فيها، أو اللجوء للهجرة والتغرب عن أوطانهم وأهاليهم.
يعنينا الوضع في بلداننا العربية قبل غيرها، فما هو متوفر من معطيات يشير إلى أن نسب البطالة في بعض بلداننا مخيفة فعلاً، في صفوف الشباب بالمقام الأول، وهذا ما تقدّمه إحصائيات ودراسات الجهات الدولية والإقليمية بسوق العمل، وحتى مع غياب الشفافية المطلوبة في الكثير من الحالات، حيث لا تقدّم الأرقام الفعلية للبطالة، فإن ما هو معلن منها يظل مخيفاً.
وأدت النكبات التي توالت على بعض البلدان العربية في العقد الماضي، حيث شهدت حروباً أهلية طاحنة وتدخلات خارجية، إلى تفاقم الوضع المعيشي، جراء توقف عجلة النمو وشلل الحياة الاقتصادية، إلى بلوغ البطالة نسباً غير مسبوقة في بلدان مثل سوريا ولبنان وليبيا واليمن وحتى العراق، وتكفي الإشارة إلى الارتفاع المهول في نسب الهجرة من هذه البلدان إلى الخارج، بحثاً عن حياة أفضل. وكمثال فقط، شاهدت بالأمس تقريراً مصوراً من لبنان، عما نجم عن الانفجار المروع في مرفأ بيروت، قبل شهور، من حمل للشبان على الهجرة أو التفكير فيها.
أظهرت جائحة «كورونا» بجلاء ما كان قائماً بالفعل وهو عجز منظومة الرعاية الصحية في الكثير من بلداننا العربية عن تقديم المطلوب منها في تعميم الخدمات الطبية بشكل عادل على المواطنين، وظهر هذا العجز في غياب التدابير اللازمة لتتبع انتشار الفيروس عبر الفحوص أولاً، وتالياً في تقديم الرعاية الضرورية للمصابين، وثالثاً في توفير اللقاحات.
الحق في العمل والحق في الرعاية الصحية ليسا سوى وجهين من أوجه توفير الحياة الكريمة للناس، التي تحقق ما ندعوه ببناء الإنسان، وهما يأتيان في المقدمة بالتأكيد، لكن هناك حقوقاً أخرى ذات صلة، لا يمكن حصرها هنا، فمنظومة الحقوق شاملة ومترابطة الأوجه والأبعاد، وتشكّل حرية التعبير مرتكزاً أساسياً فيها، فعن أي حياة كريمة يدور الحديث حين يسود نهج تكميم الأفواه ومصادرة حرية التعبير والتضييق على مؤسسات المجتمع المدني أو تغييب دورها قسراً؟