سيكولوجية العبيد


عبدالله محمد ابو شحاتة
2021 / 3 / 1 - 16:07     

لقد اعتُبرت عبودية الإنسان للإنسان حقاً مشروعاً لقرون عديدة امتدت لتشمل معظم تاريخ الحضارة الإنسانية، هذا الحق الذي أقرته الأديان الإبراهيمية و الفلسفات المنحطة كالأفلاطونية ، و الذي هدمه روسو في مقدمة عمله الرئيس "العقد الاجتماعي" مبيناً لا معقوليته من كافة الجهات، كما واجهه أيضاً جيرمي بنثام في نظريته حول النفعية مبيناً تساوي حق البشر جميعاً في الحصول على السعادة، بل إن نظريته امتدت لتشمل حتى الحيوان. ولقد استماتت المؤسسات الدينية واللاهوتية في محاربة تلك الأفكار والإبقاء على العبودية قائمة، وليس هذا الموقف بمستغرب على تلك المؤسسات التي يتحدد دورها التاريخي في محاربة أي تقدمية وتدعيم كل رجعية ودعوة تقهقرية. إن مهمتها لتتحدد في خدمة الدافعية الغريزية وإبقاء الإنسان أقرب للحيوان الغريزي، أقرب لحيوان قطيعي بدائي منه إلى فرد مُتفرد حر لديه ملكة معرفة فعالة. ولكن لحتمية سير التاريخ التقدمية للأمام فتلك المؤسسات تخسر دائماً، وقد خسرت الكنيسة حربها للإبقاء على العبودية كما خسرها الأزهر بعدما استمات في الدفاع عن العبودية في عهد الخديوية. ولكن علينا أن نعي كون الحرب ضد العبودية لم تنتهي بعد. فلا تظن أن العبودية هي فقط أن يباع الناس في الأسواق !. ربما كان هذا أقصى أشكال العبودية، لكن تبقى للعبودية صوراً واشكالاً عديدة لا تزال حتى وقتنا هذا تُعتبر كحقوق ويحميها الرجعيين بكل قوتهم. فرض معتقدات وعادات القطيع على المخالفين بالقوة، نمط العمل الرأسمالي الذي يعطي لنفسه حق التحكم حتى في مظهر العامل والموظف الشخصي، الطاعة العمياء لكل ذي سلطة ( الآباء، الكهنة ،العجائز، ذوي المناصب....). كل تلك التجليات للعبودية لا تزال قائمة خاصة في المجتمعات الأكثر انحطاطاً. تلك المهازل التي لا تختلف عن عبودية الماضي إلا من حيث الدرجة، أما الجوهر فيظل واحداً: أن تبقى خيارات الإنسان الشخصية مُقيدة، وأن يغيب احترام الانسان لذاته فيعيش بسيكولوجية العبيد. تلك السيكولوجية التي تجعل الانسان لا يرى نفسه سوى في مرآة العبودية، فلو لم يكن عبداً للبشر فعليه أن يكون عبداً لله، مرة أخرى نعود لحق العبودية، ولكن تلك المرة " حق العبودية لله". يبدو هنا أن هذا الحق منطقياً أكثر، فلو كان حق العبودية للبشر غير قائم على أي مبرر كما وضح روسو فيبدو أن حق العبودية لله قائم على مبرر عقلاني، ألا وهو الخلق، فما دام الله هو خالق الإنسان إذاً فإن من حقه أن يستعبد الإنسان ويفعل به ما يشاء، وعلى الإنسان أن يطيع الله دون نقاش أو تفكير أو تعقل. وبما أننا لا نتواصل مع الله مباشرة فحق العبودية لله سينتقل بالطبع للمتحدثين باسم الله من أصحاب الكهنوت، وبالتالي للحكام الفاشيين الذين يخدمونهم، ومن هنا يتحول حق العبودية لله لحق العبودية لرجل الدين ومن ثم الفاشي، وبهذا نعود لعبودية البشر مرة أخرى، ولا أظن أن علينا هاهنا أن نحارب هذا الانتقال التعسفي لحق العبودية الإلهي، بل علينا أن نحارب حق العبودية الإلهي نفسه. لنتخيل على سبيل المثال أننا كبشر استطعنا صناعة روبوتات واعية مدركة لذواتها وذات استقلالية، لا أعتقد حينها أننا نملك الحق في استعبادها والتحكم بها كيفما نشاء وفعل بها ما نريد، لا أرى لهذا أي سند عقلاني، فكوننا نحن صناعها لا يعطيني هذا الحق التعسفي، بل سيكون علينا وقتها أن نؤسس لعلاقة تبادلية معها قائمة على المنفعة العامة، علاقة لا يُستعبد فيها أحد وتقوم على مسؤولية متبادلة بيننا وبينهم . وعلى هذا المنوال أعتقد أن على المؤمن أن يؤسس لعلاقة جديدة مع إلهه، علاقة قائمة على الحرية والمسؤولية المتبادلة لا علاقة قائمة على العبودية والطاعة التعسفية بدون مبرر أو فهم، علاقة يحترم فيها الإنسان ذاته. لا علاقة قائمة على إذلال متعمد للذات وتملق بليد لله وكأنه أحد أباطرة الرومان أو ملوك الفرس والذي ينتظر المدح والثناء والتعظيم. كيف يمكن لإنسان يحترم ذاته أن يقف في كنيسة أو مسجد ليبكي ويولول كالأطفال لينول رضى الله! ثم لعله يُقبل أيدي الكُهان طمعاً في شفاعتهم ووساطتهم. فهل يملك حقاً هذا الإنسان القوة التي تمكنه من أن يكون حراً ؟ هل يملك من احترام الذات القدر الكافي الذي يمكنه من قهر كل حاكم فاشي يتسلط عليه ويسلبه حقوقه ! . إني شخصياً لا أرى في هذا الإنسان سوى عبداً، وعبداً للبشر قبل أن يكون عبداً لله. أحرى بمن يؤمن بالله أن يعتبر إيمانه علاقة عقلانية لا علاقة عبودية وإذعان، تلك السيكولوجية الجديدة للمؤمن ستخلق منه حتماً إنساناً أكثر منفرداً أكثر وحراً أكثر، وهو بالطبع ما سترفضه ذات المؤسسات الرجعية التي تنظر بعين الريبة لكل حرية ومساواة وتقدمية، تلك المؤسسات الدينية الرجعية التي نظرت بعين الريبة لأبيقور حين استضاف العبيد والنساء في حديقته الخلفية ليعلمهم الفلسفة، أبيقور الذي لم ينظر للبشر على ما يبدو كأفلاطون الذي كان يحمد الآلهة لأنها لم تخلقه عبداً أو امرأة، كما نظرت ذات المؤسسات الرجعية بعين الريبة لروسو وبنثام وماركس وكل من حمل نظرة تحررية، إنها لا تريد في الإنسان سوى عبداً خاضعاً لا يحترم ذاته ولا إنسانيته، بل ويتنكر لأصله كحيوان ويرى فيه مسبة، فينظر للداروينية وكأنها إهانة وتحقيراً لذاته. (فلا يمكن يكون أصله حيواناً، لابد وأن أصله عبداً) هكذا هو يفكر.